هي الدولة غير الظاهرة، مثل المؤسسات السياسية والإدارة والجيش والتعليم وغيرها مما نراه ونسمعه. هذه وأشباهها مؤسسات ظاهرة الوجود، فلا لزوم للإشارة إليها بالعميقة. هي عميقة بمقدار ما تغدو وراء الفعل والقول حتى لا تُرى ولا تُسمع. هي التي تتخذ القرار وينفذه غيرها. ترسم الخطط ويهتدي بها الآخرون. وبرغم أنها لا تُرى، لكن أثارها محسوسة. ربما كان هذا هو المعنى المقصود بالدولة العميقة.
هل نستطيع الحديث عن الدولة العميقة؟ أين موقعها في الدولة المعتادين عليها؟ أين توجد، في أي من دول العالم؟ هل توجد فعلاً، وهل هي منافية للديموقراطية أم استكمال للديموقراطية الليبرالية والديكتاتورية؟ يتحدث أهل الصحافة عنها بكثرة. وهي تعبير جديد بدأنا نتعرف عليه منذ سنوات من دون تحديدها. لذلك لا بدّ من محاولة فهمها علنا نُصِيب ما أرادوه.
لا بدّ أن تكون الدولة العميقة هي ما يخطط ويتخذ القرارات غير ما يفعل الجهاز الرسمي للدولة. فهل هي أشخاص لهم هذه القوة أم هي مؤسسات مغلقة غير رسمية تجري الدراسات وتتبناها الدولة الرسمية؟
هي علاقات بين الناس أو بين النخب. تشكّل القواعد والمخططات التي تصدر عنها مقررات الدولة الرسمية.
في مجتمع مفتوح حيث كل شيء مطروح للنقاش يمكن أن تشكّل الدولة العميقة علاقات بين الناس، وتساهم في تشكيل الرأي العام بما لا يستطيعه السياسيون الظاهرون، لكنهم يأخذون به. الدولة الحديثة الديموقراطية هي الناس، ومن واجب السلطة سبر غورهم لمعرفة مآربهم والتعبير عنها، وإلا تعرضت السلطة للاحتجاجات.
لدى كل دولة في العالم ما هو سري، لكن لا يكون مركزا للقرار. تنفذ المؤسسات ذات الطابع السري قرارات الحكومة العلنية. الدول الديموقراطية فعلاً هي دول ذات مجتمعات مفتوحة تُستبعد فيها سرية آلية إتخاذ القرارات إلا في القليل من الأمور. هناك مراكز بحوث ودراسات تواكب الرأي العام وتساهم في صياغة آرائه ومواقفه.
الدول الديكتاتورية، ومناطقنا تعج بها، ذات مجتمعات مغلقة أو شبه مغلقة، وهي لا تثق بشعوبها، فتؤسس أجهزة موازية وأخرى تعمل بالسر. هي لا تستطيع إلا أن تكون السرية قاعدة أساسية لآلية العمل فيها. من المؤسسات الموازية ما هو علني لا يُخفى كالحرس الثوري والحرس الوطني أو الجمهوري، ومؤسسات أمنية يتطلّب عملها السرية. مهما كان فالدولة العميقة صفة للديكتاتورية أكثر منها للدول الديمقراطية. بالأحرى تتجه الدولة الديمقراطية أكثر فأكثر نحو العلنية، رغم بقاء مؤسسات سرية كالمخابرات. والدول الديكتاتورية تتجه أكثر فأكثر نحو السرية، ولو كان فيها مؤسسات رسمية علنية هي الظاهرة للعيان لكن القرارات تُتخذ في أروقة سرية. دولة عميقة إلا في ما هو سري غير خاضع للمشاهدة وللسمع. وكلما كان المجتمع مفتوحاً تتضاءل هذه الظاهرة. الدولة العميقة محاطة بالسرية دائماً، وإلا لم تكن هناك ضرورة لسريتها. فالدولة العميقة ظاهرة ملازمة للديكتاتورية بشكل أو بآخر. وهي أمر يتضاءل كلما اتجه المجتمع نحو الانفتاح بدرجة أكبر. الدولة السرية استثنائية في الدول الديموقراطية، وهي العرف السائد في الدول الديكتاتورية.
يبقى أنه لكل مجتمع في كل دولة “روح”، إذا صحّت التسمية. وهذه تُعبّر عن نفسها بشكل أو بآخر في أفكار تطرح أو علاقات تنشأ بين الأفراد والجماعات، أو تحركات فجائية للجمهور في وجه قرار أو فعل للسلطة. إذا لم يتعايش الحاكم مع هذه الروح، بالأحرى هذا المزاج، يًضيّع البوصلة وينفصل عن الناس ويفقد الشرعية.
في الديموقراطيات الحقيقية يهتم الحاكم لمزاج الناس، ويتابع استطلاعات الرأي، وأحياناً كثيرة لا تعجبه النتائج. فإما أن يُعدّل مساره أو تتراجع شعبيته.
في الدول الاستبدادية لا قيمة لدى الحاكم لهذا المزاج الشعبي، وإلا لم يكن مُستبداً. يبدأ الاستبداد من لحظة الاستخفاف بالناس ومزاجهم واحتقار المجتمع، أو من اعتبار المجتمع بحاجة الى رفع مستواه الحضاري قبل أن يُرفع النير عن رقبته. في الدولة الديموقراطية ذات المجتمع المفتوح، المجتمع هو الدولة العميقة وعلى الحاكم أن يسبر غوره. في الدولة الاستبدادية، الدولة العميقة جهاز لا يهتم بالمجتمع ولا بأن يسبر غوره، وهو يمعن في الاستبداد كلما سبر غوره لأنه يكتشف أكثر وأكثر أن المجتمع يرفضه، وأن المطلوب لدى المجتمع هو غير أداء السلطة الحاكمة.
تتناقض سياسة سلطة الاستبداد مع المجتمع العميق. تعجز عن تشكيل دولة عميقة فتلجأ الى تشكيل دولة موازية. تظن أن ذلك يحميها من المجتمع، من دولة المجتمع. الدولة العميقة هنا هي التي تُعبّر عن نفسها من خلال المجتمع، والتي تسعى وراءها الديموقراطيات. الدولة العميقة و”ضمير” المجتمع شيء واحد؛ ينفصلان في دولة الاستبداد. تبدو دولة الاستبداد وكأنها تلغي التناقضات، لكنها تعمّقها وتجعلها غير قابلة للتسوية. من أخطاء الاستبداد أو جرائمه أنه يجعل التسوية غير ممكنة بين المجتمع والدولة العميقة. سلطة الظاهر تلغي الإثنين معاً. ففي تناقضهما بل نزاعهما يلغي واحدهما الآخر، أو يلغي واحدهما مفاعيل الآخر.
يُنشئ الاستبداد دولة موازية لإلغاء الدولة العميقة التي هي ليست أكثر من دولة المجتمع في الديموقراطيات. طبيعي أن ينشئ المجتمع دولته في ضميره وفي مزاجه في مواجهة السلطة ودولتها الموازية. يدافع المجتمع عن نفسه في مواجهة السلطة الحاكمة ودولتها الزائفة. “وتعبير “زائفة” هنا لا يعني أنها غير موجودة بل هي موجودة كالعملة الزائفة التي تطرد العملة الصحيحة من التداول، حسب قانون غريشام.
يتحدث أدعياء “الثقافة” واليسار وسدنة الهيكل من المشايخ عن الدولة العميقة وكأنها جماعة سرية؛ ذلك لإعطاء نظرية المؤامرة شكلاً مختلفاً.
الاستبداد الديني أو السياسي هو نبراس الحق، ويتعرض لمؤامرات، الواحدة تلو الأخرى. يفترضون المؤامرات الداخلية بمثابة المؤامرات الخارجية، ومن لا يوافقهم الرأي هو دائماً متهم بالتبعية للخارج، إذ لا يعقل في نظرهم أن يخالف رأيهم، وهو في نظرهم الحق والحقيقة. لا يفعل ذلك إلا الخارج المدنس، المفتقد للطهارة. بالطبع، لا مانع لديهم من الانضواء تحت لواء خارج يدعم سلطتهم، مهما كانت صفاته. يحرفون كل ما لدى المجتمع، ويجردونه مما يملكه ماديا ومعنوياً. شكل فج من أشكال المصادرة الرأسمالية. ومحاولة بائسة في سبيل زرع الألينة (alienation) في المجتمع بتفريغه من محتواه. لكنهم في الحقيقة ينفصلون عن المجتمع، وتبعد المسافة عنه، بحيث يعجزون عن فهمه، ويظنون أن دولتهم الموازية هي دولة المجتمع. يخالون أنهم “يركّبون طرابيش” كيفما شاؤوا، وأنهم يصنعون مجتمعاً يليق بهم. يغيب عنهم كلياً أنهم هم الذين يتوجّب أن يليقوا بالمجتمع. يتوجهون أفقياً، يبقون على السطح. يأنفون من الغوص في المجتمع الذي كلما تعمّقوا فيه وجدوا ما لا يستحبونه. الغوص في المجتمع ليس من شيمهم. أبعدوا الدولة عن المجتمع. وابتعدت سلطتهم معهم. وصاروا هم المؤامرة الخارجية، إذ باتوا خارج المجتمع. أنكروا عصبية المجتمع الحديثة وأبقوا على عصبياتهم القديمة. لا يدركون أو يفهمون أن المجتمع أصابه تطوّر. عصبية المجتمع الحديثة ليست في دين أو طائفة أو مذهب أو حتى في طبقة. هم انفلقوا عن المجتمع الذي ولّد عصبية عصية عليهم، كما كانت عصية على الاستعمار الذي ورثوه وورثوا طرائقه في التفكير، وميوله في الانحياز ضد المجتمع الذي لا يستطيعون حكمه إلا بتشويهه، بالأحرى تشويه الأفكار والمفاهيم عنه.
الدولة العميقة هي على الأرجح علاقات سرية في دول الاستبداد، وعلنية في الدول الديموقراطية. هي الأجهزة ذات السرية في دول الاستبداد، وهي علاقات المجتمع التي لا بدّ أن تكون علنية في الديموقراطيات. علماً بأن السرية استثنائية في الديموقراطيات، لكنها العرف السائد في الديكتاتوريات. المجتمع المفتوح لا يحتاج الى السرية ولا الى الدولة العميقة. ما يحتاجه هو الدولة وحسب. المجتمع المغلق تحتاج دولته الى السرية، وهي لا تطمئن الى الدولة الرسمية، فتنشئ دولة موازية أو دولة ضمن دولة. الأولى تتقيّد بالقانون والدستور لانتظام علاقات الناس. الثانية خارج القانون والدستور، ولا ينتظم عمل الناس فيها إلا بالقمع والإكراه، في مخالفة القوانين والدستور، وذلك خلافا للمعلن.
ينشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق