كنا نتوجه نحو الشرق، وكان الشرق يغط في نومه.
قيل: هو الاختلاف في التوقيت، فالساعة هنا »متأخرة« عن الساعة هناك!
كان الغروب »هناك«، وكان منتصف الليل »هنا«. كان ثمة تبادل مع النور في المواقع، فهو يصل متأخراً، ربما لأنهم يعطلون موكبه.
لقد سافرنا قبيل الغروب، وسنصل بعيد الشروق.
الوقت وقتان: وقت عربي ووقت أميركي.
وإذا كان الفارق في التوقيت مع معظم أوروبا ساعة، أي جيلاً، أي قرنا، حسب وحدة القياس في الموضوع المعني، فإنه مع الولايات المتحدة ستة أو سبعة أو ثمانية عقود أو أجيال أو قرون،
غادرنا النور إليهم منذ حين، ولم نعرف كيف نستعيده.
ألسنا نضيق بكمية النور التي تضخها علينا الشمس معظم أيام السنة؟!
ماذا نفعل بالشمس غير الهرب ونسبة كسلنا وبلادتنا إليها، بينما حولت العقول »هناك« صحاريهم القاحلة الى جنان معلقة وإلى مصايد للهاربين بثرواتهم من صحارينا.
تغادر الينا من عندهم الظلمة، فتصير ظلمتنا مطابقة تماما لنورهم،
لم نحفظ النور. لم نعرف كيف نبقيه فينا.
واسمع مَن يصرخ محنقاً: ولكننا نريد مزيدا من الضوء لنرى!
أو اسمع من يحتج بغضب: وكيف تريدنا أن نرى وسط هذا النور المبهر؟!
متى نجد باب الخروج من العتم المبهم!
* * *
قلت في نفسي: إنه ليس اختلافاً في التوقيت ذلك الذي يتسبب في فقدان التوازن بعد سفر طويل، بل هو فقدان التوازن (الأصيل) يتسبب في اختلاف التوقيت بيننا وبينهم.
التوازن ينبع من الداخل ولا يستورد جاهزاً من الخارج.
كيف يتوازن من يشكو إلى الناس اسمه المسكون بالتاريخ وأرضه المسكونة باللعنة، وأباه المسكون بالتمنيات المحطومة، وأمه المسكونة بالذلة والانكسار بالولادة؟
ولكأنما سمعني أحد أبنائنا الذين صاروا بعقولهم »هناك« وان بقيت قلوبهم »هنا« فقال بعفوية صادقة:
من كان يفتقد توازنه في بيته لن يجده في البيت المتحرك والمؤقت.
دهمني خوف مفاجئ لم أعرف له سببا، ثم تضاعف الخوف حين قدرت أنه قد يقرأ عيني، ولقد فعل إذ سمعته يقول:
لم توفروا لنا التوازن. ربما كنتم، كجيل، أكثر توازنا منا يوم كنتم في مثل أعمارنا، كان لكم ركائز من يقين تحميكم من السقوط، ولكننا حين وعينا الدنيا كنتم قد »أنجزتم« تحطيمها وفقدتم توازنكم فلم تورثونا غير الضياع!
قال آخر بشيء من التشفي: لعلهم اكتشفوا أنها لا تحمي!! ربما علينا أن نشكرهم لا أن نلومهم على تحطيمها. لقد حررونا منها وتركوا لنا أن نختار ما يناسبنا.
وكيف نختار ونحن لا نملك أداة قياس؟!
بل نملك! إنه فارق التوقيت!
هذا عامل طبيعي، وهو لم يؤثر على اليابان مثلاً،
إذن يمكن بالارادة توظيفه ايجابا لا سلبا،
بقي ان تولد الارادة،
بل بقي أن تلد الارادة القرار بالتغيير وإدارة إنجازه، وأنتم الارادة والأداة.
لم تسمع الشمس هذا الحوار، ومع ذلك استمرت الأرض تتحرك وهي تدور من حولها مصطنعة فجرا جديدا لقسم من الناس بينما تحتل العتمة من لم يصطنع النور لطريقه في المقلب الآخر.
حوار مبتور..
ألن تفرج عني؟ ألن تحادثني؟! ألن ترد علي؟! لقد ضقت ذرعا بعتمة صمتك واشتقت الى نسمة هواء ندية وهمسة حانية ولو بتحية المساء. الا تصلك كلماتي؟ الا ترد التحية بمثلها؟!
الكلام عاقر، لا تلد الكلمات الا الكلمات.
قد يزهر الكلام احلاما، وقد تطرح الاحلام ثمرا شهيا.
الكلام عاقر، الافكار ولود.
لك كلماتي جميعا. هي منك وانت تسكنها وهي تتنفس اسمك. دعها تنمو تحت شمسك، دعها تعرش من حول قامتك فتكون لك مظلة وتكون لي هودجا يمنحني الاحساس بالاقتراب ولو بالوهم منك، كلماتي هي أنا، فأحضنها تشعر بدفء انفاسي على عنقك وصدرك.
يكتب الانسان نفسه. اكثر ما يكتب الانسان اسمه.
ولكنني اكتبك انت. انك ترفض ذاتك فيّ. انك تهرب من سماع نبرتك في كلماتي، وترفض ان تقرأ كتابك المحترق بأنفاسي… حرام ان تترك صوتي بلا صدى.
يجيء الصدى من الصوت ولا يذهب اليه.
ولكني صداك. الكل يقرأ اسمك في وجهي وعيني وجبيني وفي وجيب قلبي وفي كلماتي المتناثرة احيانا بلا سياق وغالبا بلا نقاط.
للنقطة الواحدة معنى، متى كثرت النقاط ذهب المعنى.
انت لا تتحدث الي، لكأنك تسامر نفسك.
بعض الناس لا يسمع الا صوته. بعض الناس لا يكتب الا اسمه، الحب في الداخل لا في الخارج. الحب يعاش ولا يكون بالقول. الحب حياة تكتبنا ولا نكتبه.
ما حاصل جمع خمسة زائد واحدة؟!
كانوا خمسة رجال الى مائدة الغداء في المطعم البحري الذي تتراقص فيه العيون فوق الأجساد العارية للنساء الآتيات للاستحمام بماء العيون،
كانوا خمسة رجال فلما انضمت اليهم صاروا عشرة، شحبت النسخة »العامة« لكل منهم ثم انشقت وخرج منها فقام الى جانبها »الرجل« الآخر المحبوس داخل وقار توأمه الضائع رأسه تحت الشيب او الصلع.
لم تكن المباراة بحاجة الى صفارة الحكم. طمس كل منهم، بخشونة، صورة الكهل فيه، واستدعى ذلك »الشاب« الذي كانه قبل عشر سنين، عشرين سنة، وربما ثلاثين.
لم يكن متبقيا من ذلك »الشاب« الا مفردات لغته القديمة التي اغنتها التجربة عبر السنين، واكتسبت اضافة الى رقة التشهي حنكة الاغواء وتظرف الذين احترفوا ولو بالادعاء القدرة على اصطياد النساء.
قدم اليها الاول كرسيه، والثاني كأسه، والثالث صحنه، والرابع لفافة تبغ ارتطمت اكثر من يد بالأخريات وهي تقترب منها بنيران الشبق الحارقة،
نقّلت عينيها مستعرضة هذا الحشد من الرغبات فامتلأت غرورا: لطالما بخست جمالها حقه!
تدفقت النكات المكشوفة والتوريات الجنسية والايحاءات الشبقة، وشاركت في اللعبة بتمكن المحترف العريق..
تغزل الاكبر سنا بجمال عينيها، فعاب عليه صديق عمره انه لا يرى جيدا بسبب من سماكة نظارتيه،
وقال أفتاهم سنا في نفسه ان اصدقاءه القدامى سيوفرون عليه بذل المزيد من الجهد، وانهم انما يحضرّون له »الجو«، وان عليه فقط ان يقنص »اللحظة« متى حان موعدها،
أما الأعظم خبرة فقد تصرف على أنها ساعة للدعابة والتسرية عن النفس،
واما الذي يحب بطنه فقد أفاد من فرصة السخاء التي حملت الى المائدة المزيد من الاطايب، فاندفع يأكل بنهم اذ سيحتاج الى الطاقة، ان لم يكن اليوم فغداً او بعد شهر او بعد عام…
لم تكن لدى احدهم الرغبة في انهاء الجلسة، خصوصا بعدما احتدمت المنافسة بين الاعظم ثراء من بينهم، وكل منهما يملك ما يعرضه عليها للانتقال فورا من الكلام الى الفعل.
على ان مفاجأة غير مستحبة جاءت، في هذه اللحظة، من خارج السياق (والجلسة)، اذ ارتفع صوت آمر ينادي »السيدة« باسمها مجردا وبلهجة حاسمة، فالتفتت الى صحب المصادفة بشيء من الاعتذار المتباهي او التباهي المعتذر وهي تنهض قائلة:
سررت كثيرا بهذا اللقاء الظريف،
بدت كلمة »السرور« نابية وسط الوجوم الذي ساد كثيفا ومثقلا بلياقات توديع »السيدة« التي سحبت معها وهي تنصرف كل النسخ الثانية التي كانت مختزنة في صدور هؤلاء »السادة« والتي نادرا ما اكملت أيا من مبارياتها حتى النهاية، ولذلك بقي سرها فيها لا يعرفه الا عالم الأسرار!
قال اغناهم: الحمدلله انها لم تقبل دعوتي الى رحلة بحرية في زورقي الجديد. كنت سأغدو موضع سخريتكم!
وقال اكثرهم حيوية: وأنا… لقد انطلقت ألحّ عليها بأن تجيء معي الى الجبل لأنه في هذه الأيام أمتع ومباهجة لا تنتهي.
اما أفقرهم فكان يطوي وريقة صغيرة دستها في يده وهي تلتحق »برجلها« الآمر متعجلة!
لقاء مع الأمس..
والله زمان!
هتف مغتبطا: أكثر من ألف عام! ما أطول الأمس!
اقتربت منه اكثر، تتقدمها شفتاها، حتى لسعته كلماتها الهامسة: لن اسألك عن الغد، إذن، دعنا لا نضيّع »الآن«.
تزاحمت الاسئلة في خاطره، لكنه حجبها بحدة: لو أفلت واحد منها الآن لأفسد هذا اللقاء الذي يئس من تمنيه فجاءه من حيث لا يتوقع.
أدركت ما يجول في خاطره فانطلقت كلماتها كالرصاص: لا عتاب ولا لف! لست مطالبة بأن أقدم لك الحساب، ولن أحاسبك،
تساءل: ماذا بقي؟!
قالت بغضب: أنت وأنا…
أفلت منه السؤال: هل أنت أنت وأنا أنا؟! هل نحن من كنا؟!
تراجعت خطوة وهي تقول: أكيد انك لست من كنت أعرف، أين ذهب إنسانك اللطيف؟!
اكتفى بأن غمغم: سبحان من يغير ولا يتغير،
انتبهت الى حجم هزيمتها فقالت بتحد: لسوف استعيدك،
كان قد غاب تماما، وانطوى داخل هزيمته، فرد بيأس: ما ذهب لا يعود.
استفزته اكثر: ولكنك كدت تتعثر وأنت تندفع للسلام عليّ حين لمحتني. سبقك إليّ شوقك، ولفحتني حرارة تشهيك.
قال بلهجة وداع: من منا لا يشتاق الى أمسه؟! أحيانا يتخذ الشوق صورة الانتقام، اما أنا فلا أريده ان يموت. لن أقتله فيك، ولن أقتله فيّ. سأحمل حطامه وأمضي… طابت ليلتك!
أنعشه الهواء في الخارج، فعب منه ملء رئتيه، ووصلته أصداء الموسيقى تلحق به من حيث كان، فأخذ يتمتم مع الاغنية التي أثارت شجنه: »أنا لو نسيت«، اللي كان، وهان علي، الهوان، أقدر أجيب العمر منين، ورجّع العهد الماضي، أيام ما كنا إحنا الاثنين، أنت ظالمني وأنا راضي«..
إبتسم وهو يستذكر الكلمات الاخيرة: الظالم ما زال ظالما والمظلوم والراضي ما زال مظلوما وراضيا، فلماذا إفساد اللحن الجميل؟
تهويمات
لا النوم متاح ولا السهر،
أقيم في برزخ السؤال،
وأنتظر!
تسدل العتمة نفسها على الجواب
لكي تسمعيه بوضوح.
* * *
أسمع كل الناس يتنفسون في العتمة
بغير أن يخافوا
فإذا أطل الضوء
قلبوا وجوههم إلى الخلف
وخبأوا أسماءهم وصورأحبتهم
في قلب الشمس… وناموا.
* * *
خذ الخبز يا ربي،
أعطنا حباً فقط،
خذ كفاف اليوم،
نريد عمراً صغيراً ومليئاً
عمراً زهراً
* * *
تضج دنياك بالحب المعلن،
وتختنق دنياي بأشلاء الحب.
الذي يغتاله الضحايا السابقون للكتمان.
* * *
ليس لي زمن، هل تعيرني ساعتك التي لم تحملها قط لأن حبك فيك ولا يجيء إليك من خارجك.
* * *
يحاسبني الوقت كل لحظة: لماذا تقتلني وأنا مداك ومسرح متعتك الباذخة!
كيف يحيا من جعل مهنته اصطياد الساعات؟