من المصادفات القدرية الظالمة أن يُفقدنا الموت مؤرخاً جليلاً تميّز بدقة العالِم ودأب الباحث النزيه والأمين وشجاعة الفدائي، هو الدكتور كمال الصليبي.
ذلك أن رحيل هذا الذي أعاد كتابة العديد من فصول تاريخنا، بأمانة مطهرة من الغرض أو التعصب أو الجنوح إلى السهولة أو الرغبة في تسفيه كتبة السلطان، يأتي في لحظة تؤسس لتزوير تاريخنا المعاش بوقاحة نادرة وتسليم جبان لإرادة الأقوى، مع المفاخرة باتخاذ موقع شهود الزور على الجريمة الجديدة التي ترتكب بحق أنفسنا ونحن نشهد «غيرنا» يغيّر لنا هويتنا ويزوّر لنا ـ وأمام عيوننا ـ وقائع أيامنا.
وها نحن نتابع بشغف، وبأم العين وملء السمع، التزوير الفاضح لما يجري في بعض بلادنا ولها، بالمكونات الأصلية والدلالات الفعلية، بحيث تتداخل «الثورة» مع إعادة الاعتبار إلى الاستعمار، ويتماهى «التحرير» مع عودة الاحتلال الأجنبي ـ وبالطلب ـ إلى الأرض العربية التي بالكاد غادرها مكرهاً، وبعدما صادر إرادتنا وحريتنا وحقنا في مستقبلنا بزرع «إسرائيل» في قلب القلب من أرضنا.
لا يخفف من وقع التزوير، الذي يتم علناً وبالصوت والصورة الملونة والكلمة المكتوبة على وقع دوي مدافع الأساطيل، جوية وبحرية، كما يجري لليبيا وفيها، القول بأن الخيار المفروض على شعوب تقهرها أنظمة الطغيان وتغيّبها عن مسرح الفعل هو بين الموت استسلاماً أو «المقاومة» بأسلحة القاهر القديم العائد محرراً لإعادة الكرامة إلى الإنسان والتي سلبها القاهر «الوطني» الذي ألغى الوطن والدولة والناس…
ونحن نشهد اليوم إعادة أو تكراراً للمأساة التي فُرض على شعب العراق أن يعيشها موتاً وتشريداً وخراباً، حين أجبر على مفاضلة بالإكراه بين حكم الطغيان الذي استمر دهراً أو الاحتلال الأميركي الذي دخل البلاد بقوة نيرانه ليخلف من أورثه أرض الرافدين بمن وما عليها.
وأعترف، شخصياً، أنني تعلمت بعضاً من صحيح تاريخنا على يدي الدكتور كمال الصليبي، من خلال بعض كتبه التي تشكل فتحاً في إعادة معرفة الناس من خلال أرضهم، ثم عبر بعض المحاورات التي أتيح لي أن أستمع إليه فيها وهو يرد على أسئلة لا تنتهي عن وقائع مزورة فرض علينا أن نحفظها غيباً وبلا نقاش بوصفها من الثوابت والمسلمات.
ولا يحتاج كتابه الموسوعي الممتاز «التوراة جاءت من شبه جزيرة العرب» إلى شهادة على أنه يتجاوز كونه مرجعاً أميناً، تكتب فيه الجغرافيا الثابتة والباقية التاريخ الصحيح الذي تمّ تزويره، ثم تمّ التسليم بهذا التزوير لانتفاء العلاقة بين اليهود وبين أرض فلسطين، كما تقدمها الرواية الإسرائيلية التي سلم بها العالم وقبلها أهل النظام العربي بخنوع جعلنا نخسر بعض أوطاننا وبعض جدارتنا بها، ثم نسلم بالتزوير المسلح وكأنه قدرنا الذي لا راد له.
كذلك فإن في ما كتبه كمال الصليبي في الكيان اللبناني وعنه قد أسقط الكثير من الخرافات والادعاءات التاريخية المزورة التي جعلت لهذا الوطن الصغير هوية ليست له.
ابن العائلة المتحدرة من بحمدون الضيعة الذي وُلد في كركون الدروز في بيروت وعشق رأس بيروت وكتب على وقع دوي مدافع الحرب الأهلية، والذي كان يرى أن المقدس هو السؤال، وجد الأجوبة في الأرض حين استقرأها فدلته على الحقيقة الباقية فيها…
كمال الصليبي عرّفنا إلى لبنان الذي يدرسه أبناؤنا مغلوطاً، والذي طالما جرّه نظامه الطوائفي إلى إنكار هويته بذريعة الخطر على الكيان، و«الكيان» هنا تعبير ملطف عن «مطلب المسيحيين» خصوصاً، الذين توهموا أن الوطنية والانتماء العربي خطر عليهم في حين أنهما الضمانة، ليخلص إلى الجزم: لن يصيب لبنان إلا ما يفعلونه به بأنفسهم.
وداعاً أيها المؤرخ الأمين الذي عرّفنا إلى أنفسنا وفضح ادعاءات عدونا عن «حقه التاريخي» في أرضنا، والذي فضح تخاذل أنظمة القمع التي تحكمنا عن حماية تاريخنا بينما هي تجاوزت السكوت عن الاحتلال إلى طلب حماية الأجنبي بذريعة حماية الثورة التي شرطها الأول تحرير الأرض، وليس باستعادة الاحتلال تكون الثورة ويكتب التاريخ الجديد.. والصحيح!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان