هموم الخليج ثقيلة الآن، وأثقلها ذهبه الأسود ومعه الغاز.
و»عاصفة الصحراء« الأميركية مستمرة، ولأغراض بحت أميركية، تهب برياحها الحارقة على هذه الدول الصغيرة والمستضعفة فلا تترك لها مجالاً للراحة والاستمتاع بالثروة في ظل الأمان.
لقد فُرض على دول الخليج أن تتعسكر، لكأنها ذاهبة إلى »الحرب« وليست عائدة منها بعد »تحرير الكويت« ومحاصرة العراق بالجوع والعوز والتقسيم العرقي وصدام حسين.
بل ان »عاصفة الصحراء« في طورها الأميركي الجديد الذي أتاح دخول إسرائيل ولو من الباب الخلفي، مكلفة أكثر، سياسيù وأمنيù واقتصاديù على وجه الخصوص.
لقد اهتز الاستقرار النفسي، وتهاوى الاطمئنان »الذهبي« إلى المستقبل، ولم تنفع الحماية الأجنبية إلا في استثارة كوابيس الخوف من »المجهول« الذي تتعاظم أشباحه وتتوالد يوميù لتبرير القواعد العسكرية والأساطيل »المقيمة« منعù لاجتياح جديد؟!!
لكي يطمئن الأميركيون يجب أن يقلق أهل الخليج، ويجب أن يخيّم عليهم الحذر وأن يحكم علاقاتهم بالآخرين، كل الآخرين، الشك والريبة وسوء الظن الذي هو من حسن الفِطَن.
الكل خائف من ذلك »المجهول« الذي يمكن أن تسبغ عليه أسماء كثيرة وأشكال متنوعة ومصادر متعددة بحسب ما يتناسب مع مصالح »الحامي الأميركي« ويبرّر دوره ويعزّز الاحتياج إليه، وبالتالي استئثاره بثروات البلاد وكأنه الوارث الشرعي الوحيد لها.
في الغالب الأعم يتبدى »المجهول« في صورة إيران وشيوخها المتطرفين من دعاة تصدير أو تعميم الثورة الإسلامية..
وإذا كانت مسألة الجزر، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأم موسى، مصدرù جديù للقلق في دولة الامارات، فلا بأس من أن تنسب الاضطرابات في البحرين إلى التدخل الإيراني، مع أن الثائرين الفقراء والمسحوقين في البحرين هم هم مَن رفض في الاستفتاء المشهور أن يلتحقوا بإيران و»بايعوا« حكّامهم الحاليين من آل خليفة،
.. ولا بأس أيضù من تضخيم »الأغراض الخفية« لزيارة وزير الدفاع الإيراني إلى قطر، وإشاعة الحديث عن عرض معاهدة دفاعية رفضها القطريون، وهو حدث كاذب بأصله وبتفاصيله، لكن تكذيبه محرج والصمت عنه يغذي »التآمر« على الحكم في الدوحة!
في حالات اخرى يصور »المجهول« وكأنه يزحف من عند الجيران الطامعين، وفي لحظة معلومة يجري الترويج لاحتمال وجود هذا »المجهول« في »الداخل«، بل ربما في »البيت« ذاته… فالسلطة قد تجعل الاخوة اعداء، وقد تغري الأقربين بخلع اولياء نعمتهم ولو عن طريق الاستعانة بالاجنبي، »فملوك الطوائف« ليسوا مجرد حكايات في التاريخ، ولا ينحصر وجودهم في الاندلس،
وأخيرù هناك »صراع الاجيال« وهو موضوع ممتاز للاستثمار المجزي.
ضمن هذا المناخ المرضي سقطت او تكاد تسقط الحدود بين الحلال والحرام، وسحبت من التداول كلمات قديمة كانت تظلل بفيئها تلك الاقطار المهددة في عروبتها، وتمنح حكامها الأثرياء شرعية مزكاة بالتزامهم موجبات انتمائها القومي.
ذهبت غزوة صدام حسين بمفاهيم الوحدة او التضامن العربي، وأسقطت مواثيق الدفاع العربي المشترك والوحدة الاقتصادية العربية والقمة العربية، وهمشت الجامعة العربية فجعلتها حائط مبكى للفقراء فقط (كلبنان)..
ثم جاءت المعاهدات والاتفاقات العربية مع اسرائيل، وبالذات تلك التي وقعتها القيادة الفلسطينية، تسقط عنها صورة العدو، وتفتح باب النقاش الجدي عن مستقبل »الشرق الاوسط الجديد« في ظل السلام الاسرائيلي، تحت المظلة الاميركية، ومواقع هذه الدول الصغيرة والمهددة دائمù فيه.
* * *
أين موقع الاجتياح الاسرائيلي للبنان في الفترة بين 11 و27 نيسان الماضي؟!
لا شك في ان الصمود اللبناني قد فعل الكثير مما يتجاوز إثارة الاعجاب: لقد هز السياق المفترض للتطورات، وأعاد الى السطح حقائق كانت طمست، وشكك أقله في قدرة اسرائيل على الفرض، حتى لو ساندتها الادارة الاميركية بإمكاناتها غير المحدودة.
ان صورة لبنان، الآن، مختلفة جدù عن صورته قبل الاجتياح، بدولته وحكمها وشعبه بكل فولكولور الانقسامات والحساسيات الطائفية والمذهبية فيه،
ثم ان صورة »حزب الله« قد تبدّت على غير ما كانت تقدم الى اولئك المستضعفين المطموع في ثرواتهم والمهددين باستمرار: »حزب الله« حركة مقاومة، الآن، فعالة وقادرة وليست تنظيمù ايرانيù او اطارù للتطرف الشيعي الذي يوصم دائمù بالارهاب.
كذلك فإن فرنسا التي أنهكها الصد الاميركي عن خيرات الخليج وعن لعب اي دور سياسي جدي هناك، قد استطاعت دخول المسرح متكئة على الصمود اللبناني والتشجيع السوري والخطأ الاسرائيلي والصلف الاميركي،
وأخيرù فإن الادارة المتميزة للصراع كما تولتها القيادة السورية قد كشفت ان السياسة الاميركية ليست إرادة إلهية او قدرù لا رادّ له،
ولا يخفي الخليجيون عمومù، ومن ضمنهم العديد من المسؤولين، اعجابهم الفائق بحنكة الرئيس السوري حافظ الأسد وشجاعته، متخذين من حكاية الموعد المرجأ مع وزير الخارجية الاميركية وارن كريستوفر مثلاً خارقù في الحفاظ على الكرامة ومواجهة التحدي بالتحدي المحسوب،
***
على هذا فقد يلقى الرئيس رفيق الحريري في زيارته لدولة الامارات العربية المتحدة، اليوم، ترحيبù اكثر حرارة من الذي لقيه في السابق، خصوصù انهم هناك تابعوا بالتقدير حركته النشطة وديناميته اللافتة في طرح موقف لبنان وإسماع صوته للمحافل العربية والدولية وتوكيد وحدته في الصمود وهو يواجه المذابح ومحاولات إفراغ الجنوب وتدمير بنيته التحتية.
لقد سبق لرئيس دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان أن قام بأكثر من مبادرة من اجل لبنان، وحاول دائمù المساعدة على وقف الحرب ثم على اعادة بناء ما هدمته فيه، وعلى تعزيز وحدته التي هي قاعدة صموده.
ويقول العارفون بطباع الشيخ زايد وحميته انه، مع تقديره للرئيس الفرنسي جاك شيراك ومبادرته، لن يقبل ان تبدو فرنسا احرص على إعادة بناء لبنان منه، وأكرم على اللبنانيين من اشقائهم في الامارات، خصوصù في هذه اللحظة التاريخية التي يبدو فيها لبنان في صورته المثلى: موحدù وقويù بوحدته على الصمود في وجه النار الاسرائيلية كما في وجه الضغوط الاميركية القاسية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان