صورة مقرّبة عن »أرمننا« بلسان شاعرهم تشارينتس
طلال سلمان
نعيش متجاورين، ولكن الجوار لا يتحول إلى قرب ولا الى قربى، فلا يعرف واحدنا الآخر إلا معرفة سطحية لا تنشئ ألفة ولا وحدة في التفكير إلا في ما ندر.
تمر السنون، نتكاثر ويتكاثرون. يعيشون في بيئتهم المتشابهة على اختلاف، المختلفة على تشابه مع بيئتنا. لهم أحلامهم في »أرضهم«، ولهم »تاريخهم« الذي يحرصون على زرعه في وجدان أبنائهم بمعزل عن واقع عيشهم على أرض أخرى وانخراطهم في تاريخ آخر قد لا يتصادم مع ذكرياتهم أو مع طموحاتهم لكنهم يبقون أو يُستبقون خارجه.
يتحدثون بلغتهم التي لا نعرفها، ونتحدث بلغتنا التي بالكاد يفهمونها، ولا نتواصل إلا بالحد الأدنى. نادرا ما صرنا أصدقاء. إذ كان ثمة دائما »فواصل« عدة تحجزهم عنا أو تحجزنا عنهم، ليست اللغة إلا واحدة منها، ولعلها أخطرها.
فاللغة هي المعبِّر الحي عن الوجدان.
اللغة بما هي وعاء الثقافة، الفكر، الفن، الأدب، الشعر، القصة والحكاية، الجسر وأداة التفاهم وولادة التعاطف بين الناس.
نادرا ما تعرفنا الى نتاجهم الأدبي، وبالتالي نادرا ما دخلنا عالم وجدانهم.
وبرغم انهم تعاطفوا مع قضايانا القومية وانخرطوا في نضالاتنا في حالات مشهودة أهمها ساحة القضية الفلسطينية والعمل القومي (العربي)، وتعاطفنا مع مظالمهم الثقيلة التي تشكل قاسما مشتركا مع مظالمنا، وإن كانت أثقل، خصوصا ان القسوة التركية بلغت معهم حدود الإبادة والاقتلاع من أرضهم، وهي التي أدت الى هجرتهم والى قدومهم ليعيشوا خارج وطنهم الأصلي هنا، معنا، في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق ومصر الخ..
في السنوات القليلة الماضية، برزت بعض الظواهر اللافتة والمفرحة متمثلة في تزايد عدد »الزملاء« من الأرمن في وسائل الاعلام، ولا سيما المرئية منها.
أطلت عبر الشاشة الصغيرة مجموعة من الوجوه والأسماء الأرمنية، في برامج سياسية ومنوعات، مثبتة كفاءة ملحوظة، وتمكنا في اللغة العربية، مع حرص على مخارج الألفاظ وقواعد النحو والصرف، بل ان منهم، لا منهن، من وصل في تقليد لهجة أبناء جبل عامل الى مستوى كادت معه تتفوق على العامليين أنفسهم.
وكانت إعلان نوايا طيبة توحي بأن الأرمن ينخرطون أكثر فأكثر في مجتمعاتهم العربية ويكسرون طوق العزلة أو »الغيتو« الذي طالما عاشوا فيه، في لبنان خاصة، لا يختلطون ولا ينخرطون في مجتمعاتهم إلا بقدر محسوب.
ثم كانت »الهدية« التي تلقيناها من مستشار السفارة الأرمنية في بيروت بوغوص سراجيان، وهي ترجمة عربية أنيقة لمختارات من شعر الشاعر الأرمني الكبير يغيشيه تشارينتس، لمناسبة الذكرى المئوية لولادته (وقد وُلد في 13 آذار 1897 في مدينة قارص في أرمينيا الغربية).
في التقديم يقول سراجيان ان يغيشيه سوغومانيان (اسمه الأصلي) الشاعر والناثر والمترجم والناقد، قد برع في الشعر الملحمي، وإضافة الى تأثره برومانسية كبار الشعراء الأرمن؛ أوهانس طومانيان وافيديك اسهاكيان وواهان ديريان، فقد كان واسع الاطلاع على الآداب الأجنبية، وترجم بعض أشعار بوشكين وبلوك وغوتيه وهاينيه وهنريخ والشيرازي والفردوس وغيرهم.
ومع أن يغيشيه تشارينتس كان مناضلا شيوعيا بارزا، أو ربما بسبب من ذلك، فقد »ذهب ضحية الارهاب الستاليني سنة 1937، مثل غيره من كبار المثقفين الأرمن، إذ وُجد ذات صباح ميتا وقد تحطمت جمجمته على عتبة الزنزانة. والبحث ما يزال قائما عن جثته كي توارى الثرى بما يليق بالعظماء«..
هنا مختارات من إبداعات ذلك الشاعر الكبير الذي أحب بلاده أرمينيا، من قلب عقيدته الشيوعية، وغنى الرايات الحمراء، ثم قضى على يد الطغيان الذي اغتال الإنسان والعقيدة والأوطان، فكان لا بد مما كان..
من قصيدة »التمثال«:
»ثمة هكذا أناس في الحياةْ
يمشون اختيالاً بين البشرْ
ومن ثم ينتصبون تماثيل
من دون أن تدري ما اجترحوا من أعمالْ
ورأسك الفارغ هو قاعدة لذاك التمثالْ
وحماقتك هي التي تجعل منهم: تماثيلْ«.
من قصيدة المهرِّج:
»وتنسكب روحك كالخمرة/ مدرارة
على أرضهم المظلمة المكتظَّة/ برائحة الموتْ.
إن شئتم/ غنيت الآن لكم/ النشيد الأول من »الوليمة«.
أغني وتشعرونْ/ كما تشاؤون
وتتحسسون/ الحب والموتْ.
أغني فتطربون/ وأهب أغنيتي الوضاءةْ
لمن تريدون.
ولو كانت.. آخر زانية.
لعل هذه الرقة/ رقة الدب / لا تروق لكمْ؟«.
أما في الوطنيات، ولا سيما في حب أرمينيا، فإن تشارينتس لم يترك سطراً يخلو من ذكرها أو تحيتها، وهنا بعض شغاف قلبه منظومة: إلى أرمينيا
»رأيتِ ألف جرح وجرح وسترينْ
رأيتِ ألف يد ويد غريبة وسترينْ
رأيتِ آلاف الضحايا كحصاد الخريف
ومحاصيل لم تُجْمَعْ أبداً وسترينْ
ناطحتِ الرياح السافيات كالشريد
ورأيتِ حرثاً لآلاف السنين وسترينْ
رأيتِ عباقرة ومفكرين عظاماً أمثال
ناريكاتسي* وشنور هالي وناغاش وسترينْ
أرمينيا يا مَنْ وهبتِ تشارينتس لسانا
رأيتِ ألف أغنية ونشيدٍ وسترينْ«.
يا حلوتي .. أرمينيا
»أهوى اسمك المغمَّس بالشمس يا حلوتي أرمينيا
أهوى وتر قيثارنا القديم ونغمه الباكي الحزين
أهوى عبق الأزاهير وشذا الورود القانيات
ورقصة غانيات ناييري الرشيقات الرقيقات
لن أنسى ما حييت أغانينا ذات الألحان الحزينة
لن أنسى كتبنا وأسفارنا وقد غدت كلها صلوات
ومهما طعنوا قلبي بالسيوف وأدموه بالجراح
فإني أعشق يتيمتي حبيبتي أرمينيا المدماة«
أما الخاتمة الحزينة فقد كتبها تشارينتس مستبقاً لحظة الوداع، ولم ينس فيها أرمينيا، التي تغنى فيها باسمها القديم »ناييري«: وهذه مقاطع من »هاجس السقوط«:
أنا شاعر الآن/ واسمي تشارينتس
سأحترق في العصور/ وسأكون عظيماً وكبيرا.
جئتكم من الدهورْ/ وأذهب منتصرا
إلى الدهور مجددا/ إلى المستقبل النورْ.
فما يريد مني/ حزن النار الملتهبة؟
ماذا تريد روحكِ/ يا ناييري العريقة؟
ولماذا سكبتِ عطركِ/ عند قدميّ
وأحرقتِ مشاعري/ بأشواقك المستعرةْ؟
(*) كوتشاك وناريكاتسي شاعران مشهوران في أرمينيا إبان العصور الوسطى.
حكاية مريض نظري!
قال يشكو لصاحبه: أظن أنني مريض! في البداية افترضت أنها مجرد نزوة أو طفرة من الشبق، ولكنني الآن أعرف ان الأمر أخطر من ذلك… تصور انني كلما نظرت الى امرأة عريتها بخيالي، فلم يعد بوسعي أن أنشئ معها الحد الأدنى من العلاقة الإنسانية؟! فجأة، وبمجرد أن يستقر نظري على أنثى، لا يهم إن كانت صبية ظريفة أو امرأة ممتلئة، إن كانت جميلة أو دميمة، لعوباً أو محافظة، حتى تتساقط ملابسها ويتبدى لعيني جسدها بكل تفاصيله، فأهرب بعيني منها حتى لا تضبطني متلبساً بما يشينني ويخجلها.
حاول صاحبه تهدئته فقال متظرفاً: غيرك يدفع كل فلوسه، وأحياناً بعض عمره ليرى ما يشتهي رؤيته من مكامن اللذة في أجساد النساء.
عاد يقول بلهجة مأساوية: أما أنا فقد فقدت الإحساس بالجمال. صارت النساء أكداسا من اللحم، تتناسق أحيانا وتتنافر أحيانا أخرى. مات الشعر، وصرت أشبه بطبيب في مشرحة، مع فارق أنني أتعامل مع الأحياء. لم أعد أعرف للجمال معنى. فقدت رعشة الانتشاء ومتعة الارتقاء بالمحسوس الى المجرد والامتلاء بالمجرد وهو يملأ أحاسيسك.
أصر صديقه على محاولته كسر المشاعر المأساوية فقال: لعل ما يهون عليك أن النساء يسرن الآن، وبفضل الموضة، شبه عاريات. حتى من ترتدي ثيابا ترى ثيابها قد التصقت بلحمها فأظهرت من تفاصيل جسدها ما خفي أو ما كان يجب أن يخفى. آه من النساء! إنهن مُتعِبات، سواء أكن عرايا أو يحجبن مكامن فتنتهن تحت ملابس لا تفعل غير الاعلان عنها وتحديد أقصر الطرق للوصول إليها.
أكمل وكأنه لا يسمع صديقه: خذ مثلاً هذه التي تمر بنا الآن، إنني أرى صدرها الحقيقي، وهو أصغر بكثير من مظهره المشدود، وأراها عجفاء بارزة العظام بينما ثيابها تظهرها متناسقة القوام… والمصيبة انني لا أعطي نفسي فرصة التحقق من صدق فراستي. إنني أتوهم أنني أرى فأفجع أو أطمئن أو أسعد برؤيتي، ثم أمضي في طريقي وقد خسرت فرصة التعرف الى المرأة بذاتها. انني أرى بعيني خيالي آلاف الأعضاء من أجساد النساء ولا أرى امرأة واحدة! وأغلب الظن أنني لن أستطيع التعرف الى امرأة واحدة!
قال صديقه: اطمئن، فستلتقي ذات يوم مَن تسبقك فتعريك بنظرها أو بيديها من قبل أن تأخذك لعبتك إلى الوهم… ستفاجئك إحداهن، مرة، بأنها حقيقة من قبل أن تغرق في السراب. فاطمئن، وأحمِد الله لأن مرضك لم يصل إلى درجة الخطورة، أي أنك تعري النساء فقط ولا تعري الرجال!
تهويمات
} هل مللت الكلام، أم ملّ منك الكلام؟!
ليس الصمت عقوبة، فللحب ملايين الألسنة! أوليس الزهر والطير والعطر والشمس والقمر والنجم والنسيم والحفيف وارتعاشات أوراق الشجر وخرير الماء وكل ما هو جميل… أليس كل ذلك ثرثرة تستحضر الحبيب وتشهده وتنطقه نثراً أو شعراً أو صمتاً له دوي الطبول؟!
} يأتيني شوقك ناقص اللهفة.
يأخذ الرسول لنفسه ما يدفئ به روحه… أخاف أن أعجز، ذات يوم، عن إنقاذ الرسول من حريقك!
} تصادمت الذاكرة مع الزمن فانخلع قلبي!
الحب لا يشيخ مع المحبين، ولا يتهاوى مندثرا في تجاعيد وجوههم. انه يسكن العينين حتى آخر شعاع الضوء.
} وقف مرحباً وتأملها من خلف نظارتيه، ثم أشار إلى الكرسي أمامه، فجاء صوتها قاسيا: لا أظنها تحتمل أثقال شقائي… لقد ذهب حبي فصرت جبلاً أجرد، لا شجر يكسر وحشته ولا ماء في داخله يملأه فرحاً.
} قال المغني: آه! فقال الساهرون جميعا: آه!
وحين انفضت السهرة، وجاءت الخادمة تكنس الغرفة وجدت آهاً مكسورة نصفين، فأعادت ترميمها وزرعتها في صدرها، فصارت أجمل من مولاتها، فطردتها.
ألا يعرف أحدكم من أضاع »آها« ويطلبها الآن في نساء غير تلك التي اصطنعها ذات ليل؟!
} قلمك جميل، لكن كلماتك عجوز.
من أين جاء كل هذا الشيب الذي يغطي أول سطور تكتبينها؟!
} قالت مستهجنة: تصف زوجي وكأنك تعرفه منذ زمن؟!
قال: انه مرسوم فوق ملامح وجهك المتعبة. ان شبحه يطل من عينيك صارم التعليمات، بارداً، قاسياً بلا ظل. لقد عطّلك كامرأة، فخسر معك رجولته.
قالت وهي تمضي بعيداً: كلكم ذلك الرجل!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
يأخذني حبيبي إلى الدهشة. انه يرينني ما لا أرى. يكشف لي عوالم من الجمال كنت أمر بها فلا أنظرها. ان عين المحب شوافة. في كل لحظة يفاجئني بمزيد من المعارف. وأجمل غزله قوله: انه يقرأ كثيراً، يدرس كثيراً، يسأل كثيراً ليشعرني بالطمأنينة. الحب ضمانتي. لا يعرف الحياة مَن لم يحب. أنا علاَّمة بحبي!