رقص ديمقراطي جماعي في ضوء قمر بقاعي متفرد!
وريقات، وريقات، وريقات،
تهوي الوريقات في الصندوقة ذات الفوهة المقفلة الا لمن يملك رأيه،
تتراكم الوريقات، تصير الوريقات ساقية، نهراً،
تفيض الصندوقة الصغيرة بما احتشد فيها من الارادة الصلبة، فتتدفق المياه غزيرة، ويتشكل الموج بغير إذن، ويندفع الطوفان نحو الذين كانوا يفترضون ان الصندوقة الصغيرة سجن تحبس فيه إرادة الناس فلا تخرج بعد ذلك أبداً.
تنتصب الوريقات رجالاً،
ويطل فجر يوم جديد، عصر جديد،
وتتعاظم القرية فتصل باسمها وبؤسها الى الإذاعات ومحطات التلفزة، ويكون على أهاليها ان يتعرفوا على أنفسهم من جديد: ويسعدون بأنهم قد اكتشفوا السر، وأنهم قد فكوا الرصد، وأنهم عادوا يعيشون حياتهم تحت الشمس.
* * *
لا تباع الأفراح الجماعية في دكاكين البقالة، ولا يمكن تصنيعها ذاتياً ومن ثم توزيعها على الناس في علب الهدايا.
تتفجر الأفراح الجماعية، في لحظة، كما الينابيع. لا هي تستأذن أحداً، ولا تنتظر أن يحدد لها أحد الموعد المشتهى.
ولان الفرح معدٍ، فان بادرة واحدة تكفي: كلمة تطوي زمنا او تفتح الباب لزمن جديد، زغرودة، هتاف بشعار منسوج من ثنايا التمني وقد شارف على التحقق، هجوم بالعناق بين من تبغتهم البهجة فتعقد ألسنتهم وتدفعهم الى التعبير عنها حسياً وبتصرف أفصح من الكلام.
ليل الأحد الاثنين تسنى لي أن أعيش داخل الوهج الأخاذ لفرح الناس وهم يحتفلون بتعرفهم الى قدراتهم التي كانت مطموسة، ويؤكدون حقهم في ان يقولوا وان يقرروا، وان يملأوا الأفق بصوتهم فلا يظل فراغا يردد صدى الصوت الواحد الذي طالما ألغاهم.
لا يعرف أحد كيف كانت البداية: من قال الكلمة الاولى، من أشعل ابتسامته أولا.
لم يكن ثمة صاحب دعوة ولم يكن الآخرون مدعوين، بل وجدها الجميع فرصة للخروج من الكهف المسدود بابه عليهم منذ عقود، وتحققوا من قدرتهم على إطاحة السجان وتنشق الهواء النظيف، مرة أخرى.
صاحت العجوز: إفتحوا الأبواب والشبابيك لنور الشمس،
وارتفع صوت الكهل متهدجاً: الحمدلله، لقد تخلصنا من »سوهارتو«!
ما الذي ذكّرهم، في القرية المنسية، بطاغية أندونيسيا؟!
قالت الصبية وهي تندفع الى وسط الحلبة: لا يذهب بالحزن الا الرقص.. فلنرقص جميعا!
قال حزبي سابق كثيف الشاربين: الديمقراطية هي التي انتصرت،
ردت صبية ثانية: نحن من صنع الديمقراطية، لا تصنع الديمقراطية بشراً. ولأننا أنجزنا فلسوف نرقص،
في الخارج، وبامتداد الشارع الرئيسي كان الناس قد حسموا الجدل فباشروا الرقص الديمقراطي او الديمقراطية الراقصة،
ارتفع صوت فتي بهتاف منغم،
اعتبره الحشد لازمة فأخذ يردده،
انبرى شاعر شعبي لكي يضيف الى الهتاف مقطعاً جديداً يلائم القافية.. ثم توالت الاضافات فصار الهتاف أغنية لها سياقها ونغمها المميز،
رفع ذو الصوت الجهوري صوته بالدعوة الى مسيرة تُسمع »الظالم« صوت الناس… لكن المدعوين كانوا قد سبقوا الداعي، فهمّ بالالتحاق بهم لكن ارتفاع دوي الطبل جمده في مكانه: الدبكة أحلى!
دافئ هو حضن الديمقراطية، ومطرز الحواشي بالنور الحسي يسكبه بدر بقاعي يغادر الاكتمال مكتئباً.
لا تختص الديمقراطية بالمدن ذات العمارات العالية او التي تشكل القصور الملكية ملامحها،
لا تقيم الديمقراطية في قلب الشهادات الجامعية، ولا هي تحتاج الى مدرسين يعلمونها في المدارس.
الديمقراطية حق، إن أنت مارسته ترسخت تقاليده وأينعت ثماره، وإن أنت امتنعت او منعت من ممارسته نسيته او صار في موضع الأمنية.
الديمقراطية ان تؤكد وجودك من خلال الآخرين وبهم، تعترف بهم سواء أكانوا متفقين بالرأي معك أم لهم رؤية اخرى ورأي مختلف.
الديمقراطية هي الجمع لا المفرد، أن تكون من خلال المجموع وليس في وجه الجميع، وإلا صرت أقلية ووجب عليك أن تخضع للاكثرية… والخضوع لا يلغيك، لكنه يضطرك لأن تعمل أكثر، وتفهم محيطك أكثر، وتحب الناس فيه أكثر وتسعى لإقناعهم، والأهم: تحترم إرادتهم حتى حين يخالفونك الرأي.
الديمقراطية هي إرادة الناس، صوت الناس.
حتى اذا اخطأ الناس التقدير، او استكانوا، او تهيبوا تسلط المتسلط، فلا يمكن التخلي عنهم والتفرد بالرأي بحجة أنك المصيب وهم المخطئون. إنك بذلك تتسبب في خسارة فادحة لدعواك وللديمقراطية.
وفي الديمقراطية، كما في أي دعوة او محاولة للاصلاح: لا يجوز أن تسبق الناس كثيراً فيعز عليهم سماع صوتك، ويرون فيك نموذجاً جديداً للتسلط من خلال التفرد، ولا يجوز أن تتأخر عنهم فلا تبقى بهم حاجة إليك، بل يكون عليك الانضواء في صفوفهم، راضياً بموقعك منهم…
تستطيع ان تنصر الديمقراطية حتى لو لم تكن في الصف الأول،
تفجر الليل بالفرح فأضاء جنباته؛
سرى الغناء عبر السهل فامتد بامتداده ناقلا عدوى الفرح الى الجوار، وتعرش الجبال فترددت أصداؤه في النواحي البعيدة،
قال راعي الماعز: اليوم بدأت حياتي، كان عمري الأول عبثاً،
وقال المدرس في القرية البعيدة: اليوم تعلَّمت ما كان يجب أن أعلّمه لتلامذتي،
وقال الرجل ذو اللحية المشذبة: أوصى الله الناس بأن يشاور بعضهم بعضا وألا يتفرد أحد برأيه فيحاول فرضه عليهم،
وقالت الأرملة التي هجرت الابتسام منذ وفاة زوجها: لقد عاد حبيبي، لطالما اشتهى أن يعيش هذه اللحظة،
ثم انطلقت تغني لحبيبها الذي استحضرته الآن في وجوه كل من يشاركها فرحة الفوز بإنهاء الوضع المغلوط،
ليس الفرح احتكاراً، وليس له صاحب. الكل شركاء في الثمرة الناضجة لممارسة بدائية للديمقراطية، ولكنها مفعمة بالحب.
كان الغضب المترسب في الصدور هو السيد لا الكراهية،
وكان الزهو بإنهاء الوضع الشاذ نوعاً من استعادة الاعتبار: نحن هنا، نحن قادرون، ولا نحتاج إلا لأن نجتمع ولأن تتلاقى سواعدنا على إنجاز المهمة.
مع الجماعة يسهل الصعب.
مع الجماعة يختفي المستحيل.
مع الجماعة يزهر الفرح في عيون الفقراء، ويسعدون باكتشافهم قدراتهم.
ليس أقوى من جماعة تعرف ماذا تريد، وتتبين بوعيها الطريق إليها، وتمشي متحدة نحو هدفها.
الفقراء أكثر إيمانا بالديمقراطية لأنها طريقهم الى تحقيق ذواتهم، والى الإنجاز الحلم: الخبز مع الكرامة.
البسطاء هم صناع الفرح، أما الأغنياء فيشترونه بالثمن،
ولكن من يستطيع شراء صهيل المهر؟!
من يستطيع شراء نور القمر وهو ينعكس على وجوه الصبايا فيزهر الحب في أربع رياح الأرض؟!
من يستطيع أن يحمي »سوهارتو« من عيون الفقراء؟!
ومباركة هي الديمقراطية التي تحول الآحاد الضعفاء الى مجموع قادر، والتي تجعلهم متى التقوا في أفيائها قادرين على صنع الغد الأفضل؟
مرشحة بين زوجين..
طافت المرشحة للانتخابات البلدية الأحياء الفقيرة في المدينة: أشاحت بوجهها عن كوم النفايات، وحاولت تجنب الحفر في الطريق، واجتهدت في أن تمتنع عن تنشق الهواء من دون أن تسد أنفها بأصابعها،
استقبلها أهل البيت بترحيب حذر،
كان الرجل شديد الحماسة، مع أنه لم يغفل عن ملاحظة سمات الانزعاج على وجه زوجته.
قالت المرشحة: أنا منكم ولكم، وأطلب مساعدتكم،
قالت الزوجة: ولكن الرجال ينوؤن بحمل العبء الثقيل ويعجزون عن المساعدة، فهل تقدرين أنتِ؟!
قال الزوج: أنتِ تقتحمين الصعب، برافو!
زجرته الزوجة: لماذا لا تقتحمه أنت؟! أما نحن النساء فلنا البيوت والأطفال والاهتمام بإراحتكم!
قالت المرشحة: لسنا أقل كفاءة منهم!
ردت الزوجة متبرمة: لكلٍّ ما خلق له،
قال الزوج: كلنا أبناء آدم وحواء، كلنا أبناء تسعة،
قالت المرشحة: إن ساعدتني أخواتي سنثبت أننا أنجح من رجالنا. اننا أكثر اهتماماً، أكثر دقة، أكثر متابعة، ثم اننا أكثر تحسساً بمسائل الصحة والبيئة. اننا نهتم بالزهرة، بالشجرة، بنظافة المياه، بالنفايات، لأننا أمهات.
تساءلت الزوجة: أعرف أنك عزباء فلماذا تتحدثين باسم الأمهات؟!
أحنت المرشحة رأسها وهي تهمس: ألا تسمحين لي أيضاً بأن أتزوج غداً؟!
حسم الزوج النقاش: لكِ صوتي!
قاطعته الزوجة: أما أنا فلن أنتخب. لا أجد من يستحق صوتي. كلهم سواء.
قالت المرشحة: لا أستحق أن أسقط لأن النساء رفضنني ولا أحب أن أنجح بأصوات الرجال!
قالت الزوجة متلعثمة: أكملي جولتكِ يا أخت، ودعينا نتناقش، ولن يكون إلا الخير،
عند الباب ضغط الزوج على يد المرشحة بشيء من التعاطف، في حين كانت الزوجة تغمز لها أن »التنظيم السري« للنساء أقوى مما تظن!
لا تأتين كلك ولا أبلغك تماماً..
تنثرين بيدر الكلام حنطة وورداً، فتترامى عليه الحساسين لتتعلم الغناء: من أين لكِ كل هذه القدرة على اختزال كل ما هو جميل في امرأة واحدة؟!
نلتقي في قلب الفضاء، لا تأخذك مني الريح ولا هي تأخذني إليك، نجتمع في الصوت وفي الصمت وفي الصدى الممتد بينهما منذ البارحة، منذ السنة الفائتة، منذ بداية العمر، منذ أول الخلق،
إن أنا نسيتك لحظة أحسست بالدنيا فراغا خانقاً، فإذا ما عدتِ فاقتعدتِ طرفة العين ازدحمت بالجمال فطفقت أوزع منه فلا ينقص ولا أنا أكتفي،
تمتلئ بك النسمة ويفيض بك وجه القمر عند اكتماله، ويظل بعضك بعيداً لا تصله يدي ولا يغادر خاطري،
لا تأتين كلكِ، ولا أبلغك تماماً،
نلتقي على الحافة بين العمرين، بين الخطأ والصح، بين المتعة والألم، بين التشهي والحرمان يجرفنا إلى خارجنا،
أطفئ النور فتلمع عيناك في الظلمة وأخافهما فيمتد طيفك يغلق جفني على صورتك ويهدهدني حتى أصحو فأجدكِ نائمة بين الجفنين،
أشعل النور فإذا أنت ظلي، وألحق بك داخل الظل حتى أصير ظلك، ثم يتماهى الظلان فلا أعرفك مني ولا تعرفينني منك ويبتهج الناس من حولنا وهم يشهدون اكتمال الصورة التي يتشهون لو كانوها.
تسكنين الحفيف والهمس ورذاذ المطر،
تخرجين إليّ من قلب الظن فتصطنعين التمني وتفسحين لي لأسكنه معك، وحين يصدمني الجدار يتأوه ألماً وأنطلق أغني إسمكِ فيكتسب صوتي جمالاً لم يكن له، ويجتمع الناس من حولي وكأنني بيت الطرب.
كيف تغزلين نفسك أغنية؟!
كيف تخرجين مني إليّ، وكيف تسبقينني إلى الناس فيسألونني عنكِ قبل أن يطمئنوا إلى وجودي؟!
يا صدى الناي في الوادي العميق، متى يبدأ عزفنا المنفرد مجتمعاً فيك؟
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا يحتاج الحب إلى التفرغ. غالباً ما يكون الأكثر إنتاجاً هو الأعظم حبا. إن الحب يحثه على العطاء، وللجميع بغير تفريق. والعمل يقربه من الناس، ويزيد من مكانته في عيونهم ويزيد رصيده من الحب فيسعد به حبيبه.
ليس صحيحا أن الحب أنانية.
ان حبيبي يعطيني كل لحظة أكثر، وكلما رأى صورتي في عيون الناس زادني عشقاً فزدت له حبا. كثيرا ما تحب نفسك وحبيبك في الآخرين!
طلال سلمان