أخي الأستاذ طلال
«رِحلةٌ في الأرضِ إلى أهلها»([)، كانت من أمتعِ الرحلات التي أتيحَ لي أن أُشارِكَ فيها. فعلاوةً على أنسِ الرِّفقةِ وعطرِ الأنفاسِ، اكتشفتُ، كم أنَّ طلال سلمان والأدب لا ينفصلان، كطلال سلمان والصّحافة. « للأرضِ ملامح أهلِها، وللناسِ ملامح أرضِهم، فلا مجالَ للتيهِ والضياعِ عنِ المقصدِ؛ والأسماءُ المُباركةُ نورٌ على نورٍ يُهديكَ إلى منابتِهم قرية، قرية ومَكْمنًا، مَكْمنًا(..)».
لقد أدركتُ، يا أخي، أنَّ الأدبَ، وإن شكَّلَ المِهنةَ الثانية لقلمِكَ الموهوبِ، فإنَّهُ، يكوِّنُ حَجَرَ الزَّاويةِ في بُنيتِكَ الداخليَّةِ كإنسانٍ حُرٍّ، استمَدَّ حُرِّيَتَهُ من أرضِ لبنان المِعطاءِ ومن سمائِه التي في وِسْعِ السماء.
«في الشهادةِ لِكُلِّ عائلةٍ نصيب. لكُلِّ حيٍّ من أحياءِ صيدا الاسم المُبارك (..) الأرضُ هيَ الجامِعةُ؛ والمصيرُ هوَ المُوَحِّدُ؛ والرِّزْقُ يوطِّدُ وشائجَ الأخوَّةِ».
لقد أثرتَ فيَّ الحنينَ إلى الأرضِ وإلى القيامةِ الظَافرةِ، ومَسَحْتَ، بلمسَةِِ حنانٍ، ابتسامةَ السُّخْريَّةِ عن شفتيََّ من الذين يخونونَ الأرضَ ويستخِّفون بالشهادةِ، ورسَمْتَ، بكياستِكَ وحِسٍّكِ الريفيٍّ المرهف، ابتسامةَ الإعجابِ والإكبارِ بمن يروي أرضنا، بدَمِهِ ساعةَ تدعو الحاجةُ، وبِعَرَقِ جبينِهِ، في كُلِّ ساعة.
«الأرضُ مُباركةٌ، ليسَ هذا شعرًا، إنَّها تعرِفُ أهلها؛ تعرِفُهم من أنفاسِهم، وتعرِفُ مهماتهم فتمتصُّ وَقْعَ أقدامهم». تبارَكَ الله الذي منحَ هذا القلمَ كُلَّ هذه الرِّقَّةِ، كُلَّ هذه الطَّاقة على الإنصات فيسمع، وسط صَخبِ المصالِحِ، بوح الأرضِ وهمساتِ عشبِها.
ما ألذكَ، يا أخي، من عبيرِ الأرضِ، وعطرِ الشهادةِ تخطو صوبَ السَّماء
«أتأمَّلُ وجوهَ هذه الكوكبةِ منَ الرِّجالِ البسطاءِ، بينهم من يُشْبِهُ عمِّي وبينهم من يحمِلُ ملامِحَ خالي؛ بَعْضُهم كأنَّهُ جاري الذي كان يسبقني بالتَّحِيَّةِ برغمِ أنَّهُ أكبر منِّي سِنًّا في طريقِ العودةِ إلى بيروت، كُنَّا على أتمِّ الثقةِ بأنَّ العاصمةَ الأميرةَ لن تحترقَ».
من يتأمَّلْ في حياتِكَ، أنتَ ألبقاعي المُمَيَّز الذي جذبتهُ العاصِمةُ وعجزت عن اقتلاعِهِ من الأصالةِ والجذورِ؛ من يُمعِن النظرَ في مسيرَتِكَ المُدهِشةِ، يقف على بعضِ مُقوِّماتِها الأساسيَّةِ، ومُعظَمها مُسْتَمدٌ من خصائصِ الأرضِ ومواهِبِها أو من عطايا السَّماءِ ونِعَمِها غيرِ المحدودة.
«يردِّدونَ أمامكَ أسماءَ التلالِ والهضابِ، وعبقُ الإيمانِ يُغَلِّفُ كلماتهم. لقد اكتسبتُ شيئًا منَ القداسةِ: ألم يُطهِّرُوها بدمائهم؟».
إنَّ مثلَ هذه الهوامِِش لا ينتشِلُنا من مُستنقعاتِ التردِّي التي أغرقنا فيها تكاذُُبُ القسط الأكبر من السياسيين ومراوغاتهم وحسبُ، بل يُعيدُ للصدقِ نبلهُ وأفضالهُ ويصلنا بالأرضِ من جديدٍ، وقد أبعدنا عنها العوزُ، حينا، والطموحُ، حينا، واعتداءاتُ إسرائيل في كُلِّ حين.
مقالتكَ يا صديقي، تصلُحُ أن تكونَ مُقدِّمةً لتعريفِ اللبنانيين بجنوبهم العزيز، وبصورةٍ أولى، أن تكونَ أسلمَ الأجوبةِ وأفضلَها على من يسألُ: ما هيَ المُقاومة؟
ولعلَّ خُلاصةَ ما أودُّ اللفت إليهِ، أنَّ أروعَ ما حقَّقتهُ هذهِ الرِّحْلةُ إلى الجنوبِ، هيَ الهوامش التي عكستها بكاملِ بهائها وأدخلتها في روعِ من قرأها كنزًا من كنوزِ الذاكرةِ الأدبيَّةِ والوطنيَّة. وهيَ إلى هذا، وثيقةٌ تاريخيَّةٌ بالغةُ الأهميَّةِ، على غيرِ صعيدٍ، في بلدٍ يكادُ يكونُ أولى ضحايا تاريخِهِ العظيم.
لقد أحسستُ وأنا أقرأ مقالتَكَ اللذيذةَ، الجذَّابة والمُريحةَ، أنني أرافقُكَ على دروبِ الخيرِ والبطولةِ وقد تجاوزْتُ هذا العبثَ التافه، المُتمادي، وهذه المهازلَ اليوميَّة المجبولة بالحقارةَِ، إلى حيثُ لا قيمة لشيءٍ غير الأساسي، إلى حيثُ الكلمةُ الحلوةُ، الصادقةُ توازي الفعلَ، بل تُتَوِّجُ الشهادة.
«(..) يُحدِّثنا فنسمعهُ بقلوبنا؛ نُصدِّقُ كُلَّ حرفٍ(..) إنَّهُ يروي تاريخنا مكتوبًا بنجيعٍ الذين أعادوا صياغته(..) يعتلي صخرة ًنكادُ نَسْمعُ صوتَها تُحيِّه».
في كلماتِكَ يتلاقى الأرضيُّ بالسماويِّ، الشَّهيدُ بالصوفيِّ، المُنظِّرُ بالفلاَّحِ البسيطِ، عاشِِقِ الأرضِ وخادِمها الأمين. إنَّها تُؤالفُ بين نَكهةِ أمين نخله الجماليَّةِ ونبرةِ فؤاد سليمان الكيانيَّة، بين بساطة عُمر فاخوري وتبَحُّرِ ميخائيل نعيمة وألقِ شارل قُرم، وتوازي، في ظنِّي، أجمل الأناشيد التي صاغها شعراؤنا في تمجيدِ القريةِ اللبنانيَّةِ والإشادةِ بمن جعلها مقلعَ رجولةٍ وموئِلَ فضائل وينبوعا يروي عطشَ المدينةِ إلى الشهامةِ والوفاء، ويحميها من طيشِ الفاسدين وغََدْرِ الزَّمان.
وإلى هذا وذاك، شَعَرْتُ بأنَّكَ حاولت، بكثيرٍ من اللباقةِ، أن تضعَ إصبعَكَ على الجُرْحِ اللبنانيِّ الأعمقِ والأشدِّ ألمًا، وفي الوقتِ عينِهِ، أن تشيرَ إلى الدواءِ الأفضلِ والأنجع والأسلم لشفائِهِ.
«في عيونِ الناسِ التماعةٌ خاصَّة؛ هم هنا، كانوا هنا، انتصروا هنا وسيبقون هنا(..) ثابتون هنا كما الجبال؛ كما التلالِ؛ كما الصخور؛ كما الينابيع؛ كما أشجارِ السنديان».
ولعَلَّ عظمةَ هذا المقال، المُدهِش في وضوحِهِ وسلاسةِ تعابيرِهِ، تتجلّى في استبعادكَ الموتَ لفظًا أو تلميحًا، على الرُّغْمِ من أنَّ ضميرَ الغائبِ كان دائمًا، أبدًا، الشَّهيد؛ لهذا جاء الوصفُ، على بساطتِهِ وعُمقِ دلالاتِهِ، مهرجانًا للفرحِ في قلبِ الطبيعةِ، كأجملِ وأرقى ما تكونُ المهرجانات.
يذكُرُ الإعلاميُّ الفرنسيُّ جان دانييل، أنَّ أشدَّ ما آلمَ الأديبَ فرانسوا مورياك، يومَ اضطر إلى مُغادرة مجلَّة «الاكسبرس» إذْ لم يَعُدْ يتحمَّل تحامُلَ جان جاك سرفان شريبر على الجنرال شارل ديغول، هوَ الانقطاعُ عن مُخاطَبةِ قُرَّائِهِ.
ويا أخي طلال، إنَّ الهوامِِشَ الأسبوعيَّةَ تُشَكِّلُ هَمْزةَ الوصلِ الأمتن والأسمى بينك وبين قرَّائك، فلا تفوِّتها عليكَ ولا تحرمهم منها، فكثيرون، رجالاً ونساءً، فضوليين ومُعجبين، ينتظرونَ يومَ الجمعة ليشتروا «السفير» ويتعرَّفوا، بصورةٍ أفضل، الى طلال سلمان الإنسان الذي يحجُبُهُ، أحيانًا، طلال سلمان الصِّحافي أو يغيِّر ملامِحَهُ طلال سلمان السياسي.
وبعد، أرجوكَ بإلحاحٍ، أن تثابرَ على هوامِشِكَ، فهيَ الأفقُ الضروريُّ لقلمِكَ الطَّموحِ؛ فأنتَ مع رفاق أبرار في «السفير» [الفضل شلق، أحمد زين، عبَّاس بيضون، اسكندر حبش وعناية جابر…] تَسْتَنهِضونَ الفكرَ اللبناني والعربي، تُنشِّطونَهُ، تقوُّونَ مفاصِلَهُ، تُجدِّدونَهُ وتُسهمونَ، بصورةٍ فعَّالةٍ وغير مُدَّعية، في إعادةِ تأهيلِ الثقافة اللبنانيَّة، دونَ أن تُلامِسَ مُقارباتُكم الفكريَّةُ الشططَ أو يبلغَ نقدُكُم الذَّكيُّ التجَنِّي أو الإساءة؛ وهذا في ظنِّي يقرِّبُنا من إقامةِ مُجتمعٍ إنسانيٍّ أقربَ إلى العقلِ وأبعد عن المُهاترات وحربِ المصالحِ وأقل تشويهًا للطبيعة؛ مجتمع يُُقلعُ عن الانكفاءِ والتلَّهي بالتوافِهِ، وينطلقُ لمُتابعةِ دورِهِ الرائدِ في النهضةِ العربيَّة.
[ مقال صدر في «السفير» الصفحة 11 في 9 شباط 2010
انيس مسلم
السفير، 922010