لست تدري هل أنت أمام سيرك، أم أنك تحضر شريطاً سينمائياً يضحكك حتى البكاء.
تتبدى مواقع المسؤولية، الرئاسات ثم الوزارات فالنيابات فالإدارات وكأنها فارغة: الرؤساء متخاصمون، لا يكلم بعضهم البعض الآخر ولا تواصل، وسفراء الدول العظمى (وبينها بعض الدول العربية) يدورون بين مقار الرئاسات والزعامات والفاعليات تلتقط لهم الصور وتقدّم للناس كالأفلام الصامتة.. وعليك أن تمتحن نفسك في قراءة الوجوه والشفاه، وأن تقلّب التصريحات لعلك تقرأ في ثناياها جديداً، وتطاردك الشكاوى والتذمر واللعنات والشتائم الموجهة إلى “الجميع” بغير تمييز، من هم في السلطة ومن هم خارجها، بافتراض أن الكل شريك في المسؤولية عن الأحوال المزرية التي نعيش فيها، وعن القلق المشروع والذي يتفاقم يوماً بعد يوم وكلما افتقد المواطن دولته كما مرجعيته المؤهلة لقبول شكواه والتصرف بما يحسمها..
الكل يشكو ويتظلم ويتفجع مُحيلاً المسؤولية إلى غيره، مبرئاً نفسه من المشاركة في توليد البؤس وتعميمه، وفي دفع البلاد نحو هاوية الجوع، وتهديد الدولة بالإفلاس وتنصّل المسؤولين من مسؤوليتهم عما نحن فيه، وكأنهم قد وصلوا تواً إلى بلاد الأرز،
وكالعادة، لا بد من إشراك سفراء دول القرار في المشاورات وربما الطلب إليهم أن يبذلوا مساعيهم الحميدة لتمكين الجميع من العودة إلى التوافق وتحمل مسؤولياتهم في إخراج البلاد من المأزق الذي يهدد استقرارها ومستوى حياة أهلها..
يدوخ المواطن وهو ينقل الإبرة بين محطات التلفزيون للاستماع إلى تصريحات “أهل السر” او وهو يقرأ ما بين السطور في الصحف، او يسمع إيماءات المفوهين من النواب (والوزراء احياناً).
أبسط نتيجة يمكن استخلاصها أن ليس في البلاد من يقودها، وأن ليس للشعب من مرجعية عادلة وصالحة لإنصافه، وليس بين المسؤولين من يمكنه إيجاد الحل او مشروع حل ما للأزمة التي تزيد من حدة انعكاسها على الناس معيشياً، أي اقتصادياً، فضلاً عن تفاقم أزمة الحكم إلى استعصاء الحل..
لقد سمع المواطنون في الأيام القليلة الماضية، من كبار المسؤولين اتهامات ضد بعضهم البعض، وهم يتداولونها علناً، وبقدر من التشفي بل الشماتة بما يدل على الافتقار إلى المسؤولية وعدم الاهتمام بانعكاس هذه المواقف على الشعب ووحدته، وعلى الأمن او استتبابه وعلى اقتصاديات البلاد وأسباب معيشة العباد.
إن العدد اليومي لمغادري البلاد إلى حيث ألقت رحلها ام قشعم في ازدياد مضطرد.. وكثير منهم بل الأكثرية على الأرجح لا تملك الضمانة بسرعة الحصول على عمل، وبالتالي على دخل معقول، ولكنهم يراهنون على “ربما” او “قد” او بعض المعارف والأصدقاء ممن سبقوا إلى الرحيل ومن ثم الاستقرار في ديار الاغتراب.
.. ويبدو أن “الخارج” أقله بعنوان فرنسا، قد انتقل من دور “الوسيط” إلى دور المدعي العام، وباشر إطلاق الاتهامات صريحة ضد مسؤولين كبار وقوى سياسية لها دورها المسؤول في حكم البلاد والمرجعيات التي تملك سلطة القرار.
بالمقابل، وعلى الصعيد الاقتصادي فإن البلاد تتقدم في قلب ضائقة اقتصادية حادة، بين معالمها اختفاء سلع أساسية (تمهيداً لرفع مفتعل لأسعارها)..
لا أحد يقر أنه مسؤول، وبالتالي فهو شريك في إيجاد الحل، او مشروع الحل المطلوب..
لأول مرة، تصدر اتهامات مباشرة من المكلف بتشكيل الحكومة ضد رئيس الجمهورية بأن اشتراطه زيادة حصته بين أسباب الأزمة ..
وبدلاً من الرد بتكذيب الاتهام فان الرئيس المتهم لم ينفِ التهمة، بل هو عللها بأنها ليست خروجاً على العرف المعتمد، بل أن من كشفها يتعمّد الإساءة إلى موقع الرئاسة الأولى بقصد احتكار قرار التشكيل بما يخالف النص والتقاليد المعتمدة في تشكيل الحكومات والحرص على الوحدة الوطنية من خلال الحرص على الشراكة وفق القواعد المعتمدة.
وبينما تشتد الحملات بين الرؤساء المختلفين وجد رئيس حكومة تصريف الاعمال الذريعة للعودة إلى السراي ومواصلة القيام بواجبات رئيس الحكومة ولو مؤقتاً.. مع الافتراض أن هذا المؤقت قد يدوم أكثر مما يقدر “الخبراء” في أزمات البلاد التي يقدم المسؤولون فيها على استيلاد أزمات تفوق قدراتهم وتزيد من تعقيد الأزمة بما يجعلها تغدو خطيرة ويصعب علاجها.. بالحلول الطبيعية.