النوتي الذي يشبه مركبه
لا أجد بستانياّ يشبه بستانه، أكثر مما يشبه طلال سلمان جريدة «السفير»
مع الأيام، يصبح النوتي شبيهاّ بمركبه، والفارس الفرس، والفلاح يشبه محراثه، والرسام يشبه الصورة التي يرسمها، والرجل يشبه المرأة التي يحبها، ولعله من أجل هذا سمي بطرس بالصخرة، وانتسب بعض العشاق إلى حبيباتهم. ولست أدري إذا كان ينبغي لي ان اقلب الصورة، فاقول إن الجريدة هي بنته وصنيعته وربيبته على امتداد أربعين عاماّ مضت من عمرها الصعب والجميل… فالأجدر أن تشبهه هي أكثر مما يشبهها هو، فهو الأصل وهي الفرع، لكنني انتبهت إلى حديث مروي عن رسول كريم، فقد جاء في «الصحاح» أن النبي العربي قال: «فاطمة أم أبيها»… فاعتدلت قليلا… ثم اتضح لي أننا مهما تشعبت بنا الأسباب، وافترقت الأنساب، فإننا ابناء أبنائنا، وآباء آبائنا.. وإن الأمكنة والأزمنة والمعالم تلتف على ناسها التفافاً قوياً يجعل الفكاك منها صعباً.. فأنت ترى، على سبيل المثال في وجه أبي الطيب المتنبي (وأعني شعره)، وجه حلب في أيام سيف الدولة الحمداني، من ألف عام مضت، ونيف، بكل ما فيه من قلق وبطولة، ومغامرة واقفة على ذاك السيف العالي من البطولة والموت أو الزوال… وأنت ترى في الصخرة الواقفة على الأطلسي على معبر العرب من نهايات الشمال الأفريقي إلى إسبانيا، وخروجهم من بعد ذلك مع آخر ملوك الطوائف ابي عبد الله الصغير، إلى المغرب،… أنت ترى في تلك الصخرة المسماة «دمعة المغربي»، وجه الشروق العربي في إسبانيا ووجه الزوال.
وأنت ترى في وجه جريدة «السفير»، حين تستعرضها ككتاب أو سجل أو رسول، على امتداد اربعين عاماّ من عمرها (1974-…)، قلق طلال سلمان نفسه، مرحه المر الذي يخفي حزناً بعلبكياً قديماً، الحزوز المخطوطة على جبينه أخاديد الحرب الأهلية الموحشة، وزهور المقاومة وهي تنبت كورود شمسطار في الجرد، انحناءته عليك وهو يسلم، وداعه لك وكأنه يستقبلك… بل ترى باختصار، غنائية الدراما اللبنانية والفلسطينية بعينها، وإنشاد التراجيديات الطويلة التي مرت على رقعة من الأرض العربية، على مساحة لا تزيد عن مساحة جريدة.
أربعون عاماّ من حياة إنسان أو جريدة، هي عمر بكامله، ربما نصف عمر، وربما أعمار كثيرة.. وقد مرت جريدة «السفير» بذلك كله دفعة واحدة.
يستقبلك طلال سلمان من باب الجريدة إلى محرابها، ويدور معك في الداخل، في الزوايا والهوامش والحواشي، بل لعله ينتظرك «على الطريق»… ثم يودعك على العتبة بوداع جميل.
ولا بد هنا من المفارقة التالية… فقد ولدتُ في قرية جنوبية في أواسط القرن الماضي، وكبر وعيي فيها ونما على جد لا يُنسى… رجل شيخ مجرب كان شجياً ومحباً، كان ملاذاً للقرية، وأباً وأكثر من ذلك. هو يعقد القرانات فيها، ويبارك الولادات والأطفال، ويحل الخصومات، ويصاحب الموتى إلى مقرهم الأخير.. وكان إماماً للقرية وطبيباً لها، وكاهناً.. إذا مرض طفل يُحمَل إليه، فيقرأ على جبينه ويمسح فيشفى، وإن شردت غنمة من القطيع يعقد عليها لسان الوحش لكي لا يفترسها الذئب، فتعود إلى الحظيرة… وكان شجي الصوت يبكي ويطرب…
ما من صديق لطلال سلمان مات إلا وودعه برثاء، وما من محب تزوج أو سُرَّ بولد، إلا ومدَّ له قلمه الأخضر بالتهنئة…
إمام الهوامش
وطلال سلمان إمام في هوامشه، يموج مع حركة المجتمع والسياسة والثقافة بلا انقطاع، ثم ما يلبث ان يخلو في آخر ليل الهوامش، إلى حقيقته وسكونه العميق. إلى الشعر. ولا فرق هنا بين الشعر الذي يكتبه طلال في تهويماته، وبين العشق الذي يطلقه على لسان قرين له يسميه «نسمة»، ذاك الذي لم تعرف له مهنة إلا «الحب».
في قاع طلال سلمان شاعر وعاشق. يأتيك من خلف ظلال وحجب…. يأتيك على استحياء هو أجمل ما فيه.
صحافي؟
أية صحافة يا رجل؟ إن الصحافي هو اسم من أسماء طلال سلمان الحركية، اما هويته الحقيقية فهي هنا في هذا المزيج الإلهي في قلبه وقلمه، من الشاعر والعاشق.
هو ابن الجرد البعلبكي القاسي ذي فضاء الطير والحرية، وهو ابن المدينة العربية الجميلة والمعذبة (بيروت) في وقت واحد. مولود له أمّان. سوف نضع هذه على تلك، فتستقيم لنا كيمياء الرجل وكيمياء جريدته… بدءاً من:
1 ـ الإسم: فالسفير من السفر، وهو في «ابن منظور» مقدم الرأس، ومن معانيه «المقدم والمصلح من القوم»، ومن معانيه ايضاً أنه «الكتاب» اي أنه «يبين الشيء ويوضحه»..
وفي الاصطلاح، السفير صاحب السفارة، وهي تفترض ارضين، أرض الداخل وأرض الخارج، والسفير بينهما صلة الوصل.
وليس شعار الحمامة الطائرة، بلونها الليموني المعهود، فوق اسم الجريدة، سوى شارة هذا السفر ورمزه، على غرار الحمام الزاجل، في البريد القديم.
هذا على ان ما يحيط بالإسم او ما يكتنفه من جانبيه، وتحته، يشي بمعنى السفارة أو الرسالة التي حملتها الجريدة ولا تزال. فقراءة العناوين واستنطاقها على أنها علامات signes معبرة عن افكار وخطط ومشاريع أصحابها، تسمح لنا بالتغلغل قليلاّ إلى الفترة السابقة على إصدار الجريدة، إلى ما كان يجول في فكر صاحب الجريدة ومؤسسها طلال سلمان، العريق في الصحافة، قبل أن يكون له مشروعه الخاص، على غرار ما يجول في مخيلة الشاعر قبل ان يخرج قصيدته إلى حيز الوجود.
الشعار
تقدمت الجريدة وقدمت نفسها للناس، مؤيدة بشعاراتها، ولا نبالغ إذا قلنا، «مزنرة» بشعاراتها.والشعارات هنا هي «قيم» أو «مبادئ عمل» أو «دليل افكار» أو «حدود».. وما يشبه ذلك. وأول هذه الحدود التعريف بـ«السفير»، على انها «يومية سياسية عربية»، تحت ذلك يأتي حد آخر لها تفصيلي، إنما بحرف اصغر من حرف الحد الأول، وأبعد مسافة عن اسم الجريدة، وهو التالي: «جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان»… ذلك لا يعني، كما قد يتبادر للذهن لأول وهلة إيلاء أولوية عربية قومية للجريدة على محليتها اللبنانية، بل الإشارة إلى ما يطلق عليه امين معلوف «الهوية المركبة» لبعض الثقافات التي تنطوي على عناصر متكافئة أو متداخلة في تركيبها، بحيث لا يمكن إهمال عنصر او تقديمه على عنصر آخر من دون الوقوع في الخطأ او الشطط. فهذا الحد المزدوج للجريدة، هو حد سياسي وثقافي في آن. وقد حملته الجريدة وتبنته في عام صدورها 1974، وهو العام الذي كان فيه الحوار حول «الهوية» قد وصل في لبنان إلى تخوم الصراع المسلح، وكانت نار الحرب الأهلية تتجمع وتتحفز تحت رماد «الحوار» او قشرته الاجتماعية والسياسية الواهية… فالحد العربي للبنان هو حد جوهري من حدود هويته، وقد تبنته الجريدة مذ ذاك ولا تزال… وليس بعيداً عن ذلك، الزاويتان اللتان درجت ولا تزال على إثباتهما في اعلى الصفحة الأخيرة، على جانبيها، إحداهما كلمات منتخبة لجمال عبد الناصر، والثانية كلمات متنوعة من التراث والمعاصرة، من ابن المقفع والجاحظ والمتنبي وسواهم، إلى جان جاك روسو وجبران والريحاني وقاسم أمين وأمثالهم… يلاحظ أنه، مع الأيام، اختفت زاوية الكلمات المنتخبة، واستمرت زاوية كلمات جمال عبد الناصر حتى اليوم… ولذلك دلالة سياسية وثقافية في وقت واحد…
فحضور عبد الناصر الدائم والمتواصل في جريدة خضعت لما خضعت له الأزمنة العربية الحديثة والمعاصرة من تقلبات، هو حضور قومي بالمعنى الأصيل والتجديدي أو الانبعاثي للكلمة، على غرار ما اشار إليه توفيق الحكيم في روايته «عودة الروح»، فنحن نرى اليوم بالذات، وبعد تقلبات الربيع العربي في مصر، تعود روح عبد الناصر، وكلماته، مع تجدد الثورة، وانتفاضة الشعب العظيم. هذه الروح لم تغادر جريدة «السفير»، من خلال كلمات عبد الناصر المستعادة، ليس من خلال كادر مختصر مستمر أعلى الجريدة، بل من خلال تغلغل هذه الروح إلى دواخل الصحيفة، وفعل فعله على امتداد المعارك والسجالات التي خاضتها خلال الحرب الاهلية، وما بعدها، حتى اليوم، والوجود الفلسطيني السياسي والمسلح في لبنان، والهزيمة ومعناها، والمرحلة الساداتية وظلالها القاتمة، وامتدادها في زمن حسني مبارك، وصولا إلى جدار الممانعة العظيم الممتد من دمشق إلى الجنوب اللبناني، وانتصارات المقاومة المعمَّدة بالدم والزغاريد، وانتفاضات الشعوب العربية…برموزها وشعوبها.. حتى كأن الكلمات المختارة لجمال عبد الناصر، هي بمثابة نقاط يومية من زيت يسكب على نار عربية، يشعلها كلما هددها الخمود. لو نزلنا قليلا تحت اسم الجريدة وشعار الحمامة الطائرة، في الصفحة الاخيرة، لقرأنا حداً إضافياً من حدودها، وهو انها «صوت الذين لا صوت لهم».. فماذا بإمكان جريدة أن تفعل في هذا المقام الخطير والصعب «صوت الذين لا صوت لهم»؟
إن تقليب هذا الحد على وجوهه، في ما انتجته هذه الجريدة، وثبت في ارشيفها على امتداد اربعين عاماّ من الصدور وبعض التوقف، من تعليقات وأخبار وافكار وتحقيقات وثقافة ورسوم كاريكاتور وصور، يجعلنا امام ابرز معالم مسيرتها ومشكلاتها في آن.
جريدة قلقة
لا ريب في أن قلقاً ما يرافق جريدة «السفير» على العموم.. بل نستطيع أن نقول إنها «جريدة قلقة»… ولعل هذا القلق هو سبب استمرار صدورها بقوة، في زمن التقلبات الصعبة والازمات السياسية والمالية، وتطور التقنيات الإعلامية الهائل. ومصدر قلق «السفير»، على ما نرى، هو الرسالة التي وضعتها على عاتقها، والمرحلة التاريخية التي رافقتها، ولعل لمصادر التمويل نصيباً في ذلك. لقد شاءت لنفسها ان تكون «جملة اعتراضية» على العموم، فضلاّ عن رغبتها في ان تجمع في صفحاتها الكسور والشظايا والفقراء والصعاليك والشعراء، فإنها ماشت النبرة القومية في الكثير من رومنسياتها وانكساراتها، والتيارات اليسارية في ثورياتها وطفولياتها، مثلما ماشت المقاومة الفلسطينية في لبنان، في تعرجاتها الكثيرة… ويكفي أن نشير إلى هذه العناوين دون سواها، لكي ندرك معنى أن تكون هذه الجريدة «قلقة»… إن قلقها ليس قلقاّ ذاتياّ مزاجياّ بلا ريب، بل هو قلق تاريخي لمرحلة وتيارات وأفكار متلاطمة بتسارع قوي لا يجعل السفينة هادئة في بحر ساكن.. نحن لا ننفي مزاجية بعض من تولوا المسؤوليات الثقافية والسياسية والفكرية فيها… لكن ذلك كان يزيدها قلقاً على قلق… لقد بقي، على سبيل المثال، سعيد عقل يكتب في صدر الصفحة الأولى منها.. بكلمات .. كسباً للشعر وللشاعر، إلى أن انقلب السحر على الساحر.. وقد قال لي نزار قباني ذات مرة، إن النار دائماً تأتيني من هذه الجهة، حيث كان المسؤول الثقافي فيها (يومذاك) يعتبره شاعراّ بورجوازياً في العصر الثوري، ولا يوفر مناسبة للغمز منه بعلامات الاستفهام والتعجب.
و«المبدئية» التي حاولت «السفير» ان تتبناها، في فترة من فترات احتدام الصراع، كانت مقترنة بمحطات قول وعناوين تترجم هذه المبدئية.. من ذلك عنوان «موقف» الذي كان من عناوين الصفحة الثقافية اليومية.. فموقف معناه موقف، وجمعه مواقف، أي ما يشبه محطات سير او خريطة طريق… وقد يقترب احياناً من الايديولوجيا… خاصة يوم تولى الإشراف على الصفحات الثقافية فيها، مسؤولون ايديولوجيون (ماركسيون أو يساريون على العموم) وكانوا يتغيرون بسرعة، وكان هذا التغير يرافق صفحات الرأي أيضاّ، ما جعل الاستقرار فيها صعباً.. لا سيما أن المزاجية لم تكن تفارق الكثيرين من مسؤوليها الأيديولوجيين.. فتصور ماذا سيحصل من جراء ذلك. ولست أدري إذا كان قد بقي احد من كتابها التاريخيين حتى اليوم.
سيكون من المناسب ان نشير إلى أنها اختصرت الزمان الفلسطيني في لبنان، بناجي العلي، وفتاه الضئيل الهزيل الذكي الساخر «حنظلة» وهو واضع يديه خلف ظهره، وشعراته واقفة على رأسه، ويختصر من خلال كلماته وتعابير وجهه ويديه، وإشاراته، العذاب الفلسطيني والثورة الفلسطينية، والاحتجاج بمعانيها العميقة، فناجي العلي جزء مهم من تاريخ هذه الجريدة.. وهو لا يزال واقفاً على مداخلها حتى اليوم، تطالعك رسومه على الجدران، وفي غرف التحرير.
ولا يمكن أن نمر بشعراء المقاومة الفلسطينية المعروفين، من أمثال محمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو، وشعراء الرفض العربي كمظفر النواب، من دون ان تكون «السفير» محطة لأشعارهم وأخبارهم.
وأعتقد أن شعراء الجنوب أخذوا الحيز نفسه من الاهتمام في الجريدة.. اذكر أننا لم نفكر بجريدة أخرى سوى «السفير» نقدم لها اشعارنا خلال سنوات الحرب الطويلة، وما تعرض له الجنوب من محادل العدو، ويوم كان دمنا هو حبرنا، كانت جريدة «السفير» تستقبل هذا الحبر وتكرمه… كانت ولا تزال هكذا حتى أمس الضاحية الدامي، وحتى يومها الغامض كالسر.
زمان قلق وجميل وحي هو زمن «السفير»
نلوي إليه اليوم أعناقنا لنقرأ بعض ملامحه في وجه طلال سلمان.
محمد علي شمس الدين
السفير، 2132014