الشاعر قصيدة واحدة عند جوزف حرب.
لكأنه ولد يكتب الشعر، وحدّد لنفسه مهمة أن يظل يكتبه حتى يفرغ من قلمه الحبر الذي يفصِّل بمقصه قمصاند للصبايا البيض.
لكأنه يكتب بلا توقف. لكأنه لا يريد أن يغادر أي متردم، لكأنه يريد أن يقول كل شيء دفعة واحدة وفي جملة واحدة قد تمتد ديواند أو ديوانين أو ثلاثة دواوين، لا يهم العدد، المهم اكتمال المعنى الذي يحتاج دائمد الى المزيد من “الصبايا البيض” ومن “مقص الحبر” ليخلقها قصائد.
جوزف حرب يضيع خارج الشعر. انه يصبح متبطلاً متفرغد للتدخين ولمضغ الأخيلة التي ستتحول إلى رؤى فإلى صور، فإلى موسيقى متدفقة، تنساب هادئة رقراقة في البدايات، ثم تهدر وهي تندفع في اتجاه الشلال المقلوب الذي يشعرك بأن النهر يصعد إلى فوق ولا ينحدر نزولاً.
ولأن جوزف حرب “جنوبي”، ولأنه يغسل وجهه بالتراب كل صباح، ويحتفظ بكمشة منه ليعطر الغرف التي يدخلها، فهو يجد في كل لحظة ما يضيفه الى الرعشة التي تستعصي على الاكتمال.
وجوزف حرب دائم الترحال بين “الجاهلية” ومعلقاتها وبين الإيقاعات الجديدة: تأخذه النشوة باللغة الى الجزالة في اللفظ والمتانة في السبك، ثم تهف نفسه الى الأداء البسيط والمباشر ذي النغمات السريعة والقصيرة الصدى.
لكن القصيدة مفتوحة دائمد على الهواجس التي تتجاوز النبوءة بالقلق الشائك، ولذا فهي تبحث باستمرار عن خاتمة، لا هو يريد إيجادها، ولا هي تتبرع بالحضور واعتراض مجرى “العاصي”.
مرات، يقرر جوزف حرب أن يشطر بعض أبيات القصيدة الواحدة، فإذا بين يديك ديوان “شعر بالمحكي” كالذي أصدره مؤخرد تحت عنوان “مقص الحبر” في ثلاثمئة وعشرين صفحة صقيلة مزينة بلوحات للرسام فارس غصوب.
العامية اللبنانية، أو المحكية، تسمع ولا تقرأ.
إن القراءة تفضح الحطام الذي يحاول عبثا أن يملأ قوام المعنى.
أما السماع فأمر آخر، لأن الموسيقى تستعيد موقعها وتملأ بجرسها ما تقصر عنه الحروف المدغومة أو المشذبة أو الملوية حسب أصولها اللغوية أو التأثيرات البيئية على نطقها ومخارج اللفظ.
“مقص الحبر” حيلة، مجرد حيلة، يلجأ إليها جوزف حرب ليتنفس ملء رئتيه وهو يهم بإضافة أبيات جديدة الى القصيدة ـ النهر التي وهبها عمره مجالاً للاكتمال. و”الشعر المحكي” في هذا الديوان ليس إلا شطورد من بيت واحد في القصيدة التي لا تكتمل إلا بصوت جوزف حرب ونبرته التي يضج في ثناياها عنترة والمتنبي، طرفة بن العبد والحطيئة وأبو تمام وقبيلة من شعراء الفخر والحماسة والمأساة التي تجرجر نفسها داخل الماضي والحاضر، والتي يريد جوزف حرب أو يتمنى أن يكون بيتها الأخير بشارة بالمستقبل.
لكن الأفراح لا تكون فردية،
ولذا سيظل جوزف حرب مرحبا بيته الأخير حتى تصدق النبوءة وتطل الخيوط الأولى من فجر جديد.
وهو ينتظر الفجر الجديد في الجنوب ومنه.