ثلاثي السفارة المصرية والصحافة اللبنانية في الزمن الشهابي
قرر سليم اللوزي تحويل الذكرى الرابعة لإصدار «الحوادث» إلى عيد للفرح يجمع إلى أسرتها عدداً من الأصدقاء صحبة عدد من الفنانين، مطربات ومطربين وملحنين تاركاً مساحة الرقص للهواة من صديقات الأسرة او أصدقائها!
ذهب الفتى بصحبة الكبار: «البيك» وشفيق الحوت ونبيل خوري الذي امتلأ شارع حمد في الطريق الجديدة لصوته ونحن بعد على باب منزل «معلمنا».
دوى التصفيق حين وصلت المطربة نجاح سلام بصحبة زوجها المطرب الممثل المخرج المنتج السينمائي المفلس على غنى والغني على إفلاس محمد سلمان، وبعدهما وصل الملحن الذي لمع بألحانه للأغاني الوطنية أبان العدوان الثلاثي على مصر، ثم بألحانه لأغاني الوحدة وقد شدا بها الثنائي نجاح وسلمان.
دارت الأحاديث حول الصحافة في لبنان، وحول دور «الحوادث» ونجاحها الاستثنائي خلال فترة زمنية قياسية، واستعيدت بعض الوقائع الطريفة في الأيام الأولى للصدور، وبينها ان سليم اللوزي كتب يرد على معجبة بوسامة كميل شمعون بالقول إن جمال عبد الناصر أطول قامة وأقوى بنية وان سمرته جذابة ليخلص إلى انه «فحل». وقد تلقى اللوزي ردوداً جاوزت النقد إلى الشتيمة ومن المعسكرين المتصارعين على الولاء للرئيسين خارج السياسة بينما المنطقة مهددة في مصيرها… ورد اللوزي فشهر بإباحية نبيل خوري في كتاباته، وشفيق الحوت في مشافهاته، وأحمد شومان في منادماته، وصولاً إلى الفتى في تمنياته!
صرخ محمد سلمان: اسكتوا كي نغني!
وسكت الجميع، فأمسك بالعود وأخذ يعزف ويؤدي بعض الطقاطيق تمهيداً لان تباشر «الست نجاح» وصلتها الأولى، وهي قد غنت فأطربت، واستعيدت فأعادت حتى سرت النشوة في الجمهور المزدحم في الصالة المزينة بلوحات فنية جاء بها سليم اللوزي من مصر. وقد أصابت بعضها شظايا الرصاص الذي طاول المنزل خلال تظاهرة «أرض جلول» التي وضعت النهاية لعصر كميل شمعون.
رقصت كبرى بنات سليم اللوزي وسط مجموعة من صديقاتها ثم نزلت إلى الحلبة راقصة محترفة ولكن في السهرات الخاصة، ورافقها غناء محمد سلمان من غير ان ينسى ان يميل على «نجاحه» معانقاً لإطفاء الغيرة، ثم ظهرت مواهب عديدة داخل أسرة التحرير ومن خارجها.
وصل وديع الصافي فحياه الجميع وتقدم منه محمد سلمان بالعود، وساد الصمت، فقطعه سليم اللوزي بتحية للفنانين عموماً ولوديع “الصافي بوده كما بفنه»… وغطت «الأوف» على الكلام، ثم غنى وديع إضافة إلى أغنياته مقاطع من أغان لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم، قبل ان يلتفت إلى نجاح سلام ليقول: تفضلي أنت تغنيها أفضل مني وسأرافقك.
كان الفتى يحاول إثبات وجوده، ولمحه شفيق الحوت وهو يترك كرسيه لضيف جاء متأخراً فاقترب منه وهمس له بحدة: أنت هنا ضيف مثله ولست مضطراً لمجاملة أحد.
اقترب منه نبيل خوري وقد جاءه بكأس: خذ، اشرب حتى تصير أنت صاحب «الحوادث». واشرب بهدوء، وعلى مهل. هذه الكأس للسهرة كلها!
صرخ محمد سلمان: هل هناك عشاء أم لا؟!
قال منح الصلح في طريق العودة: لقد فرضت «الحوادث» نفسها المجلة السياسية الأولى. المجلات الأخرى يصدرها هواة.
قال الفتى: ان مقالاتك عن «الانعزالية الجديدة» تؤسس لفكر سياسي متقدم يحتاج إليه اللبنانيون للخروج من دوامة خوفهم من العروبة.
قال شفيق الحوت: الانعزالية في كل مكان.. في مصر ثمة انعزالية، في المغرب، في العراق، في دول النفط خاصة، وحتى في فلسطين هناك انعزالية تنادي بالهرب من عبد الناصر ومشروعه التحرري ودعوة العرب إلى ترك القضية لأهلها! وهؤلاء خونة يجب ان نواجههم ونفضحهم بلا رحمة، حتى لو كانوا من ذوي أرحامنا!
[ [ [
÷ ÷ كان الفتى يسمع اسم «عبد الحميد غالب» يتردد كثيراً خلال المداولات حول الوضع السياسي، اما عند الحديث عن الصحافة والمواقف السياسية التي تعبر عنها فكان الكل يستذكر اسم أنور الجمل بقدر من الاحترام ليفيض على مقام الملحق الصحافي في السفارة المصرية.
ولسوف يتبين للفتى لاحقاً، ومن خلال متابعة تفاصيل الحركة السياسية، كما من خلال اللقاءات مع بعض «القيادات» ممن كلف بمحاورتهم ان عبد الحميد غالب يكاد يكون المرجعية السياسية الأولى، محلياً، يعاونه او يكمل دوره في المجال الإعلامي أنور الجمل.
أما «الرجل الثالث» الذي ستكشف الأحداث لاحقاً، وبعد سنوات، انه كان الأهم والأخطر فهو المستشار محمد نسيم، خصوصاً انه كان يركز اهتمامه على القضية الفلسطينية، وقد نجح ـ كما قيل ـ في إنشاء شبكة ممتازة لتجميع المعلومات عن إسرائيل، وكانت له مصادره ذات الصدقية داخل الكيان الإسرائيلي، لا سيما ان عشرات من المناضلين الفلسطينيين كانوا يترددون عليه وينقلون إليه تقديراتهم حول الأوضاع في «الداخل»، الذي كان يعني «أرض 1948» فحسب، لإن الضفة الغربية كانت تعرف بالهوية الأردنية الهاشمية، والتي تلغي فلسطين فلا تذكرها مباشرة ولا تستحضرها.
[ [ [
÷ ÷ ÷ لطالما تحولت «الحوادث» إلى منتدى لمناقشة «قضايا الثورة العربية». وكان شفيق الحوت شديد الحماسة للاشتراكية العربية، وهو المتحدر من تجربة ماركسية تضفي عليها فلسطينيته أبعاداً ليست لها، وان ظلت تنغصه الإشارة إلى الشراكة السوفياتية ـ الأميركية في التصويت على قيام دولة إسرائيل، ومن ثم على التقسيم من دون اية ضمانة لدولة فلسطين العتيدة. وسمع الفتى من شفيق الحوت ما يؤكد قراءاته عن هذا الأمر.. قال شفيق:
ـ لم يكن مقدراً او مسموحاً لها ان تقوم لنا دولة او تعلن على أي جزء من أرض فلسطين وإلا كيف ستتحول إمارة شرق الأردن إلى مملكة بما يرضي الأمير عبد الله الأخ الأكبر للأمير فيصل الذي صيِّر ملكا على العراق، وبما يهيئ لتذويب فلسطين بين الكيانين المستحدثين واحدهما للإسرائيليين تحقيقاً لوعد بلفور لإقامة جسم غريب في قلب هذه المنطقة يفصل بين جناحيها مشرقاً ومغربا بحاجز من نار ودماء، والثاني للأمير الهاشمي الذي سيكون عليه ان يستوعب الفائض عن قدرة إسرائيل على الاستيعاب من أرض فلسطين، مع الحرص على محو كلمة فلسطين وتذويبها بالمملكة الأردنية الهاشمية؟!
ولقد سعى سليم اللوزي فدعي شفيق الحوت لزيارة مصر كرئيس لتحرير مجلة صديقة، وتقديرا لمقالاته عن الاشتراكية العربية التي بز فيها صديقه اللدود كلوفيس مقصود. على ان «الدكتور» كان يستطيع ان يقول دائما: انه زار مصر بدعوة من جمال عبد الناصر والتقاه قبل ان يلتقيه أي سياسي لبناني نتيجة رسالة وجهها إليه في منتصف الخمسينيات وآثر المباشرة في لمّ الشمل بين القادة الذين يرفضون ان يسترهن بلادهم هذا المعسكر او ذاك.
عاد شفيق من القاهرة وقد تعاظمت حماسته لجمال عبد الناصر ومشروعه الوحدوي مع اعتماد الاشتراكية طريقاً إلى العدالة الاجتماعية، وإلى إشراك الغالبية العظمى من ابناء مصر (والوطن العربي)، في القرار.
ولسوف تجمع «الهيئة العامة للاستعلامات» في القاهرة، تلك المقالات عن الاشتراكية العربية وتصدرها في كتاب، يجلس شفيق الحوت إلى مكتبه لتوقيع الاهداءات إلى «كل من شارك فيه، من موقع الحليف او من موقع الخصم».
ولن يكون سليم اللوزي سعيداً بهذا التكريم لشفيق الحوت، خصوصاً ان الهيئة العامة للاستعلامات لم تجمع له مقالاته في كتاب… اذن، هذا من فعل محمد نسيم وليس أنور الجمل، فشفيق الحوت فلسطيني، وهذا هو مدخل محمد نسيم إليه.
[ [ [
÷ ÷ ÷ ÷ عاش لبنان فترة من الهدوء في قلب التناقضات: فرئيسه اللواء فؤاد شهاب، أمير بنسبه العربي لكنه لا يتقن اللغة العربية، ثم انه معجب بجمال عبد الناصر لكنه يتهيب دولة الوحدة، او بالأحرى يخاف تجدد الانقسام في الشارع، برغم الترضية الباهظة الثمن التي قدمها للتيار الذي يوصف بالانعزال عبر «حكومة الأربعة» الشهيرة التي رأسها رشيد كرامي وضمت حسين العويني وريمون اده وبيار الجميل، في تجاهل مستفز للطوائف الأخرى، لا سيما ذات الثقل البشري منها.
كانت قاعدة التفاهم الشهابي ـ الناصري: السياسة الخارجية لكم اما الداخل فلي… وهي القاعدة التي جعلت من الكتائب حزب السلطة.
على ان الإعلام، صحفاً ومجلات وإذاعة، كان بكتلته العظمى اقرب إلى التعبير عن «عروبة رسمية» ما، هي المعتمدة في دولة الوحدة، وان كان المنظرون الأصليون للعروبة، وتحديدا قادة حزب البعث، كانوا قد بدأوا يفقدون حماستهم، ثم انقلبوا تدريجاً إلى «نقد» النظام الناصري الذي يخفي عن القائد الحقائق… وبديهي ان تتواصل الحملة مع تفاقم الخلاف السياسي داخل دست السلطة، فينتقل البعثيون إلى الهجوم المباشر والحاد على الرئيس جمال عبد الناصر، متلاقين ـ ولو مرحليا ـ مع تيارات واتجاهات سياسية ما كانوا ليقبلوا بمجرد التلاقي والحديث معها قبل حين.
وهكذا تحول مطعم فيصل ظهراً والدوتشي فيتا مساءً إلى ساحة صراع وجدل فكري بين البعثيين و«خصومهم» الجدد من القوميين العرب والناصريين… وكانت المفارقة ان من كانوا يسمون «انعزاليين» اخذوا يتحدثون بما يدعم وجهة نظر البعثيين وكأنهم رفاق على طريق “الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة».
زاد تردد القائد البعثي ميشال عفلق على بيروت، بل وكاد يتخذها دار إقامة. وأخذت تتردد أفكار وتجول في خواطر الرفاق القدامى مشاريع من تلك التي كانت تأخذ بأفكارهم وألبابهم قبل اعلان قيام دولة الوحدة… لكن كل ذلك ظل في نطاق الهمس وفي صيغة التساؤلات.
[ [ [
÷ ÷ ÷ ÷ ÷ كان سليم اللوزي من انصار نظرية «القول لصاحب القرار»، وهو طالما استمتع برواية طرفة جرت له مع الرئيس عبد الناصر، إذ سأله في احد اللقاءات معه: «ايه ده يا سليم، نقول اتحاد قومي تروح مطبل ومزمر وتقول الاتحاد القومي اللي مافيش احسن منه.. نقول اتحاد اشتراكي تروح قايل رأساً: الاتحاد الاشتراكي اعظم حل لمشاكل الأمة”.
وبحسب رواية سليم اللوزي فإنه قد رد على عبد الناصر بقوله: «أنا طبال ورا يا سيادة الرئيس، اسمعُ ما تقولون في مقدم الصفوف فأردده من الخلف، فإذا ما غيرتم العنوان غيرنا الهتاف ليتناسب معه».
ولقد ضحك عبد الناصر ثم قال له: ـ هناك من أمثال هؤلاء الكثير يا سليم، رأيي ان تهتم بكتاباتك أكثر، فمجلتك مهمة ولها تأثير ممتاز في الشباب. اهتم بشفيق الحوت، ومن معه يا سليم.
…ولقد كاد «الاهتمام» ينتهي بالطلاق بين سليم اللوزي وشفيق الحوت، ثم تقدم الفتى ليكون «الفدية»… وذلك حديث آخر.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ حبيبي يتسبب لي بمشكلة لا اعرف لها حلاً: كلما رأيت منظراً طبيعيا جميلاً وجدته فيه، وكلما سمعت أغنية منشية وجدت كلماتها تغزل صورته…
لكن ذلك كله يتهاوى مع حضوره، فالحب ان تلمسه وان تتنفسه وان تحترق بنار وجوده المنعش.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان