مرحباً برئيس وزراء مصر، الدكتور عاطف عبيد والوفد الفخم المرافق له، حتى لو كانت زيارته وكما جرى التوكيد ذات طابع بحت اقتصادي وتقني وتتصل بوجوه التعاون (المحدودة) بين البلدين الشقيقين في مجالات التبادل التجاري والصناعي والزراعي وكل ما هو بعيد عن »السياسة«؟!
ستظل الزيارة بالنسبة للبنان »سياسية«، ومجرد جولة تفقد لمحطة من محطات التحويل الكهربائية التي دمرتها اعتداءات الاحتلال الإسرائيلية وساهمت مصر ولو بمهندس أو بقطعة غيار أو بقرش واحد في إعادة بنائها، هي من حيث المبدأ موقف سياسي، ولو عز اكتماله.
ناهيك بأن الزيارة تتم في توقيت له دلالاته اللبنانية حتى لو لم يكن مقصودا لا من بيروت ولا من القاهرة، فهي تجيء مع الذكرى الثامنة عشرة لاتفاق الإذعان الشهير (17 أيار 1983) الذي أسقطه لبنان وها هو الآن يسجل انتصارا جديدا على الاحتلال الإسرائيلي ولو بكلفة عالية.
أما القول بأن وجوه التعاون محدودة فلأنها أقل مما ينبغي، وأكثر إشكالات مما يجوز، إما بسبب فترة الانقطاع (النسبي) الطويل، وهو انقطاع كانت السياسة في أساس دواعيه، وإما بسبب من الانشغال بالذات، هنا وهناك، وإما بسبب من حظر غير معلن ولكنه ثابت أو مثبَّت كالتزام تفرضه السياسة على المصالح فتلغي معه أو هي تضعف الروابط الأخوية و»موجبات المصير القومي« التي أخرجت من دائرة الفعل أو الهدف المرجو لتدخل الشعر ومرثيات الماضي فتستقر فيها.
والحقيقة انها ليست حالة خاصة بمصر ولبنان بل هي تكاد تكون السمة الغالبة على العلاقات العربية العربية، مشرقا ومغربا، وخليجا، في الظروف الراهنة، إذ نادرا ما نقرأ أو نسمع، فضلاً عن أن نلمس وبالمحسوس، النتائج الفعلية لتعاون جدي يندفع نحو غاية عزيزة المنال كالتكامل على قاعدة ثابتة من المصالح المشتركة التي يمكن ان يكون عنوانها، مثلا، السوق العربية المشتركة، حتى لا نحلم فنقول »الوحدة الاقتصادية« ونسمع من يتهمنا في عقولنا!
حتى بيان لبنان وسوريا، وبرغم »العلاقات المميزة«، وبرغم »معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق« وبرغم الشعارات الجميلة مثل »شعب واحد في دولتين« أو »تلازم المسارين« والإيمان »بوحدة المصير«، فلا يمكن اعتبار ما بين بيروت ودمشق وعلى المستوى الاقتصادي تحديدا، نموذجا ناجحا للتعاون بين دولتين جارتين محاصرتين وتعانيان من ضغوط سياسية مولدة لمسلسل لا ينتهي من الأزمات الاقتصادية الجدية لها تعبيراتها الفجة هنا وهناك، ثم انها ستلقي حتما بظلها على وحدة الموقف السياسي.
هي حالة عربية عامة: كل يعيش أسير أزماته وتحت ضغطها، فيندفع مبتعدا عن »أخيه« وجاره الأقرب، مفترضا ومتوهما أو مضطرا الى التسليم بأن الحل في البعيد ولدى البعيد.
وأمس، في الكويت، استمعنا الى »مناغشات« خليجية تؤكد هذا الواقع البائس.
فالشبح الأميركي، الموجود عسكريا على الأرض الآن، يفصل فعليا بين كل قطر خليجي والقطر الآخر، فلا يتواصل إثنان إلا تحت خيمة مصالحه وبتدخل فظ أحيانا،
آخر الأزمات التي تناقلت أجهزة الاعلام أخبارها هي أزمة بئر للغاز في الخليج تعتبره الكويت في مياهها الإقليمية وتنازعها عليه المملكة العربية السعودية، في حين كانت الحفارات الإيرانية تعمل هناك على مدار الساعة، بافتراض من طهران ان البئر يقع في مياهها الإقليمية هي، ولكنها مستعدة للتنازل بقبول التفاهم أو التحكيم.
.. وبينما الكويت تعيش، ويفرض عليها الحليف الأميركي أن تعيش، هاجس الرعب من احتمالات »غزوة صدامية« جديدة، ولو في مستقبل الأيام، فإن دولة شريكة معها في مجلس التعاون الخليجي جاءت إليها بشخص وزير خارجيتها لتنصحها بضرورة التخلص من أثقال مآسي الماضي والالتفات الى المستقبل بنظرة واقعية (ومصلحية) بسلوك طريق »التطبيع« مع نظام صدام حسين، طالما ان لا أفق لاحتمالات سقوطه أو إسقاطه في المدى المنظور.
ولقد اكد الوزير القطري انه يستخدم تعبير »التطبيع« برغم الاسقاطات التي قد يشطح اليها الظن بسوء القصد!
في هذا الوقت لا تتعب دولة الامارات، وهي شريك رابع في مجلس التعاون الخليجي، من المناداة بضرورة المصالحة، وعلى مستوى القمة… ولم ينس الشيخ زايد، بعد، ما عاناه من الضغوط لتعديل »بيان ابو ظبي« الذي كان يريده اعلاناً بطي صفحة الماضي المأساوي وفتح صفحة جديدة في العلاقات العربية يستعاد فيها العراق الى الحظيرة العربية راضياً مرضياً،
بالمقابل فان دبي، الناجحة في تقديم نفسها كمركز تجاري اول في منطقة الخليج، تزيد من حجم تعاونها الاقتصادي مع عراق صدام حسين، مستخدمة في التبرير الشعار المحبب »التخفيف من معاناة اشقائنا في ارض الرافدين«.
وفي ندوة ذات مستوى فكري طيب عقدت في الكويت وشارك فيها خبراء وسياسيون وباحثون ودارسون حول مستقبل العلاقات مع العراق، وامتدت ثلاثة ايام طويلة، غابت اية اشارة الى الصراع العربي الاسرائيلي، وبالتالي الى تداعياته الحالية التي تثقل على لبنان وسوريا، وكأنما لا دخل لاسرائيل في ما كان في الكويت، قبل الغزو، ثم بعده، على وجه الخصوص، او انها لم تنتفع اعظم الانتفاع اقتصادياً ولم تتعاظم قوتها العسكرية حتى باتت »دولة عظمى« اقليمية، ودائماً بذريعة الاستعداد لمواجهة خطر مثل عراق نووي يحكمه طاغية، او وهذا هو الأدهى لحماية دول المنطقة (وأساساً في الخليج الغني) من مثل هذا الخطر!
مرة اخرى، اهلا برئيس وزراء مصر وصحبه الكرام، يجيئون الى لبنان المقاوم في زمن الشدة والضيق وافقتاد النصير،
وعسى تستطيع الحكومتان ان تتقدما خطوة واحدة على الطريق الطويل الذي طالما بدا مقفلا امام التعاون بالسياسة، وأمام السياسة بتوهم الافتراق في المصالح الى حد التضاد.
وسنقول غداً: في 17 أيار 2000 كانت مصر في لبنان، الى جانب سوريا، بينما اسرائيل تستعد لتخرج منه بالاضطرار وليس بالرغبة، وتحت ضغط دمه المقاوم الذي لكل عربي فيه نصيب.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان