الأديان الخلاصية مثل الإسلام واليهودية والمسيحية هي أديان دعوة، تريد أن تنقذ البشرية بعد أن تهديها. كثيراً ما ينتهي ذلك الى ارتكاب العنف بحق غير المهتدين أو الى حرب أهلية. مأساة المسلمين حول العالم هي أن ما يعتبرونه دفاعاً عن مقدساتهم يتحوّل الى مواجهات بينهم وبين الدولة والمجتمع. يتحوّل الدفاع الى أعمال عنف. يصنف إرهاباً. تهمة الإرهاب ليست وهمية حين تكون النتيجة ضحايا من دين آخر يقتلون بأبشع الوسائل في مخالفة قوانين البلد المتواجدين فيه.
الدفاع عن الدين لا يكون بالعنف بل بـ”كلمة سواء”. يلجأ الى العنف من تسقط لديه عناصر الحجة. لا إكراه في الدين. في بلد يعج بالحريات مثل فرنسا لا حوار إلا بالحجاج. الحوار بالعنف يسقط صاحبه بالمحاججة. يتخلى عن “الكلمة السواء”. يتخلى عما يجب أن تكون تعاليم دينه الى عنف، حيث لا يملك من أسباب المواجهة إلا العنف. اللؤم عند الدولة التي تحدث فيها المواجهة، أن الدولة تصنّف عمل العنف إرهابياً إذا كان المرتكب من أصل مختلف، حتى ولو كان مواطناً بالجنسية، وتصنف عملاً عنيفاً مشابهاً كجريمة إذا كان المرتكب مواطناً، لا بالتجنّس بل بالأصل والولادة وإرث البلاد التي هو فيها. بالنسبة للإرهاب، هناك مواطن طبيعي وآخر مجنّس مشتبه به دائماً. “ابن البلد” المرتكب يُسمى فعله جريمة. “الآخر” حتى ولو كان مواطناً بالجنسية يسمى فعله إرهاباً.
لم تستطع بلدان الغرب أن تدمج “الآخرين” من حاملي جنسيتها؛ أو أن هؤلاء غير قابلين للدمج أو الاندماج.
سواء كان المجرمون الإرهابيون قابلين للاندماج أو غير ذلك في بلد هو مثل أعلى في العلمانية وفي دمج مواطنيه (فرنسا)، فإن الأنظار تتجه أو يجب أن تتجه الى هؤلاء الذين يعجزون عن الاندماج في بلد تفرض قوانينه ذلك. لماذا لا يقبلون الحوار حول دينهم كما يقبل أهل البلاد من دين آخر الحوار حول دين مجتمعهم؟ يعيش هؤلاء في مجتمع لم يعد فيه مقدسات، أو هكذا يزعمون. مقدساتهم يعالجونها بعقلانية لا يمتلكها الوافدون المجنسون، حتى ولو كانوا من جيل ثان أو ما بعد ذلك.
مجتمعات مغلقة
الرؤية الدينية عند فريق من المسلمين تجعلهم غير قادرين على الحوار، وعلى تقبل النقد، وفي النهاية عدم تقبل “الآخر”. أو ما يعتبرونه آخر. هي رؤية تتناقض مع القدرة على تقبل الحرية. الحرية لا تكون إلا فردية في مجتمع مفتوح. يصر المسلمون في فرنسا، أو غيرها من الدول الأوروبية، على العيش في مجتمع منعزل مغلق؛ يشكلون طائفة مغلقة في مجتمع أساسه الانفتاح، خاصة بعد انتهاء الحروب الدينية في العصور الحديثة وعودة الهوغونوت (البروتستانت الفرنسيون). لكن هؤلاء المسلمين في أوروبا، هم امتداد للمجتمعات التي جاؤوا منها، وهي مجتمعات مغلقة، بمعنى أن العقل فيها مغلق. يلغي التاريخ. ينكر التجدد باسم إنكار البدع. يريد مجتمعاً سلفياً يعيش كما كان الأسلاف الصالحون. نهضة أوروبا قامت على رفض إنكار البدع الذي حاولت الكنيسة (والملوك) فرضه في ما يسمى العصور المظلمة، قبل القرون الوسطى، وقبل النهضة، وقبل الحداثة. والآن يحدثوننا عما بعد الحداثة. الأوروبيون يتحدثون عما بعد الحداثة، وعن المستقبل، وعن اليوتوبيا، وعن إرادة صنع الهوية. ما عادوا مجتمعاً مغلقاً. المجتمعات الإسلامية منذ عقود، بل منذ قرون، تحولت الى مجتمعات مغلقة. أعلنت سد الأبواب على التجديد وعلى البدع. كل بدعة ضلالة، والضلالة الى النار. تسيطر عليهم فكرة الآخرة. لا يعبأون بالأرض إلا بأن يحولوها الى صورة عنهم ولو بالعنف الذي يسمى إرهاباً. فقدت مجتمعاتنا ملكة النقد ومعها ملكة التهذيب. النقد يتطلّب تضارب الآراء والقبول بذلك، واعتبار الأخلاق رحمة، كما يقول الحديث الشريف.
ورثة وهم
لا ريب أن ذكريات الاستعمار ما زالت باقية. التدمير في مجتمعاتنا ما زالت أثاره باقية. لكنه أصبح من الماضي. يتوجب علينا النهوض. ذلك لا يكون إلا بالانفتاح والإبداع والخروج من الماضي الى المستقبل؛ مستقبل نصنعه نحن ولا يصنعه لنا غيرنا. ليس المطلوب الثأر للماضي بأعمال إرهابية أو إجرامية؛ سمها ما شئت. المطلوب انفتاح على العالم وأخذ بثقافته، وانفتاح يبدأ من أنفسنا. لم ينتصر الاستعمار في الماضي إلا لنقص أسباب القوة عندنا، وجمود ثقافتنا وتخلفنا. مهما كانت شكوانا من الماضي، إلا أننا لا نولي الحاضر ما يستحق. هل نريد حاضراً يكون فيه عالمنا الإسلامي في مواجهة مع بقية العالم؟
هناك فرق بين أن نكون ورثة عالم إسلامي يمتد من الأطلسي الى حدود الصين، عالم مفتوح على التبادل التجاري والثقافي، وبين أن نكون ورثة وهم اسمه السلف الصالح. نقول وَهْمَاً لأن السلف الصالح أسّس لعالم إسلامي مفتوح، لا لمجتمع مغلق. أسّس لمجتمع قوي معتد بنفسه، لا يخاف النقد ولا الأفكار الغريبة. ولا يخاف البدع والتجديد والنقد. مجتمع كان يرسل خلفاؤه رسله حول العالم لجلب الكتب القديمة الاغريقية والرومانية والهندية والصينية لترجمتها واستيعابها. المجتمع القوي لا يخاف البدع. البدع بمعنى التجديد الفكري هي التي تخلق التاريخ، وتُفْلِت العقل من عقاله والزمن من جموده والعقائد من تحجرها. هل فهمنا أو فهم غيرنا من أبناء ديننا، إذا كان القرآن ينطلق من معرفة مطلقة أو نسبية؟ وإلا لماذا كان ويكون كل عدة سنوات تفسير جديد للقرآن على يد علماء مسلمين؟ نص واحد ذو تفسيرات مختلفة. الاختلاف فعل تاريخ. الجمود يلغي النص. جمودنا الآن يعني إلغاء النص من نفوسنا لتحل مكانه أفكار وعقائد هي مجرد أوهام، لا تعتمد على حقيقة (حقائق موضوعية). التطوّر يعني أو يتطلّب نسبية المعرفة، وأن ما يصلح لزمان ما أو مكان ما لا يصلح لأزمنة وأمكنة أخرى. عندما أنجز “موطأ” الإمام إبن مالك، وهو كتاب في الحديث، طلب الخليفة تعميمه على بلاد المسلمين. رفض إبن مالك وقال اترك المسلمين وشأنهم. هم في بلاد مختلفة وظروف مختلفة. من الظلم أن نعمم عليهم كتاباً واحداً، كي لا يقرأون غيره.
المعرفة أولاً
لدى مجتمعاتنا الإسلامية أزمة في دينها، سواء كانوا من الشيعة أو السنة أو أي مذهب آخر. تعتبر هذه المجتمعات أن المعرفة تتأسس على الدين. لا أيها السادة، المعرفة لا تتأسس على الدين. الإيمان يتأسس على الدين. عندما يتجمد الدين يصير طقوساً، تشبه الرياضة البدنية ويفقد الإيمان صلته بالدين. الإيمان شيء والمعرفة شي آخر. المعرفة تتأسس على العلم الحديث لا على العلوم القديمة بما فيها العلوم الدينية. المعرفة في العالم المعاصر هي ما ينتجه الغربيون الذين كانت بينهم وبين مجتمعاتنا مواجهات في الأزمنة الغابرة. راهنا، علينا الأخذ من ثقافتهم، دون انتقائية، لبناء معرفة جديدة؛ بالأحرى للمساهمة في تطوّر العالم؛ هذا العالم الذي لا نستطيع إلا أن نكون جزءاً منه ومن ثقافته.
إغلاق فرنسا لجمعيات ومؤسسات إسلامية أصولية (إرهابية؟) هو ما كان يتوجب على أنظمتنا أن تفعله. لكنها لم تفعل، بل تصرفت بكل انتهازية مع جمهور اعتقد بالانغلاق دفاعاً عن النفس والتراث.
بالطبع يتوجّب علينا أن نواجه. المواجهة تكون أولاً بمواجهة ما في أنفسنا. هناك مشكلة دينية لدى المجتمع. مشكلة بين المجتمع والدين. المجتمع المغلق ينظر الى الدين وكأنه الملاذ الأخير في خضم أزمة خانقة. يرى العالم يشن الحرب ضده. يحسب أنه محاصر. ثورة 2011 كاد أن يسيطر عليها الإسلام السياسي، لكن العسكر استردوها.
المواجهة تدور لا بين فريق ديني يريد الإصلاح وفريق معادِ للإصلاح. ليس بين Reformation و Counter Reformation، بل بين العسكر والإسلام السياسي. كانا متحالفين، لكنهما نقيضان والمجتمع يرفضهما كليهما. تقوقع المجتمع لأن المتاح في السلطة أمران أحلاهما مر. يمارس النظام الاستبداد باسم الحداثة والتقدم والاعتدال (الديني). ويمارس الإسلاميون السلفية في رفضهم للاستبداد، لكنهم مستعدون لممارسة أسوأ أنواع الاستبداد حال وصولهم للسلطة (مصر مثلاً). تجد النخب الثقافية نفسها ضائعة. هي لا تريد الحداثة مع الاستبداد، ولا تريد الدين مع السلفية.
الصراع في الدين
هناك صراع حول الدين للقبض عليه كما هو (العسكر بأكثريتهم سلفيون)، وليس صراعا أو حواراً داخل الدين. الوعي السائد لا يناقش الدين. لا يثير ثورة من داخل الضمير. المطلوب صراع في الدين. الفرق بين الإثنين هو أن الصراع حول الدين يفترضه كماً ونوعاً ثابتين. ويعتبر الإسلام مجالاً يمكن السيطرة عليه لصالح سلطة أو جماعة. يختزل كل من هؤلاء، أو يحاولون اختزال الدين في مجموعة من العقائد التي يملؤون بها المجال الحضاري. بنظرهم الإسلام مركباً، يمكن للغالب سياسياً أن يركبه ويقوده، كما يمكن لغير الغالب سياسياً أن يحاول الأخذ بقيادته ليمارس نوعاً آخر من التسلّط.
الصراع في الدين هو شيء آخر تماماً. هو حوار ونقاش بين أتباع الدين حول ما يصلح وما لا يصلح لكل الأزمنة والأمكنة. هو النظر في الدين بتطوّره وبتاريخه، وفي كيفية توزعه على بقاع الأرض. فيه مبادئ كلية لا يمكن النزاع فيها أو حولها، وآيات متشابهة يمكن الاجتهاد فيها.
الصراع حول الدين هو صراع خارجي. خارج الدين. سياسي من أجل السلطة. صراع لا يتعلّق بالغوص في الدين والتاريخ لاكتشاف ما هو مناسب أو غير مناسب للعصر. هو صراع غالباً ما يستخدم العنف بسبب أهداف سياسية. الصراع في الدين داخلي. داخل النفس المؤمنة وغير المطمئنة. هو في الغالب حوار فكري ثقافي ينطلق من الإيمان وقواعد المنطق والفلسفة والعلم الحديث، لتبيان الصحيح الذي يصلح للعصر من غير الصحيح الذي ربما كان يصلح لغير زمان، وفقد صلاحيته لهذا الزمان. هو يفترض نسبية المعرفة التي أقر بها الأئمة، خاصة ابن مالك والشافعي وأبو حنيفة.
“العقل المستريح”
الصراع حول الإسلام لا علاقة له بالعقل والتعقّل. هو بالأحرى يميت العقل أو يجعله عقلاً مستريحاً. الصراع في الإسلام إحياء للعقل، إحياء لعلوم الدين، كما قال الغزالي. يفترض أن من بين 72 فرقة بينها اختلاف، هناك فرقة واحدة غير ناجية، وبقية الفرق يمكن اعتبارها ناجية. كما كان الإمام الغزالي يقول في “إحياء علوم الدين”. كلام يتضمن الرؤية بأن اعتبار الفرقة الناجية واحدة كلام فيه مصادرة للدين. هو ما يشكّل خطراً على الدين. هو كلام يصب في صالح السلطة السياسية أو الدينية. يرفضان في صراعهما حول الإسلام النقاش والحوار والتعدد. في كل ذلك خطر على السلطة، وعلى من يتسلّط، وعلى من يسيطر.
الصراع في الإسلام يخرج المجتمع من إطار “العقل المستريح” الذي تأتي أجوبته كلها معلبة جاهزة، لا يلزمها إعمال العقل ومستلزماته في الشك والتساؤل كطريق للوصول الى اليقين. هو يتطلّب فرضيات أبدية سرمدية. هو لا يبحث في المصلحة بل يفرض الدوغما. حتى الحنبليون قال أحد كبارهم وهو ابن عقيل “حيثما تكون المصلحة، فثم شرع الله”. نادراً ما استخدم القدماء عنوان الإسلام في أي من كتبهم. كانوا يستخدمون عناوين تدخل فيها تعابير “الأدلة”، والبداية والنهاية، وبداية المجتهد، إلخ.. نادراً ما نرى كتاباً حديثاً إلا ويضع العنوان تحت مسمى الإسلام. فكأنه يعتبر أن نصه هو الدين لا غيره؛ وكأن الدين يمكن تعليبه في كتاب، سواء في الأصول أو الأحكام.
نسبية المعرفة
الصراع حول الإسلام فيه مصادرة للدين. الصراع في الإسلام معناه إطلاق ملكة التفكير والبحث والاعتقاد أن البراهين ظنية في معظمها، والمعرفة نسبية كلها، واليقين “غلبة الظن”. وهذا التعبير استخدمه كبار فقهاء الأصول. عندما بعث الرسول معاذ بن جبل الى اليمن ليفقههم، سأله بماذا تحكم إذا واجهتك مسألة، قال بالقرآن، قال وإن لم تجد، قال بالسنة، قال وإن لم تجد، قال برأيي. رضي الرسول عن هذا الجواب. وفي قول الإمام الشافعي، “رأيي صحيح يحتمل الخطأ، ورأي الخصم خطأ يحتمل الصواب”. في هذا الكلام اعتراف بنسبية المعرفة، بسبب هذا الاعتقاد كان كثير من الفقهاء يرفضون منصب القضاء، وهو من أجلّ المنصب، لأن الحكم بين المتقاضيين يتطلّب الحزم. وهذا ما لم يريدوا ممارسته لأنهم عرفوا خطورته. هذا رغم أن القضاء مهنة لا بدّ منها في أي مجتمع.
عندما كتب أبو الحسن الأشعري كتابه “مقالات الإسلاميين”، كان موجهاً ضد الفرق الإسلامية التي تختصر الإسلام في ذاتها وفي مذهبها ولا تعترف بغيرها، أو تقول أنها هي الدين والقول بغير ذلك كفر. ما أسهل رماية الغير بالكفر في هذه الأيام. وما أسهل رماية أتباع الأديان الأخرى بالشرك، بالأحرى اعتبارهم أعداء. لا يعرف هؤلاء أن بلاطات الأمويين والعباسيين والفاطميين وغيرهم من الدول كانت تتضمن علماء من أديان أخرى. ذلك عندما كان المجتمع الإسلامي قوياً واثقاً معتداً بنفسه. الصراع على الدين باعتباره جملة تعليمات هو دليل ضعف لا قوة، دليل هزيمة لا تنتهي إلا بهزيمة أكبر.
لا إكراه في الدين. كان معنى الآية أن لا يُرغم أتباع الأديان الأخرى على التحوّل الى الإسلام، عندما كانت الدولة قوية. صار معناها احترام أتباع الأديان الأخرى، إن لم يكن التعلّم منهم. لا خوف على الدين مهما بلغت الثقافات الأخرى من السطوة. الخوف على الدين من أتباعه الذين يريدونه معلباً، ومجتمعه مغلقاً.
الخوف هو على الإسلام من الانغلاق والتقوقع. يواجه المسلمون قهراً وظلماً من أنظمتهم أولاً، ومن جماعات الإسلام السياسي ثانياً، ومن دول غير إسلامية تضطهد المسلمين. لا خوف على الإسلام من النقاش والحوار ومن اتساع مساحة التسامح. التسامح ليس منة على الآخرين. هو نوع من التهذيب. متى فقدنا ملكة التهذيب، دخل الدين في مجال التعصّب والتحليل والتحريم والأحكام العشوائية.
المجتمع مغلق لأن الصراع فيه صراع على الدين (للتحكم بأتباعه)، وليس صراعاً في الدين وحواراً بين أتباعه.
لا ننسى أن عصر النهضة الأوروبية في القرون الوسطى واكبه صراع في الدين (بين الكاثوليك والبروتستانت)، وليس صراعاً حول الدين للقبض على أتباعه. قبل ذلك، كانت عصور الظلام حيث كان الصراع حول الدين بين الملوك والبابوية.
ما حصل ويحصل في فرنسا هو جريمة. هو أيضاً جريمة في عقل المسلمين.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق