كثيرا ما تحدثنا في إحدى مجموعاتنا الكلامية عن تطور العلاقة بين المرأة والرجل عبر العصور. أذكر أن ما خلصنا إليه من مناقشات طويلة هو أن مسيرة هذه العلاقة لم تكن دائما أحادية الاتجاه. ففي معظم المراحل بدى لنا الرجل مهيمنا على العلاقة وبدت المرأة راضية وسعيدة بوضعها تحت الهيمنة مستفيدة هي وأطفالها من الحماية التي تأتي مع هذه الهيمنة. وفي مراحل أخرى فرضت المرأة نفسها لتتولي بنفسها إدارة العلاقة بين الطرفين، هنا أيضا بدى الرجل في حالات غير قليلة هانئا وهادئا وراضيا. علقت بخيالنا عن الوضع الأول حين كانت الهيمنة للرجل صورة إمرأة يجرها الرجل البدائي من شعرها بيد وفي اليد الأخرى عصا غليظة يهش بها الوحوش فتطمئن امرأته إلى أنها في حماية من يقدر على حمايتها. علقت في خيالنا عن الوضع الثاني صورة كالي الإلهة الهندوسية صاحبة الأذرع المتعددة المتعطشة دائما للهوى والجنس وتحت قدميها يجلس القرفصاء الإله شيفا ينفخ في الناي سعيدا بمهمة امتاعها بالموسيقى وأشياء أخرى. كل وضع من الوضعين المتخيلين يمثل نموذجا متطرفا ولكنه غير بعيد تماما عن الحقيقة في زمن أو آخر.
***
في بداية جلسة من تلك الجلسات التي خصصناها لتطور العلاقة بين الرجل والمرأة عبر الآزمنة والأزمات والكوارث طلبت ابنة العشرين أن تستفسر. عرضت قضيتها مركزة على أمور في علاقتها بالرجال لم تفهمها أو لعلها لم تقدرها. قالت “أنا لم أقع في الحب وقد بلغت العشرين. مازلت لم أحظ بإجابة شافية عن سبب إصرارنا بلغات عديدة على معنى الوقوع في الحب. لماذا نسميه وقوعا وليس فعلا آخر. على كل حال جئت هنا لأنني أردت أن أسمع حكم الخبراء في فتاة تجاوزت سن المراهقة ولم (تقع) في الحب. أتوقع إجابة تطمئني إلى أن الحب قادم لا محالة وأنني ما زلت صغيرة ولم تأت بعد فرصة مناسبة، مع العلم بأن كل صديقاتي ومنهن من تجاوزن منتصف العشرين لم يقعن في الحب. اسأل أيضا إن كان غياب الحب شرط من شروط الانتقال السلس إلى ما تسمونه عصر الحداثة وتعددية الثورات، أم أنه مؤشر على بداية ليبرالية جديدة تنمو وتترعرع في ظلال القمع السياسي والعاطفي. لا أظن أن أحدا في الغرب، مصدر وحيكم، اختار بالفعل عنوانا لهذه الليبرالية الجديدة أو استطاع أن يتوصل إلى تعريف جذاب لعقيدة تهمل الحب وتطارد المحبين والعشاق وتفضل عليهم المتحرشون والمنافقون.
***
سمعت منكم، ومن أهلي، أي من كل الكبار الذين احترمهم، الاتهام بأننا أبناء وبنات هذا الجيل لا نختلط بعضنا بالبعض الآخر كما ينبغي أن نختلط. تطلبون منا المستحيل. تعرفون أنه لم يعد يوجد في بلدنا هذه المساحات الهادئة والمنعزلة لنلتقي آمنين ومطمئنين. وأظن أنه لم يعد يوجد في قواميسنا كلمات كالكلمات التي كنتم تتبادلونها وأنتم تراهقون. وأخشى القول أنه لم يعد يتوفر لدينا الصبر اللازم لقضاء وقت في لقاءات ثنائية نتبادل فيها النظرات وتتلامس الأيدي ونحلم سويا في عوالم تخيلية غير تلك التي أخذتنا إليها وأسكنتنا فيها أجهزة اتصالاتنا وتواصلنا الحديثة.
***
سألناها “مع أي نوع من الذكور تختلطين؟” أجابت “تسألونني السؤال الصعب. أعتقد أنني ورفيقاتي لا نفكر كثيرا في أن نصاحب ذكورا بالمعنى التقليدي الذي يتضمنه سؤالكم. لعلمكم لا يوجد في أي شلة تضمني شاب واحد أستطيع أن أقول أنه يشبه في تصرفاته أبي أو عمي أو أحد أخوالي. لا أتخيل شابا نخالطه سوف يكبر ويصير رجلا مثلهم. هو واحد منا وليس مختلفا عنا. يرقص عندما نرقص وعندما لا نرقص. نظيف المظهر ويستخدم العطور كما نفعل، لا نشم حوله رائحة الذكور التي نشمها أحيانا في طوابير حجز تذاكر دور السينما. لا يحكي متفاخرا ببطولاته في أي مجال إلا ربما ألعاب الفيديو وحلبات الرقص التي نتشارك فيها ونتنافس. يتعاطف مثلنا وربما أكثر قليلا مع ضعاف الحال والجسد والمساكين. أرى في نظرة واحد منكم على الأقل لمحة سخرية مشوبة بالاشمئزاز”.
تدخل أحدنا مقاطعا “تقصدينني طبعا”. لا بالتأكيد لم أقصد السخرية. إنما تذكرت المؤرخ الأمريكي آرثر شلزنجر الذي أعلن في الخمسينات استنكاره الشديد للذكر الأمريكي الجديد ابن مرحلة الرخاء التي اعقبت الحرب. وصف أبناء هذا الجيل من الذكور بالمخصيين بسبب انبهارهم، كالنساء، بالضعفاء والفقراء والمساكين. شلزنجر وعديدون من مفكري هذه المرحلة كانوا يترحمون على عصر “الليبرالية العضلية” حين انشغل ذكور أمريكا بحروب (تحريرها من الهنود الحمر) وتوسيع رقعتها حتى صارت تمتد من محيط إلى آخر. في السياق نفسه كتب اليكسي دى توكفيل المفكر الفرنسي يصف الرجل كما يجب أن يكون، هو هذا الفرنسي الخشن الطباع والقاسي القلب الذي حارب عرب شمال إفريقيا واحتل الجزائر. تعرفون طبعا أن رجال البورجوازية الأوروبية كانوا يبعثون بأولادهم الذكور إلى مدارس داخلية لينشأوا بعيدا عن حنان الأمهات وتدليلهن وبعيدا عن الاختلاط بشقيقاتهن من الإناث وبعيدا عن الفقراء والضعفاء. حجتهم أنهم يريدون أن يكبر أولادهم كرجال”.
استطرد الصديق المتحدث قائلا “الرجولة تراجعت أو هكذا فكر مفكرون عديدون. يعتقد أحدهم ويذهب مذهبه آخرون أن بن لادن أعلن سقوط الرجل الغربي وبخاصة الرجل الأمريكي. في رأي هؤلاء أن فيتنام كسرت رجولة أمريكا. أما أنا فاعتقد شخصيا أن هزائم أمريكا في حروبها المتعددة خلال الحرب الباردة ساهمت جميعها في انكسار هذه الرجولة، فضلا عن حقيقة أخرى وهي أن الانكسار بدأ مع تحول الإنسان من العمل اليدوي إلى العمل المكتبي. ومن قبل هذا التحول كان للثورة الصناعية دور في تحول أهم ألا وهو ربط الإنسان بالألة. هناك اختلطت القوتان، قوة الآلة والقوة العضلية. انتصرت الآلة وانهزم الرجل. منذ ذلك الحين يحاول الرجل تعويض النقص في هيمنته بإثبات قوته ولو مظهريا. كم زعيم في عالمنا المعاصر عجز عن تحقيق كل آماله وطموحاته فراح مستشاروه ينصحونه بممارسة رياضة السباحة في البحار الجليدية أو الركض في الصباح الباكر أو ركوب الحصان بنصف جسد عار كما يفعل الرئيس بوتين أو مخالطة النساء علانية والتباهي بهن وبجسده الضخم كما يفعل الرئيس ترامب. رؤساء وسياسيون كثيرون أشعلوا قضايا قومية ليكتسبوا من فكرة بناء الدولة القوية قوة شخصية لهم تعوض ضعفهم وضعف مجتمعاتهم في نواحي أخرى. ألم يكن بنيتو موسوليني واحدا من هؤلاء”.
طلبت الصديقة الأكبر عمرا بين نساء المجموعة التصريح لها بالتعقيب فقالت بأنها توافق على الرأي بأن النظرة إلى الرجولة اختلفت عبر العصور. “كيف ننسى أن رجالنا عاشوا في وهم المسلسل التلفيزيوني الشهير (مهمة مستحيلة) ووهم ما يسمى الرجال الأبطال من نوع رامبو وجيمس بوند وأرنولد شوارزنجر وسوبرمان والرجل الوطواط. ألم نشعر نحن النساء وقتها بأن رجالنا بإقبالهم على هذه الأفلام وتعلقهم بهؤلاء الأبطال كانوا يحاولون اكتساب قوة يعوضون بها عجزا في مجالات شتى. تذكرون ولا شك أن معارضين للحرب اتهموا الرئيس روزفلت، وكان مقعدا، بأنه شن الحرب على دول المحور تعويضا عن ضعفه الجسماني. اتفق شخصيا مع كل من يقول أن الانضمام لداعش والقاعدة ومنظمات إرهابية عديدة يخفي رغبة ملحة في تعويض العجز في الرجولة، سواء في معانيها التقليدية أو المعاني العصرية. تذكروا معي تصريحات السفاح النرويجي الذي قتل عشرات الأطفال في رحلتهم الترفيهية وبخاصة ما قاله عن أن الفايكنج كانوا آخر الرجال”.
***
اعتذرت لابنة العشرين من أننا ركزنا على الرجال متجاهلين حقيقة أن المرأة ربما تغيرت أكثر مما تغير الرجل. سمعت من يبالغ ويفتي بأن المرأة وليس الرجل وراء التغير الجوهري في الفهم المعاصر لمفهوم الرجولة. قاطعتني ابنة الثلاثين وخريجة كبرى جامعات كندا وقالت أن لكل مرحلة نساءها. “نحن النساء لسنا نسخا من طبعة واحدة. لقد صدرت منا عبر القرون طبعات عديدة منقحة ومزيدة وطبعات أخرى مبتسرة أو تفي بالغرض. أنا لست من طبعة حواء والسيدة خديجة ولكن ربما كدت في مرحلة أن أكون نسخة من طبعة ستنا مريم العذراء والقديسة تيريزا وبالتأكيد لست نسخة من طبعة حريم السيد دونالد ترامب ابتداء بدانيلز العاصفة وانتهاء بميلانيا المقهورة. من منكم يا أصدقائي قرأ كتاب هارفي مانسفيلد أستاذ الفلسفة بجامعة هارفارد بعنوان الرجولة والصادر عام 2006. مانسفيلد يستنكر واقع خروج المرأة للعمل لأنها بذهابها إلى عمل خارج البيت وحصولها على أجر وإقامتها علاقات بمؤسسات خارج العائلة نسفت فعليا دور الرجل المخصص لحمايتها. اليوم ليس من حق أحد أن يدعى بأن وظيفة الرجال حماية النساء وأطفالهن. هكذا نكون نحن النساء قد تخلين طوعا عن هذا الحق الموروث منذ فجر التاريخ في الاطمئنان إلى الرجل كمظلة حماية. رحنا جميعا كنساء نقيم مظلات حماية بعقد اتفاقات مع الدولة أو الشركة أو المؤسسة التي نعمل فيها أو بإقامة صداقات وصفقات مع أشخاص آخرين ليس بينهم بالضرورة رجالنا. تغيرنا كنساء وتغير فهمنا لمفهوم الرجولة”.
***
استطردت الصديقة من كندا تقول “من ناحية أخرى لم يقع نيال فيرجسون في خطأ جوهرى علما بأن لهذا الاقتصادي الشهير أخطاء عديدة. لم يقع في خطأ حين لفت نظر الناس عامة إلى أن فتيات عصرنا لا يلعبن بدمى كتلك التي لعبت بها أمهاتنا وجداتنا. بمعنى آخر لدينا الآن وفي المستقبل من وجهة نظره نسوة مختلفات عن كل نساء التاريخ اللائي لعبن بعرائس ورقية أو قماشية أو حجرية. نسوة اليوم عاطفتهن بالتالي أقل دفئا وأبطأ استجابة من عاطفة قدامى نسائنا. الأهم والأخطر أنه يلوم المرأة المعاصرة التي تسببت في (إفقار الديمغرافيا الأوروبية) وشيخوخة مجتمعات أوروبا. شاخت أوروبا منذ تغيرت أنوثة المرأة.
إن صدق فرجسون في تحليله فالبشرية في هذه الحالة مرشحة لأزمة مركبة في العلاقة بين امرأة تغير دورها ونظرتها إلى نفسها ورجل تغيرت مواصفاته ونظرته إلى دوره ومكانته ومناحي قوته وضعفه. كيف ننكر كنساء أننا لم نعد نقبل كل ما يعرضه الرجل والمجتمع علينا دون تفكير متأني. نحن الآن أحرار وربما إلى درجة لم نحلم أن نصل إليها. البعض منها، وهو غير قليل العدد، يقع في حب نساء أخريات وليس في حب رجال. من ناحيتنا، ونحن الأغلبية في مضمار حركة تحرر النساء، نريد أن نتمتع بثمار جهودنا وثورتنا. نريد تحقيق أقصى نجاح في المدرسة والجامعة والمكتب والبيت والفراش، كله بجودة عالية وكفاءة متناهية.
كلمة أخيرة وبعدها أنسحب من اجتماعنا راضية وسعيدة. دعونا لا ننسى أن سنوات قليلة تفصلنا عن هيمنة طرف ثالث سوف يقتحم حتما عموم وتفاصيل العلاقة بين الرجل والمراة. هذا الطرف باقتحامه قد يتولى بنفسه تغيير فهمنا كنساء ورجال لمفاهيم وأدوار نؤديها وحياة نحياها. أما هذا الطرف الثالث فهو الإنسان الآلي بالغ الذكاء والمبرمج ليكون أذكى، أي أقوى من كل الرجال وأمهر من كل النساء”.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق