لا يجيء جاك شيراك إلى لبنان من الماضي، لا ماضي فرنسا »اللبناني« ولا ماضي لبنان »الفرنسي«، بل لعله يريد أن يبدو وكأنه آت ليبدأ رحلة فرنسا المستقبل في »مشرق المستقبل«. وبهذا المعنى تبدو بيروت بوابة إلى البيت، لا هي البيت كله، ولا هي جزيرة منقطعة ومفصولة عن أرضها وأهلها الأقربين، متصلة بحبل سرة وهمي يمتد تحت مياه البحر المتوسط إلى الغرب الذي كان أوروبيù فصار الآن أميركيù.
ربما لهذا جُمعت بيروت مع القاهرة في الرحلة المشرقية الأولى.
هذا ينفي، أول ما ينفي عن الرئيس الفرنسي أنه يطمح أو يريد أو يتصرف وكأنه طرف في الشأن الداخلي اللبناني. وهذه علامة جيدة. ففرنسا الطرف تخسر كثيرù، وأكثر مما تستطيع الاحتمال، ويخسر معها مَن يحاولون جرّها أو يفترضون فيها »قيادتهم« وراعيتهم وحاميتهم… هذا فضلاً عن أنها لا تستطيع موضوعيù لعب مثل هذا الدور. فرنسا العلمانية هناك، والمتخفّفة الآن وإلى حد كبير من إرث العصر الاستعماري، لا تستطيع أن تكون »مارونية« أو حتى »مسيحية« في لبنان، الذي كاد يقتله تقسيمه أو انقسامه على أساس طائفي، والذي يمكن اعتبار »المسيحي« فيه الطرف الأكثر تضررù من كل محاولة للتعامل مع اللبنانيين بطوائفهم لا بهويتهم الوطنية الجامعة.
قبل ثلاث عشرة سنة، جاء سلف جاك شيراك ليحاول التخفيف من آثار الخطأ السياسي القاتل: كان التورط في الانقسامات الداخلية، ومجافاة الواقع الديموغرافي والجغرافي والتاريخي للبنان قد كلّف فرنسا عشرات القتلى من جنودها، الذين أرسلوا على عجل لحماية مؤخرة جيش الاجتياح الإسرائيلي المنسحب تاركù خلفه »حلفاءه« المحليين على رأس السلطة. لكن تلك السلطة لم تستطع حمايتهم، ولا هم استطاعوا حمايتها، وكانت النتيجة أنهم تسبّبوا في إهدار المزيد من الدم، اللبناني والفرنسي والأميركي، ناهيك بالفلسطيني والسوري.
ولم يكن أمام فرنسوا ميتران غير خيار وحيد: الانسحاب… فانسحبت فرنسا كلها مخلية المسرح للقادر بل المضطر إلى اللعب فوق فوهة بركان لحماية ذاته مع لبنان واللبنانيين، مثل سوريا، أو بلبنان واللبنانيين مثل إسرائيل.
وجاك شيراك يعي تمامù طبيعة التحولات التي شهدتها المنطقة، ولبنان أساسي فيها، خلال سنوات الاقتتال والمواجهات والتدمير والدم التي أفضت إلى تسوية سياسية كان لا بد لإنجازها من عمل عسكري محدود تحت عنوان »اقتلاع التمرد«. وكخاتمة لذلك التورط فقد كان على فرنسا أن »تستضيف« المتمرد منفيù فيها، وأن »تختفي« لفترة في لبنان، ريثما تنسى وينسون، قبل أن تعود بسياسة جديدة تعترف بالواقع الجديد، وتقدم نفسها من داخل إطار جديد، هو »عربي« عام، مع مراعاة معلنة للحساسيات، بدءù »باللبنانيين الآخرين« وصولاً إلى سوريا، لأن الدخول إلى لبنان بالتضاد مع دمشق إعلان حرب، وبتجاهل دمشق مستحيل، كما هو صعب الاعلان الرسمي عن اعتماد بابها مدخلاً شرعيù ووحيدù إلى لبنان.
الإطار »العربي« يمكن بقليل من التحريف والاطمئنان إلى حالة التشرذم والتيه والهرولة العربية أن يصبح إطارù »شرق أوسطيù« مما يطمئن إسرائيل أيضù، فتصبح ممكنة زيارة الجنوب لتفقد الوحدة الفرنسية العاملة ضمن القوات الدولية…
أما بكركي فمسألة أخرى: صحيح أن فرنسا شيراك ليست فرنسا فرنسوا الأول، ولا هي فرنسا نابليون، ولا هي فرنسا العدوان الثلاثي على مصر، وفرنسا حرب الإبادة للجزائريين الطامحين إلى الاستقلال ببلادهم والعودة إلى جلودهم ودينهم وهويتهم الأصلية، ولا هي فرنسا الجنرال ديغول أو حتى جورج بومبيدو، ولا هي أخيرù فرنسا التذبذب والتردد والادعاءات المتجاوزة للواقع، كما في أيام ميتران… لكنها لم تخرج كليù من »تاريخها«، ولا هي مستعدة للتضحية بجائزة الترضية التي تبقت لها دوليù تحت لافتة »الفرنكوفونية« والتي يشكل لبنان واحدù من مرتكزاتها.
كذلك ففرنسا العلمانية ما تزال »البنت البكر للكنيسة الكاثوليكية«، ويهمها أن تدعم وجودها الثقافي بقدر من »التعاطف« مع كاثوليكيي الشرق الذين تسلم موارنة لبنان »زعامتهم« والنطق باسمهم (وغالبù بالفرنسية) منذ حوالى الخمسمئة سنة، والذين على قاعدة هذه التمثيلية حازوا امتياز الرئاسة في لبنان.
لا بد من زيارة »تقليدية«، إذن لبكركي، إن لم يكن باسم ماضي المقر البطريركي ودوره المتميز فرنسيù والمؤثر على الحكم بل على النظام كله في لبنان، فباسم ذلك المستقبل المشرقي لفرنسا التي لا تنسى تاريخها وإن كانت لا تدفن نفسها فيه.
وجاك شيراك يذهب إلى بكركي الآن ناصحù لا محرضù. وهو بزيارته الرسمية الأولى للمجلس النيابي قال أهم ما يريد أن يقوله: الحكم هنا، أو يفترض أن يكون هنا، وعلى المعارض أو المعترض أن يدخل دست الحكم من هذا الباب لا أن يستعيد تاريخ المردة والجراجمة بالاعتصام في الجبال والاستنكاف عن المشاركة، متوقعù »تطورات« لن تقع تحمل إليه دست الحكم في عليائه، فوق دبابة الحماية الجديدة.
وقد تكون زيارة شيراك فرصة لكي يعيد أكثر من طرف حساباته اللبنانية.
فالزائر الكبير يجيء وقد دعاه عمليù، ولأول مرة، الطرف المسلم في الحكم، والذي تربطه بشخصه (رفيق الحريري) صداقة حميمة، ساهمت مساهمة إيجابية في تطمين دمشق بغير أن تُسقط عن جاك شيراك وطنيته الفرنسية أو كاثوليكيته المنزلية حتى وهو رئيس لدولة علمانية.
إنها فرصة لبكركي أيضù، ولمن قد يحتشد فيها غدù من جمهور المصدومين بالتحولات التي يجسّمها شخص جاك شيراك الذي كانت صداقاته أو علاقاته »العربية« بين أسباب سقوطه مرتين في معارك الرئاسة، والذي يقاتل اليوم لتدعيم رئاسته بهذه الصداقات أو العلاقات العربية التي يطمح لأن يبدأها من لبنان لا أن يحصرها فيه.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان