البقاع – اليوم الأخير من نوار 1992 – الساعة العاشرة والربع صباحاً –
ما زال حزيران بعيداً، لا بد أن تغرب شمس بعد. لكن شبحه يحوم حولنا ويطل عبر أخبار الاحتفالات الضخمة التي تقيمها “إسرائيل” في “عاصمتها الأبدية – أورشليم – القدس” لمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لإعادة “توحيدها” الذكرى الخامسة والعشرين للهزيمة عربياً. ذكرى الهزيمة الخامسة والعشرين… والعقارب ما تزال تتقدم صعداً والعرب يتدحرجون نحو هاوية لا يبلغون قعرها أبداً.
في الغرفة حيث نحتشد كانت الأحاديث تهرب من السياسة المضجرة، المقرفة، السمجة التفاصيل، ومن “العام” المحزن والمحبط إلى حيث قد تتوفر بعض الإشراقات العاطفية في “الخاص” و”الحميم”.
بغير استئذان اقتحمنا حزيران الذي بات دهراً لا ينتهي:
تفجرت السماء بدوي الهدير المذل، وتمطى الصدى بامتداد الهواء والشمس كالفضيحة المجلجة. ساد الخرس، وطأطأ الكل رؤوسهم بانسكار، وغطت الجفون الثقيلة العيون الغارقة في بحر العار اليابس.
كقافلة من العبيد مربوطة بحبل واحد طرفه في الجو، سحبنا الهدير إلى خارج الغرفة. لا بأس من تأمل جراحك لحظة انبجاس الدم نهراً من الألم الأحمر يلون سواد الدينا الذي يغلف عينيك الزجاجتين الآن.
افرنقع الجمع، وانتثر الرجال وقد تقزموا على الشرفات، بينما عربش افتاهم فوق جدار قريب وتبرع بدور المذيع الخارجي في وصلة بث مباشر: – ها هي ترتفع تمهيداً للانقضاض. واحدة، اثنتان، ثلاث، وهذه هي الرابعة… أربع طائرات، كالعادة!
قاطعه “المذيع” الداخلي: – ها هي تلقي البالونات الحرارية، كالعادة. هي أربع فعلاً… تتبعوا الخطوط الدخانية البيضاء الملتوية كالأفاعي في السماء التي كانت زرقاء فوق سلسلة جبال لبنان الشرقية…
-جنتا، مرة أخرى؟!
-ربما جنتا، ربما بعلبك، لا أستطيع أن أتبين مقصدها بعد، – لا تغلط، الاتجاه اتجاه جنتا، ثكنة الشيخ عبد الله في بعلبك مؤجلة إلى موعد محدد سيتأخر قليلاً، في ما يبدو.
قطعت صرخة حادة ثرثرات الواصفين وصدى الانفجار المكتوم:
-ها هي تقصف… يا الله!! إنها تنقض فتلقي صواريخها بالتناوب، وطائرتا الحراسة ترصدان الأجواء، وتواصلان إطلاق البالونات الحرارية. الصواريخ طبقات طبقات، تتهادى بحملها القاتل نحو هدفها تحت.
همهم جار لي: – إلى متى نظل تحت، مجرد أهداف، ويظلون فوق صيادين يتلذذون باختيار الطرائد منها؟!
اندفعت إحدى الأمهات لتسحب أطفالها بعيداً، فبادرها كبيرهم وهو ينفلت بعيداً: – لا تخافي، إنهم يعرفون أهدافهم ولا يخطئون…
قالت من خلال عبراتها بصوت مخنوق: – من أخبرك بذلك؟! صرت تفهم بشؤون الحرب أيضاً،
استمر الطفل يعابثها: – هل حدث مرة إن أخطأوا؟! إنهم مدربون!
زعق رجل الجدار: – لقد نطقت المدافع المضادة للطائرات!! أخيراً!! أترى إلى دخان رصاصها المتفجر يرسم بخطوطه الضبابية الواهنة صورة للعجز والخيبة وقلة الحيلة. ماذا تفعل رصاصة مع نفاثة أسرع من الصوت؟!
كانت العيون تلاحق الحبال الفضية المتلوية كالأفاعي حتى تلتقط في منتهاها المثلثاث السوداء وهي تعاود رقصها المنغم في السماء المفتوحة.
-هم يرقصون فوق، ونحن نرقص مذبوحين من الالم تحت…
قالت “زرقاء اليمامة” : – لقد انتهت العملية، وعادت الطائرات من حيث جاءت… وكالعادة ، سالمة!
-يا ستار… تأملوا عاصفة الدخان والغبار وهي ترتفع مدوية كمخلفات الأعصار. أكاد أشم رائحة الحريق هنا.
قالت العجوز الطيبة، بحزن معتق، وهي تخبط على صدرها: – ولكنه هنا، ولكنه هنا، هنا!
-هي جنتا، إذن… فها هو الغبار ينجلي والنبي شيت تتبدى سليمة. إنه بعدها، فوقها بانحراف إلى الجنوب الشرقي. نعم، إنها جنتا!
لوت العجوز الطيبة عنقها وأغضت ببصرها وهي تقول كمن يحدث نفسه:
-أو أية مدينة عربية! الكل أهداف مستكينة تنتظر دورها، وليس على طياري العدو سوى أن يختاروا فحسب.
تعبت الأعناق وهي تتلوى رافعة الرؤوس المكللة بالعار، وساد جو من “الاطمئنان” بعدما استوثق الجميع من أن الغارة قد أدت غرضها المحدد وانتهت.
تعبت الرؤوس مما يدور فيها من أفكار كسيحة، تحوم في فراغها اللزج وترتطم بجدرانها الصماء محدثة دوياً متمادياً يتدرج أزيزاً ثم يقترب من الولولة تقطعها وتتخلهها أصوات رجالية خشنة ومجرحة بالحزن تنفث عبر شجنها كرامة الموتى بلا قبور!
في الطريق صوب جنتا التي سورها الموت والخوف من الموت، والخوف من أن يرى الناس صورة الموت، كان الفلاحون يستعيدون صورة ما جرى عبر دخان لفائفهم الأميركية، وقد الهتهم الغارة عن متابعة العمل في حقولهم.
كانوا يصفون “المشهد” ببلادة، كمن يشاهد الشريط السينمائي ذاته للمرة العاشرة: كيف انزلقت الطائرات الحربية الإسرائيلية من فوق قمة صنين هابطة مع السفح إلى مستوى سطوح البيوت وقمم الأشجار في السهل، لتعود فترتفع متدرجة مع السفح الآخر حتى إذا بلغت هدفها أفرغت شحنة المبيدات للناس والزرع والأفكار والبيوت وتسلقت جدار السماء العربية فاستوطنتها طاردة منها الملائكة والأنبياء والدعوات الصالحات…
-لولا السرعة لتمكنت من تبين ملامح الطيار…
رد عليه جاره بنبرة تنضح بالسخرية المرة: – تتحدث عنه وكأنك تعرفه!
-أنا؟! لا، أعوذ بالله… أما هو فيعرفنا فرداً فرداً، ويستطيع التمييز بين بيوتنا، لهذا فهم لا يخطئون أهدافهم..
-ومن يحاسبهم إذا ما أخطأوا؟! لن يكون عليهم إلا العودة، كرة أخرى،
-أتعرف إنهم يصورون هدفهم قبل قصفهم ثم بعد القصف؟1
-وكيف يخطئون وهم يتمرنون فينا يومياً منذ ربع قرن أو يزيد؟!
-ألسنا نصحو يومياً على خرق جدار الصوت؟! أتراهم، يجيئون للهو والنزهة؟! إنهم يجيئون كل يوم، يصورون عمودياً وأفقياً، من فوق ومن الجوانب كافة، من اليمين، من اليسار، بالأبيض والأسود وبالألوان، يقومون بغارات وهمية، يمتحنون تنبه الجند والمقاتلين وقدرات أسلحتهم ومدى رصاصها الذي أثبت نجاحه مرة واحدة: في حرب الشوارع وقتل الأبرياء خلال الحرب الأهلية!!
كان الدخان قد ضاع هباء في السماء البلا حدود، وكانت اصوات الانفجارات قد انتقلت لتصير أخباراً تافهة في النشرة الإخبارية التافهة للإذاعة التافهة يتأتىء بها مذيع رأسماله حنجرته وبين الحنجرة والدماغ والقلب طرقات مقطوعة.
كأن شيئاً لم يكن.
مجرد خبر، تليه بعض التحليلات والأصداء والتعليقات لمسؤولين بلا أسماء، الكلمة خطيرة، وقد تجعل صاحبها هدفاً، ولسانك حصانك إن صنته صانك، وإذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب…
بعد الخبر ستأتي البيانات المتهدجة بطبول الكلمات الفارغة، وقد تلحق بها بعض رقاع النعي وربما – غد أو بعد – بعض صور الشهداء الذين سقطوا بعيداً جداً عن هدفهم الذي لا يطال!!
بين هذا وذاك، قد نسمع بعض السفراء الأجانب يقولون بعربية مكسرة: – أنا لا أظن إن إسرائيل ستقوم باجتياح واسع، ربما فقط بضربات عسكرية محدودة، غارات، هجمات على مواقع معينة… وهذا كل شيء، ولأسباب مفهومة!
… وماذا لو أدت هذه الضربات والغارات والهجمات المحدودة إلى تهجير عشرات الألوف، وإلى استشهاد بضعة أطفال وبعض الرجال والنساء، وإلى تدمير عشرات المنازل بالأحلام التي تعشش في سقوفها وفي شجيرات البيلسان التي كانت تغطيها بمظلة من الحبيبات البيضاء المشتعلة في قلب أخضرها الداكن؟!
-قد يسقط ضحايا، نعم، وهذا مؤسف… لكن، لا خطر على السلام!
في إذاعة العدو كانوا يواصلون الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين لتوحيد “القدس” في أعقاب هزيمة 5 حزيران 1967 التي تسكن الشمس العربية فتغشيها بالأسود وتحبس نورها حتى لا نكاد نرى إلى اليوم.
… وكان ناصر الدين النشاشيبي (ما غيره) ينطلق بفصاحته المعهودة عبر “إذاعة إسرائيل من أورشليم – القدس” ليستعيد نسخة أخرى من ذكرياته تناسب مقامه الجديد!
هي غارة أخرى، وإن بسلاح فاسد!
أما الإذاعات العربية فكانت تتبارى في نقل أخبار الانتصارات المتلاحقة، بعد أن تفرغ من أدراج البرقيات والتهاني والتبريكات والإشادات والاستقبالات التي أجراها أصحاب الجلالة والفخامة والسمو، فغيروا فيها العالم وكتبوا عبرها تاريخه الجديد:
*أكراد العراق يمارسون الديموقراطية الألمانية بالرعاية الفرنسية على الطريقة الأميركية وبحراسة طائرات مشابهة لهذه التي أغارت على جنتا صباحاً فيثيرون حسد أشقائهم أكراد تركيا على هذا التسامح العربي الأصيل… في حين يضطر “أتراك الجبال” إلى خوض كفاح مسلح شرس على الطريقة الغيفارية في غياب لينين الاتحاد السوفياتي وماوتسي تونغ الصين وهونيكر ألمانيا وتشي غيفارا شخصياً.
*وفي الجزائر يطارد الانقلابيون على الطريقة الأميركية بالأسلحة السوفياتية “الأصوليين” الغربيين المؤمنين بالرأسمالية واقتصاد السوق مثلهم، فيقتلون منهم يومياً بمواجهات مباشرة أو بغارات كالتي شهدتها جنتا هذا الصباح،
*وفي السودان يطارد الحكم الانقلابي ثوار قرنق حتى واشنطن، يجليهم عن قواعدهم الأثنية في جنوب البلاد ويحاول فرض الإسلام من دون العروبة عليهم، مستخدماً لاستمالتهم اللغة الإنكليزية في “الدعوة الجديدة”… لكن مهووساً في كندا يكمن في المطار للمرشد العام للنظام الشيخ حسن الترابي فيمتحنه في “الكاراتيه”، ويكون ثمن فشله إصابات خطيرة تحرمه النطق وتفرض عليهم صمت المهزوم في أفكاره أولاً،
*وفي ليبيا تستمر العيون شاخصة إلى السماء، والآذان مفتوحة لسماع هدير الموت وهو يزحف إلى تلك البلاد التي بالكاد عرفت طريقها إلى غدها… فنصبت لها المحكمة، وحوكمت غيابياً، وصدر الحكم، وبقي أن يتفرغ لها “الجلاد” باسم الشرعية الدولية والنظام العالمي الجديد…
أما في بيروت فليس غير عظة الأحد المعتادة التي يطلقها البطريرك الماروني غارة على الحكم والانتخابات ومن يناصره ويناصرها، وغير المزيد من التحليلات عن “الثقة” التي نالتها الحكومة بمعزل عن بيانها من مجلس معزول عن دوره،
كل شيء هادئ فوق الأرض العربية،
والكل يلتقي مع ذاته ولا يلتقي الآخرين، ومع ذلك تتطابق وجهات النظر حول المسائل ذات الاهتمام المشترك والتي تندرج فيها قضايا الكون كافة.
كل شيء هادئ فوق الأرض العربية… حتى الموت!
وحده الهدير الحامل مزيداً من الموت يذكر بأننا ما زلنا أحياء نتنفس بانتظام، نأكل ونشرب وننام ونتناسل ليتباهى العالم بنسلنا الشريف!