قالت: عدت من نزهتنا تلك الأمسية وفي الصدر ضيق والعقل مشوش. استقبلتني أمي عند الباب. كانت في انتظار عودتي من نزهتنا. فضحتها ابتسامتها التي جمعت دائما بين الطيبة والتخابث، ابتسامة رضا أم مشفقة على ابنتها. لم تسألني لأجيب. ولكن من انكسار في نظرتي ورعشة في صوتي وأنا أحييها وأشكرها على انتظار عودتي وصلتها إجابة على سؤال لم يخرج من بين شفتيها.
•••
خرجت للقائك عصر ذلك اليوم وكل أهلي يعرفون أنني أقابلك لأحمل لك نبأ موافقة الجامعة في أمريكا على طلب التحاق في برنامج الدراسات العليا. قبل خروجي وبينما كنت على الهاتف أتحدث مع صديقة في نفس الموضوع سمعت أبي يهمس لأمي في غرفتيهما عن خشيته أن أعود من اللقاء مجروحة النفس أو القلب أو الاثنين معا. كلنا، باستثناء أبي، في غمرة فرحتنا بالموافقة لم يصرح بما كان يتوقع من رد فعل من جانبك. ربما ولأننا فردا فردا في العائلة كنا نعتبرك واحدا منا تصورنا أنك لابد ستفرح لفرحتنا. عرفوا وأيقنوا، تماما مثلما عرفت أنا وأيقنت، أنك تحبني، يعني ستفرح لي مثلهم وأكثر. باستثناء أبي أخطأنا التقدير.
•••
لم أنس كيف كان وقع الخبر عليك. كنت، وأنا أقرأ عليك رسالة الجامعة، أمسك بيدك بين كلتا اليدين. ما إن انتهيت إلا ويدك التي تحتضنها يداي الاثنتان راحت تفقد شيئا فشيئا الدفء الذي حصلت عليه من الاحتضان الطويل إلى أن صارت باردة. أصابعك التي كانت قبل أن اقرأ عليك خبر السفر تلاعب أصابع يديّ في حب وحنان تباطأت حركتها حتى سكنت. رفعتها إلى فمي وقبلتها واحدا بعد الآخر. ظلت باردة وساكنة. شردت بعينيك بعيدا عن وجهي. أخذتك مني أمواج النيل المتهافتة بدلال على موقع تحت قدميك ترسو عليه وتنتهي فيه أو تنسحب عنده. مشينا عائدين في اتجاه بيتي. لم تنطق بكلمة طول الطريق. خفت علينا من السيارات المسرعة فصرت أقودك لأعبر بك الشوارع. اقتربنا من البيت. شعرت بك تسحب يدك من يدي المطبقة عليها بعناد. عند البيت تكلمت كلاما لا رابط بينه وبين رسالة الجامعة أو بينه وبين بعضه البعض. لم أقاطعك. تكلمت عن عيد ميلاد شقيقك وعن انقطاع الكهرباء المتقطع في بيتكم وعن أخر فيلم لإسماعيل يس. قاطعتك بضغطة على يدك. نظرت في وجهي نظرة لا معنى لها ولا رسالة فيها. بصوت خفيض سمعتك تقول (مبروك)، وصلتني خالية من حرارة التهنئة. رأيتك وأنا مندهشة تستدير ملوحا لسيارة أجرة بالتوقف. توقفت تنتظرك. سحبت يدا خلت من أي شعور. تركتني في منتصف الرصيف واختفيت داخل السيارة ولم تدر رأسك ولم تلوح بيدك مودعا. وقفت غير مصدقة. انتبهت بعد قليل على صوت البواب يدعوني من بعيد للدخول وركوب المصعد. دخلت وركبت ورأسي منكسة أخفي عن فضوله دموع حسرة.
•••
قضيت الأيام الباقية حتى موعد سفري منشغلة بالتحضير والتوديع. لم أودع صديقا أو صديقة وجار أو جارة إلا وفي عيونهم أو على ألسنتهم سؤال مكبوت. عشت جميع الأيام وحولي عائلة لا تجيد أي فن من فنون التعتيم. أحاسيسهم على وجوههم. اعترف أنني بذلت جهدا خارقا لإخفاء شعور خيبة أمل أو حسرة أو احتمال فقد عزيز غال، أؤكد اليوم أنه كان بالفعل جهدا خارقا باعتبار أنه صدر عن فتاة لم تتجاوز بكثير العشرين من عمرها، ولم تعرف عن الحب وقتها إلا هذا الحب ولم تتصور أنه يمكن للزمن أن يأتي بمثله. في الحقيقة وحتى يومنا هذا أنا لا أعرف كيف استطعت وأنا في هذا العمر الصغير الخالي من تجارب وسير وحكايات أن أحشد كل هذا الجهد. كانت مرحلة شاقة في الإعداد للسفر والرحيل بعيدا عن الأهل والأصحاب وفي قلبي غصة. أقسمت يوم وصلت إلى المدينة الجامعية ألا أدع غصة القلب تقف في طريق صعودي العلمي. عرفت أن المهمة كما حددتها ستكون صعبة، ولكن لن تكون مستحيلة.
•••
نجحت ووصلت. درست وعملت مع رجال وصادقت رجالا وتزوجت منهم وأنجبت رجالا حتى تخيلت أني صرت أعرف الرجال. عرفتهم شبانا وعرفتهم شيوخا. عرفتهم أنواعا وخصالا. فهمت تصرفاتهم أو تفهمت أكثرها وبقي القليل عصيا على الفهم وليس التفهم. ومن هذا القليل تصرفك معي في تلك العصرية التي حفرت أخدودا في نفسيتي. أتظن أني نسيت؟ تخطئ إن راحت بك الظنون إلى هذا الظن. أتعرف لماذا استمرت هذه العصرية حية في الذهن والقلب معا؟. أبقيتها حية ليبقى حبي لك حيا. قلت لك أن حياتي لم تتوقف. تعايشت مع واقع الحياة وضروراتها وما تفرضه علينا من رغبات وحاجات. تزوجت وحبى لك حي في قلبي. لم أخف هذا الحب عن صديق عرفته أو رجل تزوجته. ظل شرطا حيويا لحياة مثمرة تخلو من خداع.
•••
تعودت ألا أخفي إلا القليل. لم أخف عنك شيئا هاما، ولا أخفيت عن أمي عواطفي ومشاعري تجاهك. كثيرا ما نبهتني إلى أخطاء في تصوراتي وكنت أستجيب وأصحح ما خاب أو انحرف إلا خطأ واحدا. اختلفنا. أنا اعتبره تصرفا سليما وصادقا ونابعا من طبيعة هذه العلاقة وهي تراه خطأ جسيما. تعودت أن تراني أغرقك بالتدليل. لم أكن لاترك لك فرصة لتمارس الاهتمام بي وبمصالحي ومستقبلي. أنا التي أرعاك ولا أنام الليل إذا مرضت أو استسلمت لخوف من امتحان أو مقابلة عمل. كم مرة طلبت منك أن تقضي مع أمك وقتا أطول وأن تذهب معها إلى طبيبها وأنت تصر على قضاء الوقت معي. نعم سمحت لك بالاعتماد على وجودي في حياتك. من خلال علاقتنا اكتسبت خبرات ليست من اختصاص النساء ولم أمنحك الفرص لتكتسب خبرات الرجال وصفاتهم.
الآن وقد وصلنا أنا وأنت إلى ما بعد منتصف العمر أتوق لأسمع منك تفسيرا لتصرفك معي على النحو الذي فعلت في تلك العصرية. هل كان الخبر مفاجأة لم تتحملها؟ هل خفت تفقدني؟ هل غلب عليك الظن في أن يسبق نجاحي نجاحك؟ هل عجزت عن عرض بدائل نلم بها شملنا؟.
•••
قالت وقالت وهو منصت حتى انتهت. مرت دقائق قليلة سكت فيها الاثنان. راودتها خلالها الرغبة القوية في أن تمد يدها كما كانت تفعل قبل سفرها فتمسح بها فوق شعر رأسه. لم تفعل. أرادت لوهلة قصيرة أن تعفيه من الإجابة على أسئلتها. خافت من إجابة تجرح إحساسه فتفقده إلى الأبد. بالفعل راحت تتمنى ألا يجيب. تحركت في مقعدها استعدادا للنهوض والمغادرة. أشار بيده أن تبقى فلديه في تلك اللحظة ما يريد قوله. سحبت الكرسي حتى تلامس الكرسيان وعادت تجلس.
•••
نظر إليها بعينين دامعتين وقال: “أعذريني يا أغلى الناس، لم أكن رجلا”.
ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق