وقفت الطالبة ذات العينين المشعَّتين في قلب القاعة الممتلئة برجع الخطابات ورشقت ذلك الرهط من المحاضرين المزدهين بتمكّنهم من ملكة الكلام، عن أي موضوع وفي أي زمان أو مكان بالسؤال الصعب: بأي حق تتحدثون عن الغد؟! إنما أنتم تسقطون ماضيكم على مستقبلنا برغم بُعد المسافة بينهما. إننا نكاد لا نعرف عما تتحدثون! تذكرون جمال عبد الناصر وحالة النهوض القومي ودولة الوحدة العربية والتجربة الاشتراكية العربية بكلمات سريعة، ثم تواصلون كلامكم وكأن تلك أمور ثابتة ومعروفة ولا تحتاج إلى شرح لأنها بديهيات. نحن يا سادتي خارج البديهيات.
التفت »الأساتذة« بعضهم إلى بعض مستهجنين، وربما شعر أحدهم بالخجل، وربما وجدها آخر فرصة لمداخلة جديدة وطويلة للتذكير بتأريخ ما أهمله التاريخ…
قبل أن يختطف المذياع أحدهم وقف طالب في ربيعه العشرين ليكمل »هجوم« زميلته فقال: لقد استهلكتم كل هذا الذي نسمع عنه منكم ولا نعرفه. لم تبقوا لنا منه شيئاً إلا ما ترسّب في ذاكرتكم المشوّشة بالغرض أو بالنرجسية أو بالنسيان أو بإعادة صياغة الوقائع حتى لا تحرجكم مع أصحاب الشأن اليوم!
ولأنهم »محترفون«، فقد تخلّص المحاضرون بسرعة من الحرج، متذرعين بضيق الوقت، وانصرفوا متعجلين تاركين تلك الأسئلة تدور على ذاتها في القاعة الفارغة الآن فلا تجد مجيباً أو جواباً..
مرة أخرى تبرز المعضلة: الذاكرة الجماعية كمدخل لحفظ تاريخنا (القريب) والوعي به.
إننا نخاف على أجيالنا الجديدة، ثم نخاف منها.
نخاف من صدقهم وصراحتهم الجارحة. نخاف من أسلوبهم المباشر الذي قد يبدو فظاً وغير لائق، ثم ننتبه متأخرين إلى أنهم لا يعرفون، وأن الجهل هو السبب في هذه »الجلافة«. فالنقص في الثقافة العامة فاضح، ثم إنهم يعيشون »خارج السياسة«، ليس لعلّة فيهم بل لأن لا »سياسة«.
لا سياسة، ولكل منهم أسبابه: فالشباب اللبناني أكلت عمره الحرب، بالخوف والقصف والخطف والذبح على الهوية والملاجئ التي لا تحمي دائماً من ذلك الخطر الغامض المتمثل بالآخر،
أما معظم الشباب العرب من خارج لبنان فهم لا يعرفون عن دنياهم إلا ما تقوله الألسنة العديدة لحكّامهم، وهي مكتوبة ومسموعة ومرئية وإيمائية أو »عينية« بمعنى أنها تعتمد لغة »العيون«.
لا سياسة، لا حياة سياسية، لا تقاليد سياسية، لا أحزاب سياسية، لا تنظيمات شعبية، لا نقابات، لا اتحادات مهنية، ولو على مستوى الجامعة، فإن وُجدت فهي ظل آخر من ظلال السلطة، ولافتة خادعة تستهلك التسميات في غير مسّمى،
السياسة أمر غامض ومخيف، قد تؤدي ممارستها إلى الفتنة التي هي أشد من القتل،
هي حكر للحاكم، فإن تصدى لها أحد من الأهالي كان عليه أن يمارسها سراً و»تحت الأرض«، وهي بذلك تصبح تآمراً وعملاً انقلابياً يطيح رؤوس »أبطاله« المعادين!
* * *
لكأنما انقرضت البديهيات، واختفى تماماً كل ما هو »طبيعي«.
إن الشباب يدورون على أنفسهم حائرين. يهربون من خيبات آبائهم ومن مراراتهم أو من خوفهم المترسّب في نفوسهم والذي ينقلونه بالعدوى إليهم،
إن الكل في ملجأ جديد الآن أكثر اتساعاً وعمقاً هو الصمت.
البديل من الصمت ثرثرة لا تقول شيئاً، أو جمل بل كلمات متقاطعة تومئ أكثر مما تقول، لأنهم لا يعرفون كيف يعبّرون عما يدور في أذهانهم أو تختلج به خواطرهم.
مَن يقول الحقيقة؟!
وقبل: ما هي الحقيقة؟!
لم تعد الحقائق »القديمة« أرضاً صلبة يمكن الوقوف فوقها بثبات، لا العرب هم العرب، أقلّه كما كانوا في ذهن الأهل، خصوصاً وقد رأوا منهم غير ما سمعوا عنهم.
ولا إسرائيل هي إسرائيل التي سمعوا عنها، عبر الإذاعات، أكثر ممّا قرأوا، والتي يطاردهم شبحها في الأفلام السينمائية وفي الكتب وفي مسلك »نجومهم« المفضلين يومياً فيحوّلها إلى مجموعات من المظلومين والمضطهدين من مقاومي الفاشية والنازية والدكتاتوريات عموماً، منها الأنبياء والعباقرة والمكتشفون والفلاسفة والعلماء في الذرة كما في الاقتصاد وفي علم النفس كما في الطب، في العقائد والإيديولوجيات، أما في السياسة فلهم الصدارة بل السيادة في العالم أجمع.
إن أي شاب عربي يعرف الآن عن اليهود، عموماً، وعن إسرائيل والإسرائيليين، أكثر مما يعرف عن بلده، وبالطبع أكثر مما يعرف عن »أشقائه العرب«.
* * *
الأسئلة صاعقة، الأجوبة ميتة،
العدو حقيقة، وأنت افتراض قابل للنفي أو للتحقق.
وجيلنا الجديد ينشأ خارج ذاته، خارج بيته، خارج مجتمعه، بل وخارج لغته، أي خارج جلده وهو يسبح في ماء غير مائه.
إن هذا الجيل يعيش حالة غربة عن واقعه: ممنوع عليه التواصل داخل القطر الواحد فكيف بين قطر وآخر.
وفي الخمسينيات والستينيات، وحين كانت الكتب والصحف ثم الإذاعة، وقبل أن يعرف التلفزيون، كان العرب أكثر تواصلاً في ما بين مشرقهم ومغربهم، وأكثر تشوقاً لمزيد من المعرفة بعضهم بالبعض الآخر، وأكثر عاطفة، وأكثر إيماناً بوحدة مصالحهم.
أما أجيالنا الجديدة فقد ورثت عنا أحقادنا »الأهلية«.
إن العربي يكره العربي الآن ويكاد يصنّفه »عدّوه« أو »خصمه« أو »منافسه« في أقل تعديل (نماذج الكويتي العراقي، القطري البحريني، الفلسطيني السوري، اللبناني الفلسطيني، المصري الليبي، الليبي التونسي، المصري السوداني، الجزائري المغربي، وانتهاء بالجزائري الجزائري) إلخ..
ثم ان أجيالنا الجديدة قد أخذت عنا انعدام اليقين بعد مسلسل الخيبات والهزائم، فصارت كل أحلامنا في الماضي، وصرنا نتحدث عن كل ما هو غال وعزيز وفي مستوى التمني بصيغة الماضي: الوحدة من الماضي، تحرير فلسطين من الماضي، الاشتراكية ولو بمعنى العدالة من الماضي،
أما الديموقراطية فمن المحظورات ماضياً وحاضراً ومستقبلاً،
… بينما تقدّم إسرائيل نفسها ويقبلها العالم كنموذج كامل للديموقراطية!
* * *
من أين نجيء لأبنائنا باليقين في حين أنه أكثر ما نفتقد؟!
كيف السبيل إلى إعادة الاعتبار للبديهيات؟!
مَن يعطي أجيالنا الجديدة بديهيات غير مستوردة؟!
من أين لنا البراءة التي تجدّد اليقين؟!
أما الحديث عن الإيمان والآلهة الجدد التي تمّ استيرادها أو استيلادها فيحتاج إلى مناسبة أخرى، خصوصاً وأن المهزومين يعودون إلى الدين، والمنتصرين على شعوبهم يزيدون من مظاهر تديّنهم وبناء المساجد التي لا تجد مَن يصلي فيها.
»أبناؤكم ليسوا لكم«، ولكن أين السيد المسيح؟!
حق الأنثى وكرامة المرأة
} قالت الأرملة للأرملة: لاحظت انه قد ركز اهتمامه عليك، هل تعرفينه؟
ردت الأرملة على الأرملة: يوم كنتُ لم يكن،
ولكنه هنا الآن، امنحيه طرف عينيك،
لا، أظنه قد جاء ينتقم.
ذلك هو الماضي، أحب أن تفكري أكثر بالمستقبل،
لم تهن عليَّ نفسي بعد، لن آكل من صحن رفضته من قبل،
المهم أن نأكل. في مثل وضعنا لا نملك أن نفرض الشروط وإلا هلكنا جوعاً..
أفضل أن أهلك ملكة من أن أعيش جارية. عشت من العز والشبع ما يمنحني المناعة وحرية الاختيار.
ولكنك امرأة،
لأنني امرأة… ثم انك تعرفين ليست النساء حصيلة جمع امرأة وامرأة وامرأة، وليس الرجال مجموع هذا الرجل. ان لواحدهم أن يختار، وكذا نحن، لكل منا حق الاختيار. بين حق الأنثى وكرامة المرأة أفضل كرامتي..
إذن فهل تتخلين عنه لي؟
ليس لي لكي أتخلى، وليس ملك لك لكي تتصرفي به..
إنه يعجبني، فساعديني عنده..
لا شفاعة في العلاقة بين رجل وامرأة. ولكنني سأعرفك عليه وأمضي..
تقدمنا في اتجاهه وكأنهما تقصدان طاولة الطعام، فسمعتاه يقول لصديق له كان يتابعهما بنظره:
أما الأولى فأمرها هين، إن حبي كامن في صدرها وسأوقظه، ومن ثم اتخذها طريقا الى الثانية… حرام أن تترك الأرض عطشى، وحرام أن نزيد من عذاب الأرامل، تكفيهن قسوة الدهر. هيا تقدم لأعرفك بهما فتكون المتعة.
تهويمات
} قال لها: أخاف من صمتكِ. إنه يفضح أفكاري!
قالت له: أخاف من ثرثرتكَ، إنها تفضح رغباتي!
} صوتكِ وسادتي. أحياناً يتّسع مداه فيصير سريري وأحياناً يضيق بجسدكِ فيسمعني هدير الطوفان.
} لم أكن، قبلك، أعرف السباحة. الآن أقيم في الحدقة، أذرع المسافة بين »شاطئيها« ألف مرة ما بين طرفة عين وانتباهتها.
} للحزن ملامح وجهك. يسيل دونما صوت. يغطي الشجر ونوافذ البيوت ويزاحم السنونو في بناء أعشاشه في السقوف.
} قرأت وجهك على صفحة النهر. غمزتِ لي فابتسمت وجاءني النادل بقهوة جديدة. اقتربت من الضفة وقد ضممتُ كفَّي لآخذ من مائه فأشرب، فجاءني صوتكِ، وظل ينهمر حتى ارتويت.
} تقول المرأة للعاشقة: لو طلبت من حبيبي النجم لأتاني به..
وتقول العاشقة للمرأة: أما أنا فلا أطلب من النجم إلا أن يأتيني حبيبي،
تقول المرأة للعاشقة: يعطيني حبيبي فوق ما أطلب ويأخذ مني دون ما أريد أن أعطيه،
وتقول العاشقة للمرأة: أنا له وهو لي، والى الأرض الحساب،
} قالت لمرآتها: علينا أن نفترق، لم أعد أطيق الفضيحة التي أرى نفسي عليها فيك،
قالت المرآة: لو كان لي ذاكرة لاستخرجتك منها، لكن شرط وجودي ألا يكون لي ذاكرة..
قالت لمرآتها: ولكنني أهرب من ذاكرتي التي تستحضرينها ببلادتك وخلو مخك من الذاكرة،
قالت المرآة: لست إلا قطعة من زجاج مطلي بالزئبق، فارحميني،
قالت لنفسها: ذهب الزئبق ولم يبق مني إلا الزجاج وموعد الانحطام.
التفتت المرأة الى مرآتها بغضب: أيها الشاهد الأبكم، الأعمى، البلا حس، سأحرر نفسي منك الآن…
أدارت المرآة الى الحائط فسمعت حشرجة نحيب ثم أفاقت على دموعها وهي تكرج على خديها وتنساب عبر العنق لتطفئ لهيب الذاكرة.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ليس الحب مبارزة بين عاشقين، يحاول كل منهما أن يحمي فيها كرامته من الآخر. ليس في الحب مجال للخسارة أو للانكسار. مَن أحبَّ كُتبت له الحياة.
لا تنزو بحبّك في قوقعة الجدل. اطرحه للناس ينهلون منه فتزدد سعادتك ولا ينقص حبّك.