ما أوسع المسافة، في الزمان والمكان، وما أكثر المفارقات في النص الذي صدر عن لقاء اسطنبول، وقد انتظره اللبنانيون بكثير من التمني ثم زادت نتائجه من مخاوفهم على بلدهم الصغير، أقله في الشق المعلن منها…
فأما المكان فهو قصر شيراغان في اسطنبول التي لم تعد عاصمة الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف بل صارت مدينة التاريخ في جمهورية تركيا العلمانية غربية التوجّه والطموح حتى لو حكمها حزب إسلامي عصري ومنفتح على حقائق العصر وأخطرها: الإمبراطورية الأميركية…
وأما موضوع اللقاء فهو لبنان في هذه اللحظة حيث يعلّق مصيره على إمكان (أو استحالة) انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وفق الأصول الدستورية…
الداعي إلى اللقاء: وزيرة الخارجية الأميركية كوندليسا رايس، التي يتذكّر لها اللبنانيون مواقفها المتعاطفة مع طموحهم إلى الحرية والسلام والديموقراطية والتقدم والسلامة العامة… وأبرزها موقفها الذي لا ينسى والمتمثل في إطالة أمد الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام الماضي، برغم اعتراض القيادة الإسرائيلية…
الحوار، إذن، باللغة الإنكليزية، مع أن أكثرية الحضور عرب ، بينهم الأمين العام لجامعة الدول العربية، وأربعة من وزراء الخارجية بينهم اثنان لدولتين كبيرتين (مصر والسعودية) واثنان أحدهما لدولة صغيرة (الأردن) والثاني لدولة أصغر (الإمارات)… مع شاهد عدل هو وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير الذي لا يكاد اللبنانيون يطمئنون إلى واحدة من مبادراته الكثيرة حتى ينسفها ببعض تصريحاته الغزيرة، ليعود فيطرح مبادرة تنقض الأولى ولا تكملها!
ولأن الوقت المخصص لحل الأزمة في لبنان ضيّق، قياساً إلى ما تستدعيه الأزمة الأميركية في العراق.
ولأن السيدة الوزيرة كانت تتعجّل الانصراف لكي تعطي بعض الوقت لحل الأزمة الإسرائيلية في فلسطين.
ولأن القرار لصاحب القرار، والفشل يتيم، وتوزيع المسؤوليات لا يفيد في تبرير تعذر النجاح، ولأن لا وقت للنقاش، والمطلوب هو توجيه الإنذار وبلغة صارمة، فقد اقتصر البيان المقتضب الصادر عن الاجتماع السباعي على بعض الأوامر والنواهي ومنها:
التدخل أو الترهيب في العملية الانتخابية في لبنان أمر غير مقبول ..
وبالمقابل فإن الدعم الدولي للبنان وشعبه قوي وغير قابل للتفاوض .
لم ينكر الأميركيون أنهم هم من صاغوا البيان، وهم من قدّموه إلى المشاركين العرب، الذين وافقوا عليه، بحسب دبلوماسيين كانوا قريبين من المؤتمر … وإن كان بعض العرب يقدّم العذر صريحاً: دُعينا للتشاور فقلنا رأينا! والمسؤولية على الداعي!
أما المروّج للمؤتمر وللبيان الإنذار، وزير الخارجية الفرنسي فقد وجد ما يقوله في تبرير لقائه وزير الخارجية السوري، بما لا يتنافى مع روح النص الصادر عن اللقاء السباعي…
فبرنار كوشنير هو الآخر وزير خارجية لإمبراطورية عظمى، سابقاً. ووجوده في عاصمة إمبراطورية سابقة يثير فيه الكثير من الأشجان، خصوصاً وهو يشغل الآن وظيفة خبير في الجهاز الضخم للإمبراطورية الكونية التي لا سابق لها بامتداد نفوذها في التاريخ: الولايات المتحدة الأميركية.
بينما يقف في الظل وزير خارجية لإمبراطورية أخرى سابقة، إيران، التي تعتبر نفسها من الشرق حتى وفيها من ينسب نفسه إلى الآريين .
كثير من الإمبراطوريات السابقة ازدحمت في قصر شيراغان في العاصمة التي لم تعد عاصمة وما زالت تمتد فتجمع بين قارتي آسيا وأوروبا، والتي كان العديد من الدول الحاضرة هذا المؤتمر الاستثنائي لجوار العراق تحت الاحتلال الأميركي، من رعاياها، تسمي لهم ولاتها في عواصمهم، ويأتي أعيانها ووجهاؤها ليقدموا الطاعة لسلطان الزمان!
… وهذا اللبنان العجيب كان ذات يوم بعضاً من ولايات السلطنة، ثم أُجبرت السلطنة، عشية سقوطها، وبضغوط لا تحتمل من الدول الغربية الكبرى وذات النفوذ آنذاك، وبينها الإمبراطورية الفرنسية، على أن تخضع فتقبل لجَبَله وضعاً خاصاً تحت عنوان المتصرفية التي ليست ولاية عثمانية تماماً، لكن السلطان هو من يعيّن المتصرف من بين رعاياه بشرط أن يكون مسيحياً …
ها هي الإمبراطورية الأميركية الآن تفرض نفوذها بل قراراتها على الإمبراطوريات السابقة جميعاً، فكيف يستغرب البعض أو يستنكر أن تقرّر مصير هذا البلد الصغير الذي أقام كيانه السياسي الاحتلال الفرنسي بعد سقوط السلطنة ، وبعدما اتفقت الدول في عصبة الأمم أن تضم إلى متصرفية جبل لبنان ما كان يسمى الأقضية الأربعة والتي كانت أزمة بسبب إنكار لبنانيتها عليها، وصارت أزمة أخطر مع اندفاعها في لبننة ذاتها وشعاراتها إلى ما يتجاوز شريكها المسيحي ؟!
والإمبراطورية الأميركية لا تعترف بالطوائف، وهذا مصدر إضافي لأزمة جديدة…
وبالتالي فهي تهتم بالشروط السياسية للحكم المطلوب قيامه أكثر من اهتمامها بحقوق الطوائف… وخصوصاً أن الطوائف قد صيّرها الصراع السياسي دولاً والدول مصالح، والمصالح متضاربة، ولا بد من صفقة. والوقت ضيق، والأطراف عديدون، ولا وسيط صالحاً، حتى هذه اللحظة.
بعد ساعات من انطفاء الأنوار الاحتفالية في قصر شيراغان في اسطنبول، كان الرئيس الفرنسي الجديد نيقولا ساركوزي المتعجل عقد الصفقات يوفد إلى دمشق من يسمع مطالبها قبل أن يذهب إلى لقائه الرسمي الأول مع الرئيس الأميركي جورج بوش، لعله ينجح في عقد صفقة جديدة بعنوان لبناني بين أطرافها دمشق وباريس، ولا يغيب عنها التركي الذي سبقه إلى واشنطن بعنوان عراقي ، ومطمحه غربي تحت مسمى الاتحاد الأوروبي…
في الصفقة شركاء كثيرون… لكن اللبناني الذي كان ملك الصفقات هو الآن موضوعها ، بعدما أفقدته حروبه موقعه الممتاز!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان