… نستذكر جمال عبد الناصر،
في حومة اشتباك المذاهب بالطوائف، والأصوليات بالسلفيات، والعقائديين الفاشلين برجال الأعمال الناجحين، والاشتراكيين المهزومين بالمخصخصين المظفرين، ورجال الدين الأقوياء بالعلمانيين المتراجعين إلى حيطان الكنائس والمساجد حيث يحتشد الجمهور الضائع عن نفسه… نستذكر جمال عبد الناصر.
نعم، جمال عبد الناصر.
هذا الذي كلما ابتعد في الغياب شفّ حضوره وتغلغل أعمق فأعمق في ثنايا الوجدان ومكمن ما تبقى من أحلام في غد أفضل.
هذا الذي تستحضره مقارنة الحاضر بالماضي ألف مرة في اليوم.
هذا الذي كلما تهاوى نظامه ووجهت الإدانة إلى تطبيقاته ازدادت صورته إشراقاً، وتبدى وكأنه لم يكن فيه، أو كأن أقله كان فيه بينما أكثره كان خارجه… وضده.
مات “الحاكم” من زمان، فلم يمت جمال عبد الناصر معه، وتبدى وكأنه كان ضروريا أن يموت “الحاكم” لتستعيد الفكرة سويتها.
فهو وإن كان قد رأس الدولة التي اكتشف لها دورها وأعاد إليها اعتبارها وأعطاها الحجم اللائق بها، فقد ظل بعضه يتجاوزها إلى الذين خارجها كانوا مستعدين لأن يقدموا أعمارهم لتحقيق حلم الوحدة وإقامة مجتمع الكفاية والعدل.
مع “اكتشاف” مصر ثبتت حقيقة الأمة، أما بعده فقد جاء عصر التيه العربي الذي امتد ليلاً كثيفاً فوق هذه العشرات من الملايين التي كانت بالكاد قد عرفت قدراتها وطريقها وكادت تمسك الأماني الغاليات بأيديها.
… نستذكر جمال عبد الناصر.
لا هي محاولة “تصنيم”، ولا هي اندفاعة بالوله في اتجاه “تأليه” الرجل الذي من التراب وإلى التراب قد عاد، ولا هي مطالعة دفاع متأخرة عن نظامه الذي قتله وكاد يقتلنا… وها هم الذين أخذوا عنه الأسوأ، يكادون يجهزون علينا في أربع رياح الأرض العربية، محولين الأحلام إلى كوابيس والأهداف السنية إلى زنازين للطامحين إلى التغيير، والمستجيبين لندائه “ارفع رأسك يا أخي” إلى قطعان بلا رؤوس!
إنما هي محاولة لاستمداد بعض الأمل من حلم لم يعمّر بما يكفي ليحوّله أهله إلى حقيقة ومن فكرة مشعة اغتيلت على باب الاكتمال ومن قبل أن تتجسد مشروعا سياسيا له قوامه الذي يجعله مؤسسة للحياة في المستقبل بدل البقاء في موقف الباكين على الأطلال والتحسر على ماضٍ لن يعود.
هي محاولة للاستقواء على هذا الواقع المتردي حتى ليكاد يزرع اليأس في أجنة أبنائنا الذين سيولدون، على هذا القهر الذي يكاد يلغي الثقة بالنفس، على هذا الاحتقار لكرامتنا كبشر وإنكار حقوقنا في بلادنا وإكراهنا على الاعتراف بالزور والشهادة له.
فالاحتلال صار تحريرا، والنهب المنظم لثرواتنا صار تحالفا وإسهاما عربيا في الحضارة الإنسانية، والخضوع لهيمنة الأجنبي صار انتماءً إلى العالم الحر، والخيانة لم تعد “وجهة نظر” بل صارت سياسة رسمية معتمدة تُخرج “الجماهير” للهتاف لها تحت عنوان “السلام”، والالتحاق بجلادينا صار انتسابا إلى النظام العالمي الجديد.
التحرر السياسي انتحار، والتحرر الاقتصادي يوازي الكفر، ووحدة الأمة هرطقة، والقومية سلعة أجنبية سحبت من الأسواق في بلد المنشأ، والعروبة غربة عن العصر وإصرار على استيطان الماضي، واللغة علامة تخلف يستحسن التخلص منها ليمكن الولوج إلى ثورة الاتصالات والمواصلات و”القرية الكونية” التي لا مكان “للعرب” فيها إلا كما هم في إسرائيل: أقلية منكرة عليها هويتها، يستخدم وجودها ضد تاريخها، وتستخدم بيوتها أداة نفي لعلاقة أهلها بأرضهم ويمنع عليهم مناداة إخوتهم بأسمائهم ويدرَّسون ما يؤكد أنهم قد بادوا وانقرضوا كأمة لكي يخلوا مكانهم للروس والبولونيين والأوكرانيين والفالاشا وسائر المستقدمين ليجعلوا الأسطورة التوراتية حقيقة بإلغاء حقائق الحياة.
نعم، جمال عبد الناصر.
فمن اليمن إلى المغرب ما زال حاضرا، بل لعله الوحيد الحاضر، في مزيج فريد من الحلم الذي عجزت العقيدة عن استيعابه بقدر ما عجز النظام عن الالتزام بها.
في الصراع العربي الإسرائيلي ما زال حاضرا، معترفا بهزيمته الناجمة عن قصور وعيه بحقيقة العدو وطبيعة المعركة معه وأدوات النصر، محرضا على العودة إلى الميدان وقد تزود بحقائق التجربة المرة التي بررت كل الانحرافات التي جاءت بعد رحيله يجر بعضها بعضا حتى دخلنا عصر التيه.
يستحضره الشعور الثقيل بالمهانة و”السقوط” من ذاكرة العالم.
تستحضره “الكيانية” التي تأخذ الى الاستسلام، والمساومة التي تأخذ الى التفريط، وتغييب الناس الذي يأخذ إلى الدكتاتورية والقمع والتخلف.
يستحضره العجز عن عقد قمة عربية، بعدما صار شرط انعقادها “مشاركة” إسرائيل فيها وضمان أن تكون لها الأكثرية!
تستحضره حروب العرب على العرب التي تلغي العرب كقيمة وكقوة وكدور، بقدر ما يتزايد عدد القادة الأشاوس والأفذاذ، صعاليك التاريخ ومهرجي الألفية الثالثة، حيث لكل قبيلة زعيم قائد، ولكل مدينة “بطل” يقهر شعبه ليثبت ولاءه للأجنبي فيثبِّته على “قومه” بشرط أن يخرج على أمته.
يستحضره السلاطين اللصوص ولصوص السلاطين، ناهبو المال العام، باعة المصانع والسدود والمرافق التي بُنيت بخبز الفقراء لتُطعم الفقراء وتعلّم أبناء الفقراء، فإذا هي تنتهي عند سماسرة الأجنبي والمضاربين وحيتان الصفقات.
تستحضره المقارنة كل يوم، وأكثر من يستحضره هم أولئك الذين يجاهدون منذ ثلاثين سنة لقتله في الفكرة والحلم فلا يقدرون.
تحية له وهو في غيابه أشد حضورا من كل هؤلاء الذين يريدون لنا أن نعيش خارج التاريخ، وبلا تاريخ.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 28 أيلول 2000