في غياب حكم يحظى بثقة اللبنانيين عموماً ويطمئنون إلى أنه يشكّل بعض ضمانات وحدتهم الوطنية، فإن هذه الدولة التي لم تكن في أي يوم قوية، تفقد صورتها الجامعة، وتهتز كشجرة عجوز منذرة بالسقوط..
فالدولة في هذا اللبنان الذي تمّ رسم كيانه على عجل، تقوم على توازنات دقيقة جداً، محلية ، أي طوائفية ومذهبية، و عربية أو إقليمية بحسب التعابير الجديدة التي تشير إلى اشتراك إسرائيل في القرار العربي أو غلبتها فيه وبالتالي فهي مؤقتة واعتباطية وشبه عاطفية لاتصالها بأمزجة الحكّام وعلاقاتهم بالخارج (وأوله إسرائيل) و دولية أي باردة وتتصل بالمصالح والصراع على النفوذ الذي يبيح كل المحظورات بما فيها تحريك المشاعر الطائفية والمذهبية والعنصرية لتحقيق أغراضه.
وبالتالي فإن أي اختلال في التوازنات السياسية التي تشكّل القاعدة الثابتة لأي حكم، يذهب بالدولة، حتى لو ظلت بعض القوى أو بعض المؤسسات البتراء تدّعي لنفسها الشرعية، وتدلل على جبروتها بدعم غير محدود من دول لا يشكّل لبنان في استراتيجياتها أكثر من نقطة ارتكاز للهجوم دفاعاً عن مصالحها..
وبديهي أن مصالح الدول لا تهتم كثيراً للوحدة الوطنية بين اللبنانيين، بل إن خلافاتهم وتصادمهم وانقساماتهم تشكّل استثماراً عظيم الأرباح، فلا مانع من أن يحموه ببعض الضحايا من أبناء هذا الشعب العنيد الذي تعوّد أن يذهب بقدميه إلى الحرب الأهلية، مرة كل عشر سنوات أو يزيد قليلاً !..
قبل سنوات أسقط الغضب الشعبي العارم وروح الثأر وخيبة الأمل، ومعها جميعاً المصالح الدولية، ومن ضمنها مصالح أطراف عربية ومحلية، ما سُمّي بعد ذلك ب النظام الأمني اللبناني السوري … والذي كانت اليد العليا فيه لدمشق.
لم يأسف أحد على سقوط ذلك النظام الذي كان قد فقد مبرّراته السياسية، قبل زمن طويل، وإن كان كثيرون قد تخوّفوا من أن يعجز اللبنانيون المختلفون على كثير من الأساسيات، عن بناء دولة كالتي يقرأون أو يسمعون عنها أو يلمسون أثرها في بلاد العالم… المتقدم، أو حتى تلك المحكومة بائتلاف المصالح بين رأس المال والسلطة المالكة القوة.
… تماماً كما هم لم يظهروا، من قبل، الكثير من الأسف على سقوط دولة ما قبل الطائف بنظامها شبه العنصري الذي كان ولاَّدة حروب أهلية لا تنتهي واحدة منها حتى تطل بشائر الثانية..
لكن الخلاف شجر بين القوى السياسية التي كانت مضبوطة الحركة فتحرّرت، وكانت صلاتها بالدول محكومة بالمرجعية السورية فباتت حرة إلى حد الانفلات. وطبيعي والحال هذه أن تصير الكلمة العليا للدول ، وليس لمشروع السلطة الوليدة التي لا هي قادرة على وراثة النظام القديم، ولا هي مؤهلة لبناء النظام الجديد..
تمّ توظيف نزعة الثأر للاستئثار بالسلطة. لكن الانشقاق الخطير أعجز هذه السلطة عن بناء البديل . وهبّت الدول إلى توظيف النزعات المتضاربة في صراع مفتوح هي الأقوى فيه بطبيعة الحال، لأنها ممتدة ومتجذرة في النخاع الشوكي لكل طامح إلى السلطة أو التسلّط في لبنان. فمن يوظف الطائفية أو المذهبية من أجل غرضه السياسي لن يأخذه الحياء فيمنعه من التعامل مع الدول بعيدها والقريب.. وصولاً إلى إسرائيل.
والارتجاج العنيف الذي عاشه لبنان كله، خلال اليومين الماضيين، يثبت بعض الحقائق البسيطة بل البديهيات:
لا تقوم وحدة وطنية على الانفراد بالقرار.
ولا تقوم دولة خارج خيمة الوحدة الوطنية.
ولا تقيم الدول الأجنبية دولة القرار الوطني الحر.
ولا تهتم الدول بسلامة الشعب أو الدولة أو حتى السلطة البتراء في لبنان، بل هي تهتم لمصالحها فيه ومن حوله، فمن خدمها ووفّر الغطاء المحلي دعمته، ومن جاهر بخصومتها قاتلته بحلفائها من اللبنانيين … فمن فاز له الاعتراف والترحيب، ومن فشل فإلى جهنم وبئس المصير.
إن ما وقع قبل يومين جريمة بحق الوطن، وليس بحق عائلة أو فئة أو جهة.
وبالتوحّد في مواجهة الخطر نحمي العائلات جميعاً ونحمي لها مع حياتها وطناً تعيش فيه.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 24 نيسان 2007