مدخل إلى حديث التائهين بين أقنعتهم..
تزدحم داخل الإنسان العربي مجموعة من الشخصيات المتناقضة الى حد الاحتراب، وتجبره ظروف تخلف مجتمعه على التنكّر في أكثر من ثوب، وتغيير »وجهه« بحسب موقعه.
إنه »علماني« في الداخل، »متديّن« في الخارج، وأحيانا يكون العكس..
وهو »تقدمي« في مواقفه السياسية، »رجعي« في مواقفه الاجتماعية، أي في البيت والعمل وفي علاقاته الأسرية،
إنه مع »تحرر المرأة« حين يتصل الأمر بالنساء الأخريات، وقد يصل إلى حد التهوين من شأن أمر منكر كتعدد الأزواج، أو تبرير الخيانة الزوجية عندما يكون هو المستفيد منها، ولكنه حين يتصل الأمر بزوجته أو بشقيقاته أو ببناته أو بقريباته عموماً فإنه يرتد إلى »محافظ« تفوح رائحة العفن من مقولاته حول العفة!
في نقاش مع بعض الشباب في الخليج العربي سمعت ما يتجاوز تقديري لبؤس حالتنا،
قال لي واحد منهم بلهجة الشارح وليس بنبرة المعترض:
إنني أتمزق يوميا بين ثلاثة أو أربعة وجوه ألبسها بالتناوب بين بداية الصباح وآخر الليل!
إنني أعيش وعلى وجهي قناع، دائما، فأكاد أنكر نفسي… فأنا في الجامعة، مثلا، أتوق إلى الاختلاط وأتمسك به وأظهر استعدادا للنضال من أجل تثبيته قاعدة حياة، أما حين أجلس في وسط »شُيَّاب الأسرة« فإنني أجد نفسي محرجا، بل عاجزا عن مواجهتهم، مع علمي بأن معظم هؤلاء »الشُيَّاب« من الفاسقين، وأن واحدهم أمضى أكثر من نصف عمره يطارد النساء، كل أنواع النساء، الشقراوات والسمراوات، الصبايا والعجائز، الشريفات والمومسات، السيدات المحصنات والخادمات القبيحات والبائسات.
.. إذا التقيت أصدقائي، حجزت زوجتي (أو شقيقتي، أو ابنتي) في »الداخل« حتى لا تَرى ولا تُرى ولا يلمح أحد منهم ذيل ردائها،
أما إذا كنا في مكان عام فإنني أسابق أصدقائي على التحرش بالفتيات، أو على الأقل أحاول إظهار مواهبي جميعاً، الجسدية منها والعلمية والثقافية، إضافة الى النخوة والكرم والشهامة المفتعلة للفت النظر فحسب،
إنني في الجامعة خلف قناع غير القناع الذي ألبسه في الفندق أو في المطعم، وفي البيت ثمة قناع ثالث ينتظر وجهي ليستحضرني بإخفائه، أو إخفاء الأصل منه.
أحيانا أضيع عن ذاتي: مَن أنا بالضبط؟!
وكثيراً ما أضيق بانغماسي في هذا النفاق المدمر لشخصيتي، إذ هو يذهب بالكثير من صدقيتي، بل من احترامي لنفسي..
إنني ضائع وسط جيل ضائع، بل وسط مجتمع ضائع عن ذاته، لا هو يحترم ماضيه بما يكفي، ولا يستطيع أن يعيش يومه براحة، ويكاد يضل الطريق إلى مستقبله،
لا يمكن أن يكون مستقبلي هو ذاته مستقبل الأوروبي أو الأميركي، والنسخ عن هذا أو ذاك لا يحل مشكلتي بل أنه يعقدها ويجعلها مستحيلة الحل.
إننا نعيش أسرى »الفروج«.
يستعبدنا هاجس الجنس فيأخذنا إلى تزييف حياتنا لعلنا نرتوي ولا نرتوي،
إننا عبيد »الفروج«، فروجنا وفروجهن: نريد لفروجنا أن تسود وأن تكتسح »فروجهن« فإذا اتصل الأمر بنسائنا كدنا ننكر فروجنا لنعصم فروجهن،
إننا عبيدها وضحاياها،
وهي تمدنا بالأقنعة، ومن أجلها نقمع ذواتنا.. أفكارنا، تطلعاتنا، رغبتنا في حياة أفضل؟
حياة أفضل؟
وهل تسمي هذه الأيام القاتمة المحاصر أنت فيها بين الفرج والقناع حياة؟!
إنك مزوَّر مزوِّر،
فكيف لك أن تعرف نفسك أو تعرف الآخرين؟!
هواجس أنيس مسلم .. خارج النغاشة!
اقتحمت الحرب الأهلية قصص أنيس مسلم فصنعت »هواجس« كادت تفسد النشأة الأولى في ظل البراءة والجو الريفي المفعم بالطيبة.
ولقد أخذت الهواجس الحربية قصص أنيس مسلم بعيدا عن توصيف سعيد عقل في مقدمته، من أن الأقصوصة هي »الفن المستكفي«، وعن القاعدة التي وضعها صارمة: »من اللزام على القصص أن يجيء وكأنه بعض من لعب، واللعب له اسم آخر هو النغاشة«.
فليست الحرب لعباً، ولا الكتابة عنها تستطيع أن تعتمد لغة فيها أي قدر من »النغاشة«..
والمسافة طويلة جداً بين قصص أيام الطفولة الممتعة بتفاصيلها الطريفةوالتي تقدم وصفا جذابا للبيت الريفي في شؤونه الصغيرة، وبين القصص التي تناول فيها أنيس مسلم »حصار زحلة« كواحد من الذين كانوا فيها ومرشحين لأن يصيروا ضحايا.
ربما لهذا لم يكن في هذه القصص محايداً، ولعله لا يستطيع.
هنا مقطعان من قصتين خارج البراءة، وخارج النغاشة، وإن بقيا داخل اللعب الذي أعطى اسمه للمجموعة، »هواجس«:
»جلس قبالة المصلوب متعباً ومرهقاً مثله.
»يحمل معه الليل وأحلامه المخيفة، وأصوات رصاصه الغزير وأصداء قنابله وتضرعات الذين كانوا معه في الملجأ وابتهالاتهم وصلواتهم..
»الله نظم الجسد لئلا يقع فيه شقاق،
»الزحليون يشبهون في وضعهم القائم جسد المسيح«.
أما المقطع الثاني فعن الذين في الخارج:
»الذين يحاصرون المدينة اليوم ويمطرونها رصاصا ونارا وحقدا ورعبا، هم أحفاد الذين كانوا، أيام زمان، يتوافدون أفرادا وزمرا إلى ربوعها… هم أحفاد الذين عملوا مع المزارعين والكرامين وتعبوا وعرقوا.
»إنهم عن غير قصد يقتلون الأيام الحلوة.. يقتلون الفرح«
* * *
قاتل الله الحرب. لقد دخلت مجالات التنفس كافة، فكادت تفسد كل شيء.
وقد لا يلام هذا الاعلامي البارز والأكاديمي، فلم تترك الحرب أحداً خارجها ولا هي بقيت خارج أي شيء.. وبين ما خسرناه نحن البقاعيين فيها ومنها أو بسببها »خميس الجسد« الذي كان يوماً مشهوداً ينتظره الناس من عام إلى عام.
فياغرا العرب!
إلى طاولة واحدة في مطعم المسبح الذي يغطس نصفه في البحر ويعوم نصفه الثاني فوق الشاطئ المردوم، تجمعن: سبع من »النساء الصغيرات« التي لا تعترف أي منهن بأنها قد بلغت من عمرها الأربعين، ربما لأن المواسم صيف والتنزيلات تصل إلى خمسين في المائة.
أما الصبايا فكن قد اتخذن هيئة السابحات، في البحر أو في أشعة الشمس، فارتدين المايوهات المتنافسة قصراً أو ضآلة أو تهافتاً في أحجامها، واخترن أن يتمخترن أمام الطاعمين الذين يفضلون اللحم نيئاً لا تستره إلا ثلاث أوراق تين، فإن كان لا بد من شيّه فبأشعة الشمس وحدها.
بدأت النساء التشهير بالصبايا العابرات العارضات اللواتي يجئن من أقصى مدى النظر ذاهبات إلى الأقصى الثاني لمدى النظر، بلا هدف غير استدراج العيون إلى أقصى مدى النظر:
أنظري إلى بطنها المكوّر! حرام عليها شبابها! بكّير على الكرش!
علام شموخها هذه الممصوصة، كل الناس يعرفون أنه قد هجرها بعدما اعتصرها كليمونة! لعلها تبحث عن صيد جديد!
وهذه؟! من أين لها هذا الصدر الناهد؟ ومن أين لها هاتان الشفتان المكتنزتان!! كله مصنَّع ومستحدث!
فجأة انصرفن عن متابعة العابرات وغرقن في همس حميم..
روت الكبرى التي علمتهن السحر آخر نكتة عن الفياغرا… وتوالت بعدها النكات مغرقة في الإباحية، بحيث استعادت الوجوه المتغضنة حمرة أيام الصبا… وبعد قليل من الوقت تحول الضحك الى قهقهة، وتحول الهمس إلى تعبيرات صريحة مصاحبة بإشارات إيضاحية ماجنة.
التفتت كبراهن إلى جارتها: هل جعلته يجرب؟!
ردت الثانية بشيء من الحنق: لقد رفض! الأستاذ مكابر! يدعي أنه لا يحتاج إلى منشطات! على أنني لم أيأس وأفكر بطريقة لاغرائه بالمحاولة.
قالت الثالثة متباهية: أما أنا فقد نجحت، ونجحت التجربة، ونحن اليوم مثل عريسين في شهر العسل. لقد كدت أنكره! بل كاد ينكر نفسه.
قالت رابعة وهي تغمز بعينيها: أما أنا فأقنعت زوجي بأن الفياغرا قاتلة فاقتنع، ولم ينقص علي شيء!
ترافقت الخيانة في العيون، وقالت أقربهن إليها: دامت عليك هذه النعمة! الدواء الجديد يعطي ويأخذ، أما العلاج الطبيعي ففائدة بلا ضرر!
عبرت صبية ممشوقة القد ناهد الصدر، فهمس واحد من طاولة الرجال: خسئت الفياغرا!
تقاربت الرؤوس، وخفت الهمس إلى ما يشبه الحفيف، فتعذر على رجال الطاولة المجاورة أن يسمعوا، وإن كانوا قد انخرطوا في تبادل النكات الذكورية عن الفياغرا التي ادعى الجميع أنهم لم يجربوها، مع أن نكاتهم كانت تحمل طعم المرارة الشخصية أو الفرح الشخصي أو مزيجاً من النبرتين!
فياغرا، فياغرا، فياغرا.
كل العالم مشغول بالفياغرا، لكن العرب متفرغون الآن (ومع جمود عملية السلام وانطفاء مناورة نتنياهو حول القرار 425) لحديث الفياغرا.
الحكّام قبل المواطنين، خصوصاً وأنهم جميعاً من العجائز الذين يحتاجون إلى الكثير من دعوات »حفظه الله« أو »أطال الله عمركم«، وأمناء سر الحكّام، والذين يزوِّدون هؤلاء بالسر لكي ينقلوه إلى الحكّام!
حتى رجال الدين تراجعوا أمام هذا المجدّد السحري للشباب وأضفوا عليه الشرعية، خصوصاً وأنهم خبراء في تجديد شبابهم، ثم أنهم يفضلونها صغيرة، والصغيرة تتطلب مجهوداً إضافياً، والمجهود الإضافي يحتاج المقويات، والضرورات تبيح المحظورات.
العالم مهتم بالفياغرا، أما العالم العربي فغائب عن الوعي، بعضه لأنه تناولها والبعض الآخر لأنه لا يملك أن يتناولها بانتظام!
عند العرب، حكامهم والوجهاء، باتت الفياغرا هدية تفضح هاديها والمهداة إليه. إنها رشوة حديثة للمرضي عنهم… غفر الله لمبتدعها والمحتاجين!
قصص مبتورة
} قالت محنقة: لماذا لا تعاتبني؟ من يستوي عنده الغياب والحضور لا يعرف كيف يحب؟!
قال بهدوء مفتعل: الغائب حاضر إلا حينما يصر على احتلال كامل المساحة من يشترط إلغاء كل الآخرين بحضوره يغيب معهم. لو أنك تحبين لرحبت بالجميع وظل حبك لك وحدك، بل لغدا أروع.. من يشترط لحضوره غياب كل الناس لا يحضر أبدا،
} يستوعبني صمتك بكليتي، فأفتقد حاسة السمع.
قاسية هي الحياة بين صمتين!
إنه ضجيج يصم الأفئدة قبل الآذان!
} قال لصاحبه: أحار كيف يعرف الرجال نساءهن بعد أن يخلعن عنهن أثقال »قطع الغيار« التي تزورهن!
قال صاحبه: لذا لا ترى رجلاً واحداً ينظر الى امرأته في السهرات. كل رجل يبحث بين الأخريات عن »امرأة«.
أنظر الى جارك هذا، إن عينيه تتحركان كشفرة حادة تكشط عن النساء مستحضرات التنكر، حتى إذا عثر على امرأة طبيعية لم يلتفت إلى غيرها، في انتظار أن تغلق له زوجته عينيه فيهرب إلى الشرب حتى لا يرى إلا »من« يريد أن يراه!
} قالت له: للبعض قدرة هائلة على تضمين الكلمات كل ما في نفسه،
لكن قلة من الناس تعرف »القراءة«،
لذا أفكر بافتتاح مدرسة لمحو أمية الكبار..
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
كثير بيننا من يحمِّل الحب مسؤولية فشله في الحياة!
يقول: إن الحب قد شغلني عن نفسي فضيّعني! هذا ليس صحيحاً، فقد تبنى الحياة بالحب، لكن الحب وحده لا يبني الحياة. إنه يعطيها معناها، لكنه لا يحوّلها إلى كنز مخبوء مربوط بمصباح علاء الدين، ولا يجعلها بئر نفط لا أحد يعرف مقره إلا أنت!