في 20 ايلول 1962 عشت مع شعبنا في الجزائر اللحظات المجيدة لانتخاب اول رئيس لجمهورية الجزائر الديمقراطية التي استولدتها ثورة المليون شهيد.
التقيت، مصادفة، عند باب مجلس النواب الزعيم العراقي صديق شنشل، الذي جاء، مثلي، ليعيش لحظة الفرح التاريخي بانتصار الثورة وقيام دولتها.
قصدنا الشرفة الداخلية المطلة على قاعة اجتماع “النواب” الذين لا شبيه لهم ولا مثيل في الكون: بعضهم مقطوع الساقين، وبعضهم بعين واحدة لان الثانية اطفأها رصاص الاحتلال الاستيطاني الفرنسي، وبعضهم مقطوع اليد او اليدين.
انبثقت، فجأة، امامنا اسطورة الجهاد الجزائري: جميلة بوحيرد، التي كانت قيادة الثورة قد نصبتها داعية لتحرر بلادها، فطافت في البلاد العربية خير رسول لأعظم ثورة شعبية في التاريخ العربي الحديث.
هتفت لصديق شنشل: هذه جميلة..
كان السياسي العراقي المخضرم قد عرفها، فتقدم منها وانا خلفه، وتوجه اليها بصوت مرتجف تخالطه الدموع: اسمحي لي يا بنيتي، أن اقبل يدك..
قالت “جميلة” مرتبكة وهي تحاول الابتعاد عنا: انا مش جميلة، يا عم، انا مش جميلة..
وحين ألح الصديق شنشل، وانا الح معه، غادرتنا بسرعة مدارية ارتباكها.
أمس، انتبهت إلى جميلة بوحيرد تتصدر التظاهرات الغاضبة التي خرجت، حاشدة، في الجزائر، تندد بإصرار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، على طلب تجديد ولايته للمرة الخامسة!
هل ما هو مأساوي ومثير للحزن اكثر من هذه “النهاية” لثورة المليون شهيد: رئيس عاجز، يُقاد إلى اللقاءات الرسمية فوق كرسي متحرك، يرفض أن يتقاعد فيرتاح ويريح ويحفظ كرامة شهداء بلاده الذين سقطوا من اجل استعادة هويتهم العربية الاصلية (عرباً وبربرا) وقرارهم الوطني المستقل.
الديمقراطية تحصن الثورة.. ومن دونها يصبح الصراع على السلطة او التمسك بها، وكأنها حق شخصي شرعي، اغتيالاً للثورة والمليون شهيد الذين مكنوها من الانتصار!