شكراً لعمرو موسى على أنه جاء إلى لبنان، مخترقاً الحصار الذي يكاد يختنق فيه هذا الوطن الجميل وسط أزمته السياسية العاصفة المتعددة الوجوه.
والحصار في بعض جوانبه لبناني ، بمعنى أن أطراف الصراع السياسي يستهولون أي تراجع لأنهم يرون فيه انكساراً أو هزيمة في مواجهة خصومهم الذين كانوا إلى قبل شهور قليلة في مواقع الحلفاء .
لكن هذا الحصار عربي أيضاً، بدليل أن المسؤولين العرب الذين حذّروا من حرب أهلية في لبنان لم يكتفوا بتوصيف الأزمة، بل هم قد اتخذوا موقفاً مسانداً لبعض أطرافها الصامدة في الحكومة البتراء، ملقين ظلالاً من الشك على استقلالية الأطراف المنادية ب المشاركة في القرار ، وبالتالي على حقها في هذه الشراكة.
ثم إن الحصار دولي بالمواقف المعلنة لمعظم دول العالم تتقدمها الإدارة الأميركية التي صار الإعلان عن دعمها لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة لازمة في كل تصريحاتها اليومية، ولو كان موضوعها الأصلي الحديث عن ثقب الأوزون أو عن ضحايا مرض السيدا في أفريقيا.
متأخر هو السؤال: من باشر الحصار وفرضه كمنهج سياسي في معالجة أزمة متعددة الوجوه فاقم من خطورتها اختلاف التقييم للحرب الإسرائيلية على لبنان، بدءاً من المسؤولية عن توقيتها وانتهاءً بالمسؤولية عن نتائجها؟ وهل كانت مجرد كارثة اقتصادية واجتماعية، مع طمس كامل للدلالات السياسية العظمى للفشل الإسرائيلي فيها، برغم التحريض الأميركي (وبالتالي الدولي) المكشوف للحكومة الإسرائيلية على مدّها لعل المقاومة اللبنانية تتهاوى أو تضعف أو تكون فتنة داخلية تشغلها عن هدفها.
على أنه ليس متأخراً القول إن الوجه الآخر لهذا الحصار الدولي تمثل في محاولة تحريض الحكومة في لبنان على مقاومته، واستدراجها إلى مواقف تخرج بها عن بيانها الوزاري، أو أنها تحرج بها شريكها فتخرجه، فتكون أزمة عنوانها مختلف تماماً عن جوهرها إذ تتبدى وكأنها نتيجة خلاف على عدد الوزراء وليس على النهج السياسي المعتمد، وعلى موقع لبنان في خريطة الصراع المحتدم في المنطقة، من فلسطين إلى الخليج العربي (حتى لا نذكر أفغانستان!!) والذي أعطته الإدارة الأميركية اسم الفوضى الخلاقة .
وكان الأمل أن تساعد بعض الدول العربية ذات النفوذ المؤثر في لبنان على احتواء هذه الأزمة التي كان مقدراً لها أن تنزلق إلى مهاوي الحساسيات الطائفية بل المذهبية، وخصوصاً أن المناخ في المنطقة العربية موبوء بنتائج الاحتلال الأميركي للعراق وأخطرها التسبّب في إشعال فتنة دموية خطيرة بين توأمي الهوية العربية لبلاد الرافدين السنة والشيعة.
كان مقدراً أن تلعب السعودية ومعها مصر دور المطمئن لمن يفتقد الطمأنينة، ودور الضامن لمن يطلب ضمانة عبر توكيد الشراكة في الحكم والمسؤولية عن مرحلة ما بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً.
لكن الخلاف الذي شجر بين سوريا وكل من مصر والسعودية قد عطل هذا الدور ولو مؤقتاً، أو أنه تسبّب في تباطؤ حركته، إضافة إلى أن التركيز على تعاظم الدور الإقليمي لطهران في المنطقة العربية، لا سيما لبنان (وفلسطين) كان قابلاً للاستخدام في الدعوة إلى محاصرة هذا النفوذ… وهكذا أمكن تحويل لبنان تدريجياً إلى ساحة مواجهة بين الحلف السوري الإيراني من جهة والمعسكر العربي المحافظ والذي تطالبه الإدارة الأميركية بالنزول إلى الميدان، وإلا فإن النار ستنتقل إلى قلب غرف نومه.
… وكان طبيعياً أن تصل هذه المواجهة إلى قلب الحكومة اللبنانية، وخصوصاً أن بعض أطرافها السياسيين كانوا يجهرون بضرورة النزول إلى الحرب ضد النفوذ الإيراني (ومعه النفوذ السوري) من قبل تشكيل الحكومة الائتلافية، ثم رفعوا أصواتهم بالاعتراض أكثر فأكثر بعد انفجار الموقف في لبنان في وجه الوجود السوري وإجباره على الخروج بطريقة غير لائقة… وكان بديهياً أن يباشر هؤلاء هجومهم المضاد على شركائهم الذين تحولوا إلى خصوم بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان. وكان بديهياً أيضاً أن يستخدم تفردهم بقرار الحرب ضد الشراكة معهم، وبالتالي تبرير الانفصال عنهم والاستقلال بالحكومة مستفيدين من سيف المحكمة ذات الطابع الدولي، وإصرار الشركاء القدامى على المناقشة واستدراك ما يمكن اعتباره ثغرات قد تنتهي بهذه المحكمة إلى غير ما قامت من أجله متصلاً بكشف المخططين والمحرضين والمنفذين لجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري .
وهكذا فإن للأزمة التي تتخذ من تعديل الحكومة لتصبح حكومة وحدة وطنية شعاراً جوانب عديدة، دولية في جوهرها وإن تبدت محلية مع مساحة للعرب فيها… وخصوصاً أن لهم وظيفتهم في محاصرة النفوذ الإيراني، وفي ترشيد القرار السوري.
? ? ?
الكل يقول: إن الوضع في لبنان ينذر بمخاطر هائلة تتجاوز حدوده، وإن كانت مرشحة لأن تصدّع وحدته الوطنية وكيانه السياسي.
والكل يقول: إن اللبنانيين يتقدمون بأقدامهم نحو الفتنة، وإن هذه الفتنة لن تظل محصورة في لبنان، بل إن نارها عراقية المنشأ، برعاية الاحتلال الأميركي ستتمدد إلى أقطار المشرق العربي جميعاً.
والكل يقول: إنه يستحيل أن يكون في لبنان منتصر ومهزوم، بل إن الأطراف جميعاً ستكون في خانة الخاسرين.
والكل يقول: إن الخلاف على الحكومة هو الجزء الظاهر من جبل الثلج، وما خفي كان أعظم… ومع ذلك فإن العودة إلى صياغة تفاهم سياسي على الحكومة، بالتعديل، يوفر فرصة من الهدوء الضروري لمناقشة سائر موضوعات الخلاف في جو هادئ، بعيداً عن التوتر، وبما يمكن العقل من اجتراح الحلول أو التسوية في بلد تشكل التسويات جوهر تاريخه السياسي.
والمدخل إلى ذلك كله سحب الأزمة من الشارع، وخصوصاً أن الطرف المعترض قد أكد من جديد أن قوته الشعبية أعظم من أن تلغى أو يجري القفز من فوقها… ثم إن الحكومة من دون المعترضين لن تكون حكومة، ولن تستطيع أن تحكم في بلد يشكل الوفاق أساس الحكم فيه.
لقد أكدت المعارضة قوتها الشعبية، في مواجهة حكومة بتراء لكن لها عصبيتها الشعبية القوية، لا سيما مع تهييج الحساسيات المذهبية، فضلاً عن سندها العربي الدولي.
إذاً فهي لحظة الجلوس للتفاهم، وإبعاد خطر الانفجار الذي لن يخرج أحد منه سالماً، فضلاً عن الخروج رابحاً.
ولعل وجود كفاءة سياسية من وزن عمرو موسى، مشهود له بقدراته وموقفه الوطني القومي، قبل أن يتولى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية وبعدها، تساعد على الوصول إلى الصيغة العبقرية المانعة للفتنة والمؤهلة لفتح الباب لتجديد الحوار الوطني على قاعدة الشراكة الكاملة في الوطن، وبالتالي في حكمه، وفي تحمّل نتائج هذا الحكم.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان