حوار الأحزان العراقية في ندوة »القبس« الكويتية…
تجربة مثيرة ان تشارك في ندوة تعقد في الكويت تحديدا، لمناقشة »الوضع الراهن في الخليج وآفاق المستقبل«، فكيف اذا كان الداعي الزميل الفارس محمد جاسم الصقر، واذا كانت الزميلة »القبس« هي المنظم والمضيف؟
قبل الشجاعة وبعدها فان طرح موضوعات من نوع »الوضع الراهن في العراق واحتمالات المستقبل«، و»الوضع الراهن في إيران واحتمالات المستقبل«، و»إيران والخليج«، و»مستقبل العلاقات الكويتية العراقية«، يعتبر خرقا للمحظور وتوغلا في حقول ألغام متفجرة.
فكلمة »العراق« في كويت ما بعد غزوة صدام حسين تكاد تكون محرّمة، ولا تُذكَر إلا مصحوبة باللعنات، و»العراقي« هو العدو بالمطلق، اكثر من »الايراني« الذي كان حتى الأمس القريب مصدر الخوف والقلق على المصير.. اما الاسرائيلي فكاد، بعد حرب الخليج الثانية، يسقط من خانة الاعداء، بل انه صار بالنسبة للمشبعين بالأحقاد على العرب من الكويتيين الذين يعتقدون ان اخوانهم قد خذلوهم، أقرب الى صورة »الحليف الاضطراري«، كونه حليف الحليف الاكبر والصديق الأعظم و»المحرر« الأمجد: الاميركي!
بل ان البعض من الكويتيين المفجوعين بعروبتهم قد توصلوا الى استنتاج بائس: لقد جاءنا الخطر بثوب عربي وبشعارات ثورية عربية وبلسان الحزب القائد العربي وعلى ايدي ادعياء الوحدة العربية، اما اسرائيل فلم »تلغ« دولتنا، ولم تكتسح ديارنا، ولم تمسح وجودنا كشعب وكيان سياسي عن سطح الأرض.. فلماذا نظل نعاملها وننظر اليها كعدو؟!
إذا كان »العدو« عربيا فعدو العدو، اي العرب، هو الصديق الصدوق!
.. والعراق، في ما يتعدى شخص صدام حسين، يطرح إشكالات اخرى لا تقل أهمية، لأنها تتصل بصراع الطوائف والمذاهب والاحقاد والاحزان الكربلائية المترسبة في مجرى التاريخ.
ولعل هذه الاشكالات كانت من بين الدوافع الضمنية التي جعلت الكويتيين ومعهم سائر الخليجيين ومعظم العرب، يساندون صدام حسين في حربه ضد إيران الثورة الإسلامية.
لم تكن إيران الشاه لتطرح مثل هذا الخطر المدمر: الثورة وبالاسلام!
كان أقصى أطماعها ان يبقى الخليج مدى حيويا لنفوذها، في السياسة، تبتزه ماديا وتقزمه معنويا وتسترهنه نفطيا، ولكنها تحالفه فعليا ضد الثورة، عموما، فكيف اذا كانت الثورة »شيعية« يقودها »إمام« بعمامة سوداء، ويستبطن ان يصحح مسيرة التاريخ الاسلامي من لحظة اغتيال الخليفة الراشدي الرابع علي بن ابي طالب، هذا اذا ما عجز عن اعادة عقارب التاريخ الى ما قبل ذلك: الى لحظة وفاة الرسول، لتنصيب »ولي الله« خليفة للنبي العربي، بالحق، حق القرابة والسبق الى الايمان ونصرة دين الله بسيفه »ذي الفقار«؟!
* * *
في القاعة الأنيقة بفندق شيراتون، افتتحت اعمال الندوة التي شارك فيها أكثر من عشرين محاضرا ومعقبا، اضافة الى حشد من المهتمين، وبينهم نخبة من المثقفين والاكاديميين والاعلاميين، وزيّنها بعض الوجوه النسائية التي كانت أعدادها تتزايد باستمرار، حتى كادت المرأة تكون »الحاضر الأكبر«، من خارج إطار المشاركين (هذا مع الاشارة الى ان ثلاث نساء قد أسهمن في المناقشات، وأثارت إحداهن جوا من الشجن وهي تستذكر زوجها المفتقد والذي استُبقي رهينة لفترة ثم قُتل داخل أحد سجون صدام؛ فيصل الصايغ).
تمثلت المعارضات العراقية بأصوات ثلاثة: د. غسان العطية، واللواء وفيق السامرائي وليث كبه.
ومع ان لكل من هؤلاء الثلاثة، وللمعارضين الآخرين الذين لم يُدعَوا، حسابا دمويا مع صدام حسين، الا ان الكويتي الطبيعي لم يكن يتعامل معهم بجدية، ولا كان الغفران واردا بأي حساب.. ولعل الشعور بشيء من الإشفاق، او الاخذ بنظرية »حصاة تسند خابية«، او الافتراض أنهم ان لم ينفعوا فلن يضروا، كان هو الغالب.
هي »منة« كويتية يمكن تسويقها، اما مصدر التغيير فهو هو؛ »إله التحرير« وبطل »بعث« الكويت، كدولة، من العدم: السيد الاميركي، ظل الله على الارض وفي الفضاء والسموات السبع كما في أعماق البحار!
من مصر جاء اثنان فقط: البلدوزر عماد الدين أديب، القادر، والحاضر والجاهز للتحدث، بطلاقة وغزارة في المعلومات، في كثير من الموضوعات السياسية الشائكة، والاشكالات الطائفية، والفروق بين القوميات، بالتهذيب المصري الأنيق، ومن دون التفريط بخفة الدم و»الحبكة« متى لاحت فرصتها ثم السبق الى ضحك يتهدل معه الجذع الضخم فيضحك السامع مرة والمشاهد مرتين… اما الثاني فكان الرصين القمين ورهين ثوب الوزارة ودور سلفه الصالح بطرس بطرس غالي في رئاسة تحرير مجلة »السياسة الدولية« التي تصدر عن دار الأهرام في القاهرة؛ الدكتور أسامة الغزالي حرب.
اما من لبنان فكنا اثنين فقط، ولكن بقدرات جيش كامل قائده »مولانا« رضوان السيد الذي يعرفه الانس والجن، ويعرفهم بأنسابهم ومصاهراتهم كما بأفكارهم وسقطاتهم التاريخية او »الفقهية«.
وعند الحديث عن ولاية الفقيه التي يعتمدها النظام الايراني، فلقد سمع المشاركون من هذا »الازهري« الذي خلع العمامة متفرغا للجدل، افضل شرح مبسط سني لنظرية شيعية معقدة جدا أساسها سياسي ومنطوقها ديني.
من إيران والايرانيين جاء اثنان فقط: من طهران جاء »العربي« محمد صادق الحسيني، المحامي ذرب اللسان والبليغ في الدفاع الهجومي كما في الهجوم الدفاعي الى حد انك لا تعرف ان كان يؤيد او يعارض، خصوصا انه يعتبر نفسه من جنود الثورة »المجهولين« ومن اوائل »الخمينيين« مع خشية ان يكون »آخر الخاتميين«… كما جاء من لندن أمير طاهري، وهو »إيراني أبيض« يحاول ان يفهم الثورة الاسلامية بمنطق انكليزي، ويحاول ان يشرح »الخمينية« بلسان سلمان رشدي، ولذلك ربما لم يجد له جمهورا خارج العرب الذين يكرهون الثورات ويخافون الاسلام ويحبون الانكليزية باللكنة الاميركية، ويحنون الى إيران الشاه حيث كانت العلاقة بسيطة جدا: هو ملك الملوك وهم بدو الصحراء، وعنه يأخذون…
اما الكويت فقد تمثلت بنخبة من مثقفيها و»كادراتها« المميزين: د. عبد الله النفيسي، جاسم السعدون، عبد المحسن جمال، سليمان ماجد الشاهين (وكيل وزارة الخارجية)، د. سامي الفرج، د. أحمد الربعي، د. اسماعيل الشطي ود. خلدون النقيب، اضافة الى محمد جاسم الصقر، وذلك النفر من المشاركين في النقاش وكلهم مزدحم النفس بعواطف متضاربة وأفكار مصطرعة بين ظلم التاريخ ومرارة التجربة وحتمية الجغرافيا.
ولقد كنت أعتبر الربعي ملكا من ملوك الكلام (المفيد) الى ان سمعت النفيسي فإذا هو من فئة »الملتهم المبتسم« في علم الكلام؛ يتلذذ باختيار اللفظة وبنطقها وبصداها وبوقعها على المستمعين، ثم انه »معلم« في المباغتة بما لا يتوقعون ولا يقرون، ومن قبل ان ترتفع الاصوات بالاستنكار يكون »الدكتور« قد أخلى مساحة ما ليتخذ صورة المجادل منسحبا من موقع العقائدي وصاحب النظرية.
على انه لا بد من التوقف أمام شخصية الرجل الذي أثار الزوابع في الجلسة الاخيرة: الدكتور سامي الفرج، وهو عسكري سابق، وخبير استراتيجي، وقد قدم عرضا لاحتمالات مستقبل العلاقات مع العراق ببرودة اعصاب »العالِم« و»المحلل« المؤهل لمناقشة الاحتمالات كافة ببرودة اعصاب وبحيدة تسقط العداء والاحقاد وتتعاطى مع الوقائع مجردة.
كان التواطؤ واضحا بين الفرج والصقر: لا بد مما ليس منه بد، فذات يوم ستضطر الكويت الى اعادة التعامل مع جغرافيتها ومع تاريخها ومع حقائق حياتها، اليوم وغدا والى دهر الداهرين… ودائما ستجد نفسها في »حضن« العراق.
ماذا لو كان عراق صدام حسين؟!
وأي عراق سيكون بعد صدام، او بصداميين من دون صدام؟!
وهل يكون عراقا واحدا، كما عرفه العالم مع قيام دولته الحديثة في بداية العشرينيات من هذا القرن، أم يمزَّق حسب الطوائف والمذاهب والأعراق، وهل يبقى عربه عرباً أم ينشطرون، وهل يظل كرده فيه أم ينفصلون، وهل يبقى له نفطه أم تشفطه تركيا مع الموصل وكركوك؟!
انهمرت الاسئلة مطراً، وانهمرت الاحزان سيولا: كان البكاء على الكويت وليس على العراق، فكل احتمال سيئ عراقيا هو احتمال مدمر كويتيا.
هل هي مأساة الدول الصغرى التي لا تجد لنفسها مبررا خارج ثروتها، والتي تتحكم بها وجودا وعدما الارادات الدولية، فتنفخ في شعبها الصغير زهو الدول العظمى في لحظة، ثم تشطبه ودولته في لحظة اخرى اذا ما اقتضت مصالحها ان تتعامل مع الأقوى والأبقى والأقدر على تبرير وجوده بضرورات التوازن وقسوة المنطق الثلجي للمصالح الحاكمة؟!
* * *
في اي اجتماع عربي، تتهاوى فرحة اللقاء بالأصدقاء تحت ضغط الاسئلة التي تأتي من العجز، وتأخذ الى اليأس.
ماذا عن الغد؟!
لعلنا الأمة الوحيدة التي لا تملك، او انها لم تعد تملك تصوراً محدداً لغدها.. ولا يبدو انه ثمة من هو معني بصياغة هذا الغد، بل بتمثله، افتراضا، والسعي الى تحقيقه، او الخوف من المحاسبة عن قصور خياله عن رسم ملامحه.
ان كل عربي يبرأ بنفسه من العرب الآخرين، ومن العروبة ذاتها.
قال ذلك الكويتي بعفوية جارحة، في بعض مناقشات الندوة: لماذا يبيع واحدنا الآخر اوهاما. لسنا هنا مجموعة من العرب. ان فينا المصري والعراقي واللبناني والسعودي والكويتي. لسنا مجموعا. ان كلا منا غير الآخر، يختلف عنه ومعه اختلافا كبيرا. والأفضل ان نبتعد عن الكلمات الكبيرة وغير الواقعية، حتى لا نخدع أنفسنا والآخرين.
وران الصمت. كان من شأن النقاش ان يفسد مع القضية الود الشخصي.
لكن العربي، برغم كل شيء، لا يجد نفسه خارج العرب. ليس له مكان خارجهم. وكل مساحة يخليها تأخذها إسرائيل ولا يأخذها »كيانه« الخالد حتى لو كانت الولايات المتحدة الاميركية، بل لا سيما اذا كانت تحميه.
الخيار الاخير: تكون عبدا »محررا« لإسرائيل الاميركية او أميركا الاسرائيلية، ام تحاول ان تكون أنت أنت، ولو مثقلا بالمهمات التي قد تبدو مستحيلة، ثم تجتهد لتحقيقها فيكون لك شرف المحاولة حتى لو فشلت، ام تذهب بقدميك الى العدم والاندثار، تطاردك لعنات أبنائك والأحفاد لأنك لم تبعد لهم ما يخسرونه؟!
و»ندوة القبس« محاولة شجاعة لكسر دائرة الصمت والخوف التي يظللها شبح العدو، وقرار بمباشرة المواجهة مع الذات بالاسئلة الصعبة او المحظورة، والتي ان لم نمتلك أجوبتها سنذهب الى موتنا بلا مشيعين.
حياك الله يا أبا عبد الله،
والصمت مقبرة الجبناء.
وشرفنا في ان نطلق الكلمة عفية، مجلجلة، تنبه الغافلين وتيقظ النيام وتلزم الجميع بأن يجدوا طريقهم طريقنا الى الغد.
اما الأحكام علينا فقد صدرت من زمان، ومع ذلك سنظل نقول ونقول حتى ننهي كلامنا فنقتل الصمت ليجيء زمن الفعل.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لم أكن أصدق أنني سأكبر بحبي فينظرني الناس بغبطة تشي بنوع من التهنئة على حسن الاختيار. صار حبي شهادة لي بالجدارة. أعطتني حبيبتي مكانة الرجل وأعطاها الناس منزلتها المرتجاة كامرأة. تكاملنا فصرنا الخليقة. صرنا كل الناس. صرنا فصلا في القصة الخالدة التي تتجدد ولا تتكرر، مصطنعة جمال دنيانا الموحشة.