ما أغزر الثرثرة، في لبنان، وما أقل الكلام المفيد.
ان رؤساءنا من اكثر المسؤولين في العالم كلامù: ندر ان يمر يوم بغير خطاب، لهذا او ذاك من رؤسائنا العديدين،
والوزراء، ما اشد فصاحتهم، لا يكادون يكفون عن الكلام،
والنواب يطلقون سيلاً من التصريحات، على مدار الساعة، وبعضهم يتصدى لمعالجة قضايا الكون كافة، يوميù، مستفيدا من تعدد وسائل الاعلام المسموع والمرئي والمكتوب التي تعمم صورته وصوته على البيوت والمقاهي والدكاكين والمسابح الفخمة،
ثم تجيء المراجع الروحية، وكلها ضليع بعلم الكلام، وكلها غزير العلم حاضر الموعظة والنصيحة والخطبة العصماء،
مع ذلك فلا حوار في بلد الحوار.
الكل يتكلم في الوقت نفسه، فلا يكاد احد يسمع احدù،
وكل يقول نقيض ما يقوله الآخر، ويجد من يصدقه،
لا الرقم هو الرقم، ولا الواقعة هي الواقعة بذاتها، ولا الكلام المنقول هو ما قيل فعلاً، وبالتالي فلا يقين!
المعارضة، وهي بورصة مفتوحة قد يتزايد المضاربون فيها وقد يتناقصون، تتهم الحكومة صراحة بالكذب،
والحكومة، التي يكاد يلخصها رئيسها، ترد على المعارضة التحية بأحسن منها فتتهمها بالتضليل والتزوير في الارقام كما في الوقائع،
والمواطن المطحون بضائقته المعيشية يأخذ كلام الطرفين فيقسمه على اثنين، ثم لا يصدق الا ارقام كلفة حياته اليومية،
وكأي مواطن، في أي بلد في الدنيا، فهو كان على استعداد لان يصدق المعارضة لو انها »مؤسسة« لها برنامجها، ولها دراساتها، الموثقة،
لكنه يجد المعارضة معارضات مشتبكة في ما بينها، والصراع محتدم بين فصائلها، بحيث لا تجتمع على برنامج او على قيادة او حتى على رقم او واقعة محددة،
بالمقابل فهو يجد الحكومة شخصù واحدù، يغطي بوهج اسمه الذهبي اخطاء الوزراء وخطاياهم، احيانù، وقصور الكلام عن الفعل، والفعل عن الوعود الربيعية التي زخها علينا عند مجيئه مطرا من الاحلام.
ومع ان هذا الرئيس الحكومة الذي كاد يختزل الحكم يتحرك »كالبلدوزر«، ويعمل بطاقة غير مألوفة في من سبقه، الا انه يفقد شيئù من رصيده، مع مرور الايام، وهو لم يعد الآن صانع المعجزات بل انه في العديد من الحالات مصدر الشكوى.
بعض المعارضات ضد العهد كله،
وبعض المعارضات ضد رئيس الحكومة وحده،
وبعض ثالث ضد الوزراء ومع رئيسهم،
بعضها ضد المجلس النيابي كله،
وبعضها مع رئيس المجلس وضد النواب، كلهم او بعضهم.
ثم ان المعارضة موسمية: تعنف هذا الاسبوع ليخفت صوتها في الأسبوع المقبل، وكثير من فصائلها يفضل »التأمل« حتى ايلول، او يمضي »الوقت الضائع« في زورق سريع، في انتظار الاستنفار الرئاسي العام.
لا حوار، في بلد الحوار.
والرقم اداة مناورة سياسية، او سلاح للتشهير بالحاكم او المعارض (على حد سواء): يمكن زيادته في حال النكاية والمكايدة، ويمكن إنقاصه في حال الرضا.. نفاقا او تملقا او مداهنة للجمهور المحبط!
كيف السبيل، والحال هذه، الى تشخيص دقيق للأزمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟!
هل لبنان فعلا على أبواب ثورة لا تبقي ولا تذر، أم أنه على أبواب نهوض اقتصادي فريد مثاله يضاف الى سلسلة المعجزات اللبنانية المحيرة؟!
إن المسافة بين الرقم الحكومي والرقم المعارض فلكية،
وفي غياب الحوار الجاد لا مجال لاعتماد احد الرقمين، فالمسؤولون، في الحكم كما في المعارضة، خطوط متوازية، لا تلتقي، انهم آحاد وليسوا مجموعة تحمل هم البلاد والعباد.
لذا يبدو الناس وكأنهم باتوا خارج دائرة الكلام المتبادل بين آحاد الحاكمين وآحاد المعارضين،
انهم بعواطفهم مع المعارضة، لكنها لا تقنع عقولهم،
وهم يدركون ان هذه الحكومة هي »اهون الشرور« في الفترة الانتقالية الراهنة، ولكنها لا تحقق لهم الحد الادنى مما وعدتهم به وانتظروه منها.
والزمن استثمار يضيع هدرا،
فمن يبدأ الحوار.. من يأخذ المبادرة في تحويل الثرثرة الى مشروع عقد اجتماعي جديد يؤسس للجمهورية الثالثة العتيدة؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان