كباريهات السلاطين والدروشات الدينية تفيض فضائيات!
طلال سلمان
إزدحم الفضاء بالمباذل العربية.
ضاقت الأرض والبث الأرضي بالسلاطين فاشتروا ممالك وعروشاً فوق، مكملين بذلك حصارهم لمواطنيهم الذين يكادون لا يرون أو يسمعون غيرهم،
نيف وعشرون سلطاناً عربياً يتمخترون آناء الليل وأطراف النهار على امتداد الفضاء، تهرب من واحدهم فيعلقك الآخر، تُسكت صوت أولهم فيزعق بك الثاني، وفي كل الحالات يتصرفون وكأنهم »متوافقون فوق«: يعترف واحدهم بالآخر، يمرر له أخبار، وأحيانا صورته، ولو في آخر النشرة وبين المتفرقات.
على مدار الساعة، تتناوب المحطات الفضائية العربية في بث نشرات إخبارية ليس فيها خبر واحد: بداية ما يطمئن عن صحة السلطان وانتظام بريده (برقيا وبالرسائل) وإيمانه بالجماهير مقابل ولائها المطلق له، وتقديماته التي لا منة فيها مع أنها توفر لهم الصحة والرزق وتفتح أمامهم أبواب العلم… يعطيهم بغير حساب، ولكنه يذكرهم في كل لحظة بضمانة ما يتنازل لهم عنه، وما يتكلفه عليهم لجعلهم بشراً يستحقون نعمة قيادته.
بين عشرين محطة، او أكثر، تحتجز ثلاثين قناة فضائية او اكثر، بالكاد تجد ما تنتفع به او يزيدك علماً ومعرفة، او يوفر لك ما يمكن إدراجه في خانة الترفيه.
كل ما في الأمر ان التفاهة قد ارتفعت حتى بلغت عنان السماء.
المواطن هو المواطن فلماذا يأتيه من فوقه غير ما يأتيه من تحت؟!
أليس السلطان وبطانته من كبراء ووزراء وأعيان هم أعظم أهل الأرض طراً، أفكثير عليهم أن يرتفعوا رافعين معهم إسم بلادهم إلى أعلى عليين؟
أليس السلطان هو البلاد مختزلة بشخصه؟ بل أنه أرقى من بلاده وأجلّ، أهم وأبقى. هو هي وزيادة، لكنها ليست هو بل إنها ما كانت لتكون لولاه… فلا البلاد كانت قبله شيئا مذكوراً ولا هي ستكون بعده شيئا.
ثم أن السلطان هو الفكر والثقافة، الأدب والفن، إضافة بالطبع الى السياسة تكتيكاً واستراتيجية. هو بداية البدايات وهو نهاية النهايات. هو التذكرة لدخول العصر، وهو الهوية ومصدر الإنتماء.
لماذا البرامج الثقافية، ولماذا المناقشات او المساجلات او الحوار؟!
على ان للسلطان شريكا واحداً مقبولاً ومطلوبا هو: الدين.
ان السلطان هو الحاضر وهو المستقبل، والدين هو الماضي الممتد عبره وفيه الى آخر الزمان.
لا بأس إذن من بعض رجال الدين المحنطين يتصدرون الشاشات ليملأوا ساعات من البث (المكلف) بثرثرة فارغة، تتمم فصل الدين عن الحياة، فتقطع الحياة للسلطان وتغري الرعية بأن تنسى الأرض وما عليها فلا تطلب في حياتها غير الستر على ان تعوّض عنها غدا بجنة فيها كل ما اشتهته ولم تنله في دار العبور او دار الفناء.
صورة السلطان، وهذا النمط الأكثر تخلفاً من رجال الدين، والمزيد من البرامج الدينية التي تزين الخرافة فتحلها محل العلم، وتستعيد أحاديث منسوبة الى بعض الصحابة لا يقبلها عقل ولا يسلم بها منطق… وبين هذه وتلك بعض البرامج الترفيهية.
وما الترفيه؟!
بعض الغناء المقطوع الجذور عن أصل الغناء وقواعده، تافه في كلامه وفي لحنه وفي أدائه،
ثم بعض الرقص »المحتشم« الذي لا يدخل تحت أي تصنيف لا في فنون الرقص ولا في التمارين الرياضية ولا في الحركات السويدية التي قد يصفها الطبيب لبعض من يشكون ألما في الظهر او التهابا في المفاصل أو تزايد الغازات في الأمعاء.
محطات، محطات، محطات، ولكن لا متعة ولا فائدة ولا تسلية.
لا لغة، بل ركاكة مستفزة، وأخطاء إملائية وهجائية وبنيوية، فإذا ما استعين بالترجمة جاءت مهينة للعقل، تخدش العين وتشوه السياق وتعطل مخزون الذاكرة،
البرامج السياسية هي اعادة تظهير لصورة السلطان التي لما تختف عن الشاشة في الأخبار،
والمناقشات تستهلك من أعصاب المتابع ما هو بحاجة إليه في مواجهة همومه اليومية: ان كان موضوعها مقبولا جيء بمتحاورين محترفين مستعدين للكلام الخالي من أي مضمون وفي أي موضوع، اما اذا صودف ان اختير بعض اصحاب الرأي فإلى موضوع لا يهم أحدا او انه لا يدخل في نطاق اختصاصهم او ترك للمقدم ان يقمعهم قبل ان يكمل واحدهم فكرته،
عشرون نشرة إخبارية ولا خبر،
والمحطات التي في الخارج مفصولة تقريبا عن هموم الداخل: تقلد المحطات الاجنبية في »موضوعيتها« فإذا إسرائيل عنوان للديموقراطية يشغلها هم »السلام«، مقاومة احتلالها نوع من الإرهاب، بينما مستوطناتها عنوان لعدالتها وتعويضها عن ظلم الآخرين لليهود (في روسيا ومختلف دول أوروبا الشرقية، في بعض أفريقيا وبعض آسيا وصولا الى إيران)، واذا الولايات المتحدة الأميركية تحارب الطغيان في العراق ولا بأس إن مات أطفال العراق جوعا خلال هذه الحرب، تلك هي ضريبة الحرية، وتكافح »الحكم الفردي والإرهابي« في ليبيا ولا بأس إن حوصر الليبيون وحرموا من أبسط حقوقهم الانسانية، وإذا »الاحتواء المزدوج« لإيران سياسة مبررة أخلاقياً بينما تدين أهلها خروج على شرعة حقوق الإنسان.
تذهب بعض الفضائيات العربية في الخارج الى القادة الاسرائيليين، متطرفين وأكثر تطرفاً، فتحاورهم، من موقع »التابع« او »المستسلم«، ومعهم فقط تؤكد »موضوعيتها« وإيمانها بالديموقراطية وبحرية التعبير،
محطات مقموعة وبلا ألسنة في أقطار منشئيها، ولكنها هائلة الفصاحة في كل ما يخص »الأعداء« السابقين لبلادها وأهلها.
الديموقراطية للخارج عموماً، وللعدو خصوصاً، أما أخبار البلاد فتحمل صورة السلطان وخاتمه: هناك تشيد بالحريات وهنا تبرر القمع والخرس وإسكات كل الأصوات وانعدام الحوار.
لا خيار للمواطن: مطامحه هناك، لا يحققها إلا العدو، ولا يوصله إليها إلا مصالحته والانضواء تحت لوائه.
ليس له في وطنه شيء، وليس له من موطنه شيء. كل ما يطلبه ويريده ويطمح إليه في يد العدو. عليه ان يستسلم للعدو تماما، عليه ان يتماهى به ومعه، عليه ان يلغي نفسه بالكلية، بكل مكنوناتها، ليصير قريبا منه، فهناك حقوقه (الشخصية) وحرياته (العامة) ومفاتيح الباب الذي سيدخل منه إلى العصر.
ان محطات الخارج تكمل محطات الداخل: لا شيء عندك يستحق ان تحافظ عليه. بل أنك أنت لا شيء. أنت معدة ولا مخ، غريزة ولا عقل. ان أردت أن تحيا كوهم فكل واشرب وتناسل وافرح بالرقص والمسلسلات المكسيكية وبرامج الحظ والربح الحلال، ثم نم هنيئاً، واترك الأمر لأولي الأمر… أما إن قررت أن تكون فإنك ستلغى على الفور.
* * *
قبل أيام أنزلت البرامج السياسية للمحطات الفضائية اللبنانية عن الفضاء.
لم تكن تلك البرامج، بمجملها، ثورية أو تحريضية. لم تكن تحمل راية الدعوة إلى الاشتراكية او الشيوعية، لا سمح الله، او تغيير النظام.
لم يكن فيها تجديف او تحريض بالخروج على الإيمان،
بل ولم تكن بمجملها في مستوى سوي: كان فيها الرديء والمبتذل أحيانا، والعادي جدا، او المقبول كحوار او كعرض لوجهات نظر،
وكانت توفر قدرا من المعادلة مع برامج الكباريهات التي تقدم تحت عنوان الترفيه، او المسلسلات المستوردة الهابطة مبنى ومعنى،
كانت تقدم »شيئا« من لبنان المتميز بتعدد اتجاهاته وتياراته الفكرية والسياسية، أخطر ما فيه ان الحاكم يبدو بشرا كسائر البشر، لا هو فوقهم ولا هو من جنس آخر ممتاز، ليس مقدساً ولا مفدى ولا يسخر الله لحمايته وحفظه،
كانت توفر فرصة ما لمناقشة ممارسات الحاكم، او المسؤول عموما.. وهي مناقشة كلامية، لا هي مؤهلة لرص صفوف الثوار من أجل قلب النظام، ولا هي ترتقي الى فتح آفاق لتغيير الواقع، او للارتقاء بالحاكم او المسؤول،
وكانت تكسر صورة لبنان الكباريه، سواء اتخذت علبة الليل شكل الخيمة الرمضانية او الغناء الهابط او البرامج الترفيهية الموجهة الى الغرائز والتي تضرب الذوق وتكسر الموازين فتختل قدرة المشاهد على تمييز الغث من السمين.
الفضاء، مثل الأرض، للتفاهة والابتذال.
أدوات العلم، والمبتكرات الجديدة، وثورة الاتصالات كل ذلك ليس في خدمة الإنسان، بل هو في خدمة السلطان، وليس من أجل استثارة العقل وحض الشباب وتمكينهم من إقتحام العصر، بل من اجل دغدغة الغرائز والاستكانة ورفع الدعاء بطول الحياة لصاحب الأمر.
ممنوع التفكير، فكيف بالتغيير،
ممنوع الاجتماع، فكيف بالتظاهر او بالتلاقي على أرض المطالب،
ممنوع العمل السياسي، فالسياسة امتياز لواحد احد لا شريك له،
ممنوعة الثقافة، لان الثقافة نور، ولان النور طريق إلى الغد،
ممنوع الفن الأصيل، لان الاصيل من الانسان يجيء والى الانسان يذهب، فيغنيه
لا بد ان يحطم كل ما ينفع الانسان في التقدم وبناء حياة أفضل: الفكر، العقل، الذوق، الايمان، الكفاءة، الموهبة إلخ.
وإن كان من تميز للبنان فليكن »كباريه العرب«، فنياً وثقافيا وسياسياً، وهذا هو الأهم.
كما على الأرض كذلك في الفضاء: التفاهة والسلطان، او السلطان والتفاهة، والصورة المشرقة للأعداء كبارهم والصغار.
وها الفضاء مفتوح أمامك فتجول فيه حيث تشاء فلن تجد فيه غير برنامج واحد بسلطان واحد مهما تعددت أسماؤه والألقاب.
ذكرى نسيان الذكرى..
فجأة تم اللقاء، وكان العمر قد عبر.
سلّم مرتبكا واستقبلته معاتبة، واحتمى كل منهما بشركاء السهرة حتى لا ينكأ أحدهما الجرح الغائر.
قالت تخاطبه عبر الجمع وبصيغة الجمع: والله زمان! اشتقنا!
تفاوتت الردود في حرارتها، وضاعت همهمته وسط الكلمات المطفأة والتي تقول ذاتها من دون الحاجة الى ألسنة.
كان متنبها، مشدود الأعصاب، ينتظر لحظة انقضاضها عليه، وحين مر الوقت عبر كلام المجاملات والحكايات البلا معنى وهذر السياسة البلا أخبار، ارتاح نسبيا، وان ظل يتوقع ان تباغته في لحظة ما، وانتبه الى أنها توجه إليه مزيدا من الأسئلة العامة كلما هدأ الحديث او انصرف المدعوون الى ثنائيات تضييع معنى اللقاء،
بينما تحضر المائدة، دار يتأمل اللوحات التي جمعتها من أقطار متعددة، وقد شارك في اختيار بعضها في البدايات… ما أبعد البدايات!
جاءه الصوت قاسيا من خلفه: أتتذكرها فتفكر فيها هنا، أم أنت معنا؟!
لم يلتفت. خشي أن تضبط صورتها في عينيه، او ان تفضح نبرته كذب كلماته. سمع نفسه يقول: لقد غدونا جميعا مثل هذه اللوحات. نوحي بالجمال ونذكر به، ولكنه خارجنا،
عادت تلحّ بسؤالها: أنا أم هي؟! يومذاك اخترتها وتركتني لوحدتي وخيبتي والغيرة. أما زلت تحملها في قلبك؟!
قال بلهجة محايدة: مضى زمن العتاب. ماذا يهم كيف يكون جوابي الآن؟! لا الصدق سيفيدك ولا الكذب سيضرك. كلنا يبكي زمانه وهواه.
قالت تصالحه وهو في بيتها: تعال إلى طعامي، إذن. لن أقول لك كل هذا هو جسدي، او اشرب فهذا هو دمي… مرت السنون على جسدي فسحقته، ونضب دمي فلم يعد يكفي شرابا. هيا أعلفك.
على الطاولة كانت المرارة هي الطبق الرئيسي، بل كل الأطباق. لم يلاحظ على وجوه المدعوين أثر للدهشة او الاستغراب. هل يعطي الكلمات مما في نفسه فتكتسب معنى آخر غير الذين تقصده؟!
شرد بأفكاره بعيدا: أإلى هذا الحد تكره المرأة المرأة؟ ألا تغفر؟! ألا تنسى؟! ألا يمر الزمان على القصص غير المكتملة فيلغيها أو يكملها بسيرة اخرى
قالت وهي ترفع كأسها: لنشرب كأس الذين ليسوا اليوم معنا..
قال »ضيف الشرف«: إنهم كثيرون، فلنشرب نخب الذين هنا،
سمع نفسه يقول: يشرب الإنسان لنفسه لا للآخرين.
قالت عجوز إلى جانبه: يشرب الناس لينسوا وأنتم تتذكرون لتشربوا!
جاء الصوت مرة أخرى من الماضي: لنشرب نخب باريس،
قال بسرعة: بل لنشرب أولا كأس الرباط،
ضبط نفسه يتساءل: لماذا الرباط؟! هل لطمس باريس؟! أم لمجرد المكايدة؟!
بعد الغداء، جاءته تقدم إليه القهوة، وقربت وجهها منه وهي تهمس: لم أنسَ واحداً ممن أحببت أو أحبوني، ولا أريدك أن تنساها، فقط أردتك ان تتذكرني.
لم يعلق. لم يجد ما يقوله او يتذكره. الذكرى لصاحب الذكرى ولغيره النسيان. ثم أنه قد نسي نفسه ولا مجال لأن يستعيد ما كان ومن كان وما سقط منه.
في طريق العودة حاول أن يستجمع ما تبقى من الذكرى، فأضاع بيته.
تهويمات
} قال لها: تقدمين إلي خدّك وتهربين بعينيك إليه. شكراً، لا أحب الفواكه المجففة…
قالت دون أن تنظر إليه: يأخذ الإنسان مثل ما يعطي. والشفاه الجافة تحرق الخد والعين… كلكم يريد المرأة مشاعاً فإن مانعته إتهمها في أنوثتها. ألا تستطيع إثبات رجولتك بطريقة أقرب إلى الرجولة؟!
} قالت: حرام عليك ان تختصرني بكلمة »كانت«.
قال بأسى: حسناً، سأصحح فأقول: كنا!
قالت: ألا تجاملني فتوقفني في المكان وتمضي وحدك مع الزمان؟ أذكرني كما رأيتني أول مرة. أغمض عينيك لتراني جيدا، ثم أخبرهم عني بصيغة الحاضر. مثل هذا الكذب حلال. من لم ينل الحب يطلب العزاء.
} سألته: تعطيني كلماتك وتمضي. خذ كلماتك واتركني لمن يجيء إليّ فيسمعني؟!
وحين لف كلماته في صرّة وهمّ بحملها اكتشف كم هي ثقيلة حين تكون فارغة وبلا عنوان تقصده.
} قالت: لا تظنن أنني سأقبل أن »تمنح طرف عينيك غيرنا«.. أريدك كلك، وبداية أريد في عينيك وحدي.. وأريد حسداً في عيون الأخريات… حسد الأخرى يكمل الحب ويجعله أشهى.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب ثرثار. حتى في الصمت لا تتوقف ثرثرة المحبين. أعرف صديقاً كنا نتهمه بأن لا لسان له، ومذ أحب لم يتوقف لحظة عن الكلام. يُنطق الحب صاحبه. يعيد الحب خلق صاحبه فيكمل النقص فيه. يتباهى المحب باكتماله، فهو يرى قلبه أكبر وعقله أكبر، وهو يحس أنه قادر على الإبداع في كل المجالات. الحب يقرب المحب من الخالق ويرفعه فوق المخلوق.