لم تحقق إسرائيل ومعها الإدارة الأميركية “نصراً ” في مجلس الأمن الدولي برغم كل الدعم الأميركي المفتوح، الذي تسبّب في شق أوروبا ومنعها من التميّز، كما كانت تأمل فرنسا.
ولقد استحال على إسرائيل ومعها الإدارة الأميركية أن تحقق هذا “النصر” لسبب أساسي هو الصمود الرائع الذي تجلى باهراً في موقف شعبه جميعاً، وحكومته التي تعرضت لضغوط هائلة، ومقاومته التي فاجأت الجميع بقدراتها كما بشجاعة مجاهديها البواسل، وبتماسك اللبنانيين، على تعدد تياراتهم، وتشبثهم بوحدتهم الوطنية واحتضان بعضهم البعض في مواجهة “الحرب الإسرائيلية” التي تمّ تفجيرها بقرار أميركي، وتمّ وقفها اضطراراً بقرار أميركي… مع التقدير لعودة الوعي إلى الموقف الفرنسي، وللهبّة الشعبية العربية (والإسلامية) التي عدلت في التعامل العربي مع الموضوع برمته وحوّلته إلى جهد طيب ومؤثر.
وما يمكن أن يُقال في هذه العجالة أن هذا القرار الذي لم يلبّ مطالب اللبنانيين جميعاً، وظل دون حقوقهم في أرضهم، وقصر عن إدانة عدوهم، يعبّر بحده الأدنى عن تحولات هائلة في واقع هذه المنطقة ستتبدى جلية في الفترة المقبلة.
يمكن القول، الآن، براحة ضمير إن إسرائيل لم تعد إسرائيل التي كانت قبل حربها على لبنان التي باشرتها قبل شهر كامل بذريعة قد تبرّر اعتداءً محدوداً ينتهي بمساومات ووساطات دولية لتبادل الأسرى..
ويمكن القول أيضاً إن لبنان لم يعد على صورته الأولى: النادي الثقافي والمصيف والشارع الوطني والمقهى والملهى وجريدة الصباح وشاشة المساء، بل لعله ارتفع في العين العربية إلى مصاف ـ القدوة ـ لعجزه ـ موضوعياً ـ عن أن يكون “القائد”.
لقد غيّرت هذه الحرب في إسرائيل وستغيّر فيها أكثر وكشفت فيها ما لم نكن نعرفه من وجوه الضعف والخلل، الذي تبدى جلياً عبر هذه الحرب التي أقدمت عليها بالضغط الأميركي وأوقفتها بالعجز عن كسبها عسكرياً.. حتى مع التأييد الأميركي المفتوح.
لم تعد إسرائيل، بأي حال، القوة الأسطورية التي لا تقهر.. ولم يعد جيشها محصناً ضد العجز عن التقدم ودباباته لا تصد وجنوده ضد القتل..
لم تعد مدنه في حرز حريز، تجري الحروب والمواجهات في “أرض أعداء إسرائيل” ولا يكسر لوح زجاج في مدنها أو في مستعمراتها، بينما المدن العربية “قريبتها والبعيدة” متاحة لطيرانه وصواريخه يهدمها متى شاء..
تعرّف شعبه إلى “الموت” بصواريخ كالتي يرسلها ليقتل “جيرانه” وأهل الأرض التي تقوم عليها دولته.. وتعرّف إلى الملاجئ وإلى “التهجير” والعيش في رعب من أن تصله نار الحرب حيث هو، ولا أمان له في أي مكان.
لقد دفع لبنان باهظاً ثمن كشف هذه الحقائق التي لا يمكن أن يتعامى عنها إلا المتخاذل والمستسلم وناقص الوطنية، أي المنحاز إلى العدو لأنه يكره وطنه وهويته… ويحتقر انتماءه ولون بشرته.
لقد دفع لبنان الثمن باهظاً من أرواح أهله، أطفالاً ونساءً ورجالاً، عمراناً واقتصاداً واستثمارات..
لكن لبنان اليوم عظيم بصموده الذي منح العرب إحساساً كانوا قد افتقدوه: بالقدرة على الخروج من ليل الهزيمة وتحقيق النصر.
إن لبنان قد سطر اسمه في كتاب المجد.
وبالتأكيد، فإن إخوته جميعاً سيهبّون لإعادة إعماره، ليس بدافع الإشفاق بل بدافع الإكبار، وليس بالتصدق بل باكتساب شرف القرب منه.
إن لبنان في عين العرب اليوم.
والأمل ألا يضيّع اللبنانيون، غداً، هذه المنزلة بمماحكاتهم وخلافاتهم التفصيلية حول السلطة التي لا تصنع مجداً، أو مواقع الطوائف التي تحسم من الوطن ومن رصيده العظيم بدلا من أن تحفظه برصيده لأبنائه جميعاً.
نشرت في “السفير” 12 آب 2006