نادراً ما قرأنا بالعربية كتاباً تمتزج فيه الرواية مع التحقيق الصحافي الموثق بأسلوب شيق في سلاسته وحرارته كهذا الذي أصدره الدكتور يوسف سلامة تحت عنوان “جريمة في البيت”.
البساطة هي الأجمل، والوقائع متى انتظمت في سياق منطقي تقول أكثر مما يقوله الخيال، و”الحبكة” وسيلة تجميلية ليس إلا يستخدمها القلم الرشيق لإبراز فكرة يراد التوكيد عليها.
“جريمة في البيت”، محاولة بالأسئلة لاستكشاف الدوافع الحقيقية لواحدة من الجرائم الفردية (؟) البشعة التي وقعت في بيروت الغارقة في دماء أبنائها والمقيمين فيها خلال الحرب الأهلية التي استولدت حروباً لما تنته.
متى تكون السياسة، والتي بين أدواتها “الحروب” وحفلات القتل الجماعية، تبريراً للجريمة الفردية؟!
وهل يمكن الفصل بين السياسة والاقتصاد والأوضاع الاجتماعية وبين آثارها النفسية على الذين يحترقون في أتون انهياراتهم وتحويل المشاعر الدينية إلى غرائز مهتاجة ومستثارة تذهب بالعقل وبالإنسانية وبالدين ذاته وتمسخ البشر وحوشاً لا ضابط على حركتها إلا القوة؟!
وكيف تسنى لهذا الرجل – الطيف، المستوطن الحلم، أن يتعامل مع حكاية إبراهيم طراف، بكل ملابساتها وتفاصيلها، وأن يدب خلفها بهذه الرشاقة وبهذا الإصرار على أن يعرف، وبداية لنفسه، كيف ولماذا وبتأثير أية عوامل نفسية وتربوية واجتماعية يمكن لإنسان سوي أن يقدم على ارتكاب جريمة ليس في مسلكه الظاهر ما يوحي بقدرته على اقترافها؟!
عرفت الدكتور يوسف سلامة، أول مرة، بعدما أطلقه خاطفوه… وكانت “السفير” قد رفعت الصوت، مع الآخرين، استنكاراً واحتجاجاً ومطالبة بتحريره، ثم التقيته أكثر من مرة مع الراحل الكبير منير أبو فاضل، ثم عدت فعرفته أستاذاً وصديقاً من خلال هشام شرابي.
وفرحت بالاكتشاف: رجل لا يعرف الحقد ولا الضغينة. وشاعر متصوف في عشق الجمال وبراءته طاهرة بحيث يخدشها أي تعبير طائفي. ثم كانت المفاجأة الممتعة حين عرفت يوسف سلامة كاتباً.
“جريمة في البيت”، جديد في عالم الكتابة.
لو أن يوسف سلامة يقبل أن يكون شاعراً – رواية في الصحافة!
تقي الدين الصلح كاتباً..
قلة هم الذين انتبهوا إلى الذكرى الخامسة لغياب تقي الدين الصلح،
بضعة أصدقاء ونفر قليل من الأقارب وباقة ورد مع الفاتحة على الضريح…
أما نحن، الجيل المخضرم في هذه المهنة، فتقي الدين الصلح معنا دائماً: إنه واحد من قليل علمونا أن نتأدب في حضرة اللغة، وأن ندقق في استخدام اللفظة وفي صياغة التعبير وكأننا ننقش على لوح ذاكرة التاريخ، وإننا سنحاسب على أدنى اختلال في المعنى، مبالغة أو انتقاصاً من مقصد ما ترمي إليه الكلمات.
بين الرجال أفراد معدودون يتصرفون مع اللغة باستشراف للتاريخ يفرض عليهم أن يكونوا صارمين مع الذات، حتى لا يتركون ما يلامون عليه.
وتقي الدين الصلح كان مشبعاً بحس التاريخ. كان التاريخ يسكنه. وكان في كلماته، لاسيما المكتوبة، كأنما يتوجه إليه عبر الناس.
ولقد يختلف الناس على تقي الدين السياسي فيقدره بعضهم ويلومه بعض آخر ويأخذ عليه بعض ثالث هذا الموقف أو ذاك، لكن تقي الدين الصلح الكاتب أو الموحي بالكتابة أو متذوق الكتابة، عاشق الكلمة والمعنى البكر، ففوق الخلاف والاختلاف.
في عصر هذا الطوف من الكلام السياسي المبتذل، بل السوقي، والذي يتهاطل علينا عبر الإذاعات، في حفلات الخطابة الرسمية المتصلة، نفتقد كثيراً الرجل الذي كان يعوضنا بالأفكار والكلمات المثقلة بالمعنى المواقف السياسية العاجزة أو القاصرة.
اليوم لا موقف ولا أفكار!
.. ورينيه معوض قارئاً
… ومع تقي الدين الصلح الكاتب لا بد من استذكار رينيه معوض المتذوق.
لم يكن رينيه معوض كاتباً، لأنه كان بين متذوقي الكلمة وبين أولئك الذين يذهبون معها إلى مداها استيفاء للمعنى الكامن فيها والذي قد يفجرها بزخمه.
كان رينيه معوض يقرأ “المضمر”، وعبر ابتسامته الخجول كان يستنطق الكلمة فتعترف له بضمير كاتبها، ولا يهنأ باله إلا إذا باحت له بسرها كاملاً.
الكاتب الممتاز يستولده القراء الممتازون.
والعادية مقبرة جماعية، للكتاب والقراء معاً، فالكلمة الباهتة تحمل تابوتها معها، أما الكلمة المشعة فتضيف إلى عقل القارئ وإلى مشاعره فيرد الجميل بأن يتابع كاتبها ويستحثه كل لحظة ليعطي الأجمل والأبدع.
حليم ومفيدة…
ثلاثة من آل عابد في المختارة “يكمنون” على سن القلم، وأرى نفسي خاضعاً لامتحانهم الدائم ومع كل كلمة كتبها: فوزي عابد، عارف عابد وحليم عابد الذي غيبه الموت قبل سنة وهو بعد في عز قدرته على العطاء.
لقد اصطنع هؤلاء المناضلون الثلاثة جيل المتعلمين الأوائل في المختارة ومنطقتها. حولوا المدرسة الحكومية الابتدائية إلى تكميلية بالقوة، قوة إرادتهم، وعلى حساب صحتهم وهناءة عائلاتهم، وفتحوا بالتالي الباب أمام كل أولئك الفتية الراغبين في التحصيل والعاجزين عن دفع ثمنه.
بين أجل ذكريات مدرسة المختارة قصة الحب التي عشناها كتلامذة بين حليم عابد الأستاذ ومفيدة عابد قريبته – تلميذته – حبيبته – خطيبته ، ثم زوجته وأم بنيه بعد ذلك. لقد أشاعت قصة الحب تلك في نفوسنا حماسة غريبة للمدرسة، للكتاب، للامتحان، لتوكيد القدرة على الإنجاز.
هنا كلمات من مفيدة إلى حليم في ذكرى غيابه، وهي تضج بالحب الأول ذاك، الحب الذي يعطي الحياة معناها ويمنح الإنسان إنسانيته:
“يا رفيق العمر، أكتب إليك وجعي، أرقي، دمعي، زفراتي وآهاتي… فالسكون بعدك قاتل، الوحشة رهيبة والغربة تتسع وتتسع فإذا دنياي مقفرة، نهاري متوغل في ليلي وليلي يذوب في نهاري،
“أطلبك في الأوراق والكتب والمحافل، أبحث عنك في عيون الأولاد، اسأل يميناً وشمالاً، عند الفجر والغسق وما بينهما، وتهزأ مني الأيام.
“وأسأل: من يحمل عني حملي فيريحني؟ ويهمس الصوت الخافت: أحزانك
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان