التعمية من أهم قواعد النظام اللبناني. على الناس أن لا يروا كي لا يفهموا ما يحصل. سرية المصارف تتطابق تماماً مع سرية تعامل الطبقة السياسية مع شعبها. العِلم، أن تعَلم، معرفة وسلطة. عندما صرت تعرف، صرت تساوي الزعيم في كل شيء. عليك أن تبقى دونه في المعرفة، وأن لا ترى الأشياء كما هي، أو لا تفهمها. كبش الطائفة أفهم من غيره بما يتعلّق بأكباش الطوائف الأخرى. هذه المعرفة، المعلومات، العلاقات العامة، هي صفات تجعل منه زعيماً، والزعامة تكفل له ثروة محترمة.
الزعيم، كبش الطائفة، يرى العلاقات بوضوح. الناس يرون الأمور، والأشياء، والمعاملات، والصفقات، وكأن هناك غِلالة حاجبة بينهم وبينها. تُطبخ الأسماء المرشحة للتعيينات للمراكز الأساسية في بيروقراطية الدولة في غرف مغلقة. لا جلسات استماع أمام مجلس النواب كي يُسأل المعيّن ويُعرف عنه شيء أو أشياء. يكفي أن يتفق أكباش الطوائف على الأسماء في سوق نخاسة التعيينات. ومن غير الضروري أن تعرف الأسباب. تم تعيينه لأن الكبش (زعيم الطائفة) قرر ذلك، والكبش يعرف لماذا. إذا عرف المواطن أكثر مما يجب، فهو يتجاوز حدوده.
على الزعيم أن يعرف وأن تكون له سطوة. الويل له إذا طلب منه خدمة من فلان وقال لا أعرفه أو لا أستطيع التحدث إليه. يصب جام غضب الأتباع عليه. لذلك على أفراد الطبقة السياسية أن يعرفوا بعضهم وأن يتبادلوا الخدمات، مهما كانت الاختلافات السياسية بينهم.
لكن هذا الكلام يتعلق بالنظام الاجتماعي في لبنان. وقد وُضِعت كتب ومطولات في هذا الموضوع. التعمية مسألة راهنة. سياسة تتبعها السلطة بجميع أطرافها لإخفاء العجز أو عدم القدرة على الإنجاز. فنرى أولوية التعتيم على الإنجاز، بالأحرى عدم الإنجاز، باسم محاربة الفساد. فرسان محاربة الفساد لم يتحدثوا يوماً عن غياب الإنجاز. الإنجاز هو القيام بأعمال تنفع الناس. هو على الأقل ترتيب أوراق الدولة، خاصة حساباتها. إنجاز حساب موحد، موازنة موحدة.
تأسيساً على الوضع الاجتماعي، والسرية التي اعتمدها، وتقسيم العمل بين الطبقة السياسية، وتبادل المنافع بين أكباش الطوائف والأحزاب، برع النظام في التعمية، تعمية العين والبصيرة. غُيّب معنى الدولة الذي بدأ يترسّخ مع الشهابية، ورُفع شعار الشعب والجيش والمقاومة (دون الدولة)؛ وغُيّب معنى الإنجاز بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري؛ وحلت محاربة الفساد (بما فيه الإرهاب والتكفير) مكان الإنجاز. ليس أكثر فساداً من دولة لا تعمل أجهزتها، ولا يُنتج مجتمعها، وتسد رمق ماليتها بالمساعدات، وتعقد مؤتمرات لتسوّل المساعدات كل بضع سنوات. ليس أكثر فساداً من سلطة جاءت بحكومة تعجز عن القرار، وإذا إتخذت قراراً تتراجع عنه في اليوم التالي. تصدر إليها الأوامر بما يشبه “الريموت كونترول” الذي يُستخدم للتلفزيون، في زمن صارت الحكومة أو السياسة مجرد مشهد تُمارس فيها “الكلامولوجيا”.
بالنسبة للسلطة وأحزابها، والحكومة التي تعبّر عنها، هم وحدهم فرسان محاربة الفساد. الغير هو الفساد. هو مُنتج الفساد خلال الثلاثين سنة الماضية (التي شاركوا في الحكم في نصفها، وكانوا الطرف الأقوى). التعمية هي الخروج الى الناس بشعارات تبهر الأبصار (محاربة الفساد، استرداد الأموال المنهوبة، الاخبارات يميناً وشمالاً، قمع الرأي المغاير منعاً للفوضى، استخدام القضاء وكأن السياسة ليست مهمة الحكم والحكومة). عندما يتحدث أرباب الحكم عن الفساد يتجاهلون أنهم مسؤولون عنه بما أنهم رأس السلطة، وأن الفساد المعني هو ما يستشري في أجهزة الدولة التي يقودونها هم.
تغييب الفاعل يكون عندما يعلن أهل السلطة أن الفساد هم (غيرهم)، فكأنهم يحكمون سلفاً على أنفسهم بالبراءة. التعمية هي عندما يتباهى أهل السلطة بمحاربة الفساد بينما يكون الناس في قاع أزمة الجوع، ومحرومين من أبسط مقومات المجتمع الحديث، أي الكهرباء، والفيول المغشوش. المشروع لبناء محطات كهربائية جديدة ملغوم بمعمل سلعاتا كي لا يجري التنفيذ.
التعمية هي وضع حجاب بين الناس والحقيقة. على الناس أن لا يروا كيف تجري الأمور خاصة في أروقة الدولة. الطبقة السياسية تخاطب الناس من وراء ستار يفصل بينها وبينهم، بما يعمي العين والبصيرة. كل طائفة تنكر أثام زعمائها (أكباشها) وتعتقد أن الفساد منتشر عند الآخرين. في التعمية كثير من النفاق والانحراف. أولوية المجتمع الأولى هي الكهرباء، لكنهم يملأون الشاشات والأروقة والصالونات بموضوع الفساد، ويجعلون أولويتهم محاربة الفساد. كأن تكون الأولوية للحديث مع صندوق النقد الدولي والإصلاحات المطلوبة، ويجعلون موضوع البلد هو السيادة؛ وكأن يطرح السيّد الجليل الحياد، ويجعلون معركة البلد هي بين الحق والباطل؛ كأن يكون الموضوع الدفاع عن لبنان (والأسباب عديدة لكي يقتصر على الدفاع) ويجعلون الموضوع مواجهة أميركا واسرائيل. يواجهون أميركا، أو هكذا يدعون، ويسكتون عن قواعدها العسكرية المتعددة على الأرض اللبنانية؛ وكأن يكون الموضوع سلسلة الرتب والرواتب، ويوظفون في الدولة المئات بل الآلاف لأسباب انتخابية، ولأهداف ترمي الى نسفها بعد إقرارها؛ وكأن يكون الموضوع تفاوضاً مع صندوق النقد الدولي، ويفتعلون خلافاً على الأرقام، وكأن الدولة ثلاث دول.. وهكذا دواليك.
أمام كل موضوع جدي يتعلّق بمصالح الناس يطرحون موضوعاً آخر، جدياً أو غير جدي، كي لا يبحث الناس في الموضوع الأساسي، وكي تُعمى البصيرة ويزيغ البصر عن الموضوع الأساسي. ينتهي البلد بأن لا يركّز على موضوع، ولا يبحث في أي موضوع أساسي. عند كل موضوع يطرحون كل المواضيع حتى يضيع المواطن. “تكاثرت الظباء على خراش/ فلا يدري خراش ما يصيد”.
التعمية أيضاً هي أن لا نعرف، لا يعرف الناس، لماذا انقطاع الكهرباء، ولماذا انقطاع الماء، وكيف تبخّر المازوت، ولماذا توضع اليد على ودائع الناس دون سند شرعي. في البلد أزمات كثيرة وفي كل القطاعات. لا تركيز على موضوع ثم موضوع ثم موضوع حتى الوصول الى حل. ذلك أنهم لا يريدون الحلول، خاصة إذا كانت لصالح الناس. يقيمون الدنيا ولا يقعدونها حول مواضيع جانبية في حينها (ربما صارت أولوية في ما بعد، إذا كانت كذلك من قبل) حتى ينحرفوا بالنقاش العام عن مواضيع الأزمات الداهمة.
كلا الأخوين شفاط لكن شهاب الدين أشفط من أخيه. يتساوى في ذلك ما يسمى 14 آذار/مارس و8 آذار/مارس. تقسيم العمل داخل أروقة السلطة هو آلية ممارسة السلطة. حتى عندما تكون الحكومة من فريق واحد، فإن جميع الطبقة السياسية هي التي تحكم وتتسلّط. تقسيم العمل يُتفق عليه في اللجان وفي غرف مغلقة (من أجل السرية)، والتصريحات العلنية تشي بغير ذلك. هم أبطال على الميكروفون وأمام الناس، ويعقدون صفقات بين الجدران الأربعة. لا يريدون أن يعرف الناس على ماذا اتفقوا وأية أزمة أبدعوا، وأي جهنم يأخذون الناس إليها.
جميعهم لا يريدون صندوق النقد الدولي، لكنهم ينسفون المحادثات بتقديم أرقام متعددة حول مالية الدولة، كي ينسفوا التعامل مع الصندوق. إجراءات توحيد الحسابات، وهو ما يريده صندوق النقد، تفضحهم جميعاً. التعتيم على حسابات الدولة هو تعتيم على حساباتهم في لبنان والخارج. حسابات موحدة للدولة تكشف فضائح الطبقة السياسية. إذن يجب أن تبقى في العتم. ألم تساهم السرية المصرفية في هذا المصير؟ حسابات الدولة هي حساباتهم. حسابات مخصصة. القطاع العالم مخصص. ويدافعون عن القطاع العام باسم مصلحة الدولة والناس. أما القطاع الخاص، الذي يملكه أرباب العمل، فهدفه الاستيلاء على ممتلكات الدولة والأملاك العامة. شراكة القطاع العام والقطاع الخاص صارت تعني نقل الأملاك العامة الى من بيدهم المال الكثير. الغيرة على ودائع الناس المتوسطة والصغيرة تجعلهم يضعون اليد على ودائع المصارف.
كأن الفساد حكر على الدولة والقطاع العام. وكأن القطاع الخاص، بما في ذلك المصارف، هم الملائكة. وليسوا أصحاب الأنياب الذين يريدون مصادرة كل شيء لدى الدولة ولدى الناس. مسكينة هذه الحكومة، لا تعي أنها واجهة. لو حكمت لاستطاعت وضع حد لكل، أو لبعض، ما فعلته 14 آذار/مارس، و8 آذار/مارس، والمصارف، وأصحاب الخدع.
التعمية بخداع الناس؛ أن تفعل النخب السياسية وغير السياسية أشياء وتقول للناس أشياء أخرى وتتعمّد أن يجهل الناس حقيقة ما تفعله الطبقة الحاكمة. هي نوع العمل والقول بالسر، وإعلان غير ذلك. هي نوع من التواطؤ والتآمر على المجتمع. المصالح المادية المتبادلة بين أطراف الطبقة الحاكمة أقوى من علاقات هذه الأطراف بالمجتمع. يحتاج كل طرف الى أتباع، ذلك أنه كلما ازداد الأتباع ازداد الزعيم قوة، وازدادت قدرته على أخذ حصة أكبر من المنافع. نظام للتوزيع وإعادة مستمرة للتوزيع حسب تغيير ميزان القوى. المنافع المادية تحكم العلاقة بين الطوائف وقادة (أكباش) الطوائف. المبادىء الاخلاقية أمر قليل الأهمية عندهم. الدولة بالنسبة لهم جملة من المنافع أو الغنائم. أمر الدولة ثانوي. يحتاجون للدولة من أجل ابتزازها. يحتاجون للمجتمع من أجل ابتزازه. أن تكون الدولة هي المجتمع، والقرار في الدولة من أجل الدولة وحسب مصلحة المجتمع أمر مرفوض من قبلهم. يجب بنظرهم أن يكونوا هم (أو ما يُسمى طوائفهم، وهم على كل حال يصادرون الطوائف) الواسطة بين المجتمع والدولة. كل الخدمات، أو ما ينفع الناس، يجب أن يمر عبرهم. أكثر ما يزعجهم فردية المواطن وانتماؤه للمجتمع والدولة مباشرة دون العبور بالوساطة. تفيدهم الطوائف في أنها تصادر الناس منذ أن يولدوا. تهيّئ لهم قطعاناً جاهزة للتبعية والاستزلام. كرامة الأفراد والمجتمع بالنهاية لا تعبر عن الفرد والمجتمع، بل ترتبط بالزعامة والطائفة والثروة. وهم بما يدعون أنهم يمثلونه، عصاة على الدولة والقانون. ليس سلاح حزب الله هو وحده دولة ضمن دولة؛ كل زعيم وكل طائفة هي دولة ضمن دولة. اذا كان حزب الله دافع عن الأرض والوطن، وبالنهاية الدولة، فإن وجودهم كان دائماً على حساب الدولة وتطورها. يريدون دولة مشلعة. خطأ القول أن الدولة غير موجودة (درج الكثيرون على القول أين الدولة؟ أو الدولة غير موجودة). الدولة موجودة لكن على قياس هؤلاء. الذين يدخلون السجون بسبب أخطائهم هم أبناء الطبقات الدنيا؛ هؤلاء “الزعماء” لا يدخلون السجن، ولا يجرؤ أحد على محاكمتهم مهما ارتكبوا من جرائم مالية وغيرها.
ما زالوا على منوالهم القديم برغم ثورة 17 تشرين/أكتوبر. المضحك لدرجة الهبل والهزل أن الحكومة السابقة التي استقالت، أعلنت أنها تقف الى جانب الثورة منكرة أنها هي أحد أسبابها. ارتكاباتها كانت في أساس النظام الذي ثار الناس ضده.
في مجتمع يكون كل شيء علانية، تصعب السرقة في النهار وتسهل في عتمة الليل. تفرض علينا التعمية عتمة دائمة. يعرف الناس أشياء كثيرة. تنتقل المعلومات بالسر (ظلام العتمة). لكن ما يعرفه الناس غير كاف لمعاقبة المرتكبين الكبار، أو على الأقل إحالتهم أمام القضاء. نظام يحمي المرتكبين. لا حل إلا في مجتمع مفتوح قائم على العمل والإنتاج لتوليد مجتمع متماسك ينتج علاقات علنية. في المجتمع المفتوح، تحتل السياسة حيزاً أوسع في المجال العام ويوضع حد للصفقات السرية. الأحزاب جميعها من 14 آذار/مارس و8 آذار/مارس تعتمد السرية. تفتقد حتى الى برنامج عمل. إذا وُجّه انتقاد لهذا الحزب أو ذاك، فلأنه يعمل حسب قواعد النظام. يبالغ البعض إذا قالوا أنهم داخل النظام. لكنهم في الحقيقة خارجه. النظام أقوى من جميعهم بفساده، كما بالتعمية والسرية اللتين يرتكز عليهما الفساد. نقيض الفساد هو العلانية. ما يُسمى الشفافية لا يستقيم أمرها دون العلانية، دون المجتمع المفتوح.
لم يغيّر النظام السياسي ولا الطبقة الحاكمة، بفرعيها المعارض والمؤيد للحكومة، نمط تعامله في الدولة ولا نمط تعامله مع المجتمع. فكأن ثورة 17 تشرين/أكتوبر لم تحدث. ما زال الناس يُفرض عليهم جهل الفاعل وما يحدث.