هوامش
***
طلال سلمان
عن الخلاف العقائدي بين عرب الحماية وعرب الوصاية
**
مَن قال إن العرب قد خسروا، مع أرضهم، حرياتهم؟!
ان لهم الحق بالخيار مطلقاً بين »الحماية« و»الوصاية«،
ثم ان لهم الحق المطلق بالخيار بين إسرائيل الأميركية أو أميركا الإسرائيلية!
أخطر ما نشهده اليوم ليس أن العرب قد فقدوا الثقة بحكّامهم (أما الحكّام فنادراً ما وثق واحدهم بشعبه ولذلك يقيم حراساً على الشعب حتى لا يخطئ أو يغفل فتضيع ثقته في الزحام، أو تسقط منه سهواً أو يسقط عنها سهواً..).
الأخطر أن العرب قد فقدوا الثقة بأنفسهم، وخسروا شعورهم بالأهلية للقيام بما يتوجب عليهم القيام به ولا ينوب عنهم فيه أحد، أو لا يجوز أن ينيبوا فيه أحداً!
بل لعلهم باتوا على شبه اليقين من أنهم لا يتقنون شيئاً ولا يعرفون من أمور حياتهم شيئاً، يستوي في ذلك القرار السياسي، أو التوجه الاقتصادي، أو الخيار الديموقراطي، وصولاً إلى الملبس والمأكل والموسيقى والرقص وتسريحات الشعر ولعب الأطفال وسائر مستحدثات سوق الاستهلاك!
لغتهم، في نظرهم، عاقر،
وموروثهم الثقافي، ديناً كان أم أدباً، أخلاقاً أم سلوكيات، بات بمجمله آفة ثقيلة تشدّهم إلى الخلف وتقفل عليهم باب الغد،
لم يعد التغيير حلماً ولا أملاً.
لم يعد مركزه ومنطلقه في »الداخل« وهدفه »الداخل««.
بات مستحدثاً جاهزاً قابلاً للاستيراد،
والمفاضلة محصورة بين الصنفين الرائجين عالمياً وإقليمياً: الأميركي والإسرائيلي!
… وكلما اقترب النظام المعني من أحد هذين »المثالين«، أو دخل تحت حمايته أو طلب فأقر بوصايته عليه، ضمن سلامته مهما كانت درجة الاختلاف في الهوية وفي التقديمات وفي اعترافه بالناس كمواطنين لا كرعايا.
وحدها واشنطن مَن تملك مفتاح التغيير، والقدرة على إنجازه،
أما تل أبيب فتملك القدرة على منع الغيير،
قديماً كانت تزكية واشنطن بين الأسباب الموجبة لإسقاط النظام!
وكان لاعتراض الخطط والمشروعات والسياسات الأميركية في المنطقة توكيداً لوطنية النظام ولإخلاصه في خدمة أهداف شعبه ونضاله من أجل حقوقه المشروعة في التحرر وفي إعادة بناء حياته بما ينسجم وتطلعاته في الديموقراطية والعدل والتقدم.
أما مقاومة إسرائيل، وجوداً على حساب فلسطين العربية وشعبها، وخططاً توسعية بالاستيطان والهيمنة والتفوق العسكري، فكان أبسط الواجبات الوطنية، ومَن هرب من المواجهة أدين بتُهم أبسطها الخيانة والالتحاق بمعسكر العدو.
نظرة سريعة إلى الخارطة العربية الآن (هل بقيت للوطن العربي خارطة واحدة) تكشف أن نصف المساحة العربية، أو أكثر، تحت الحماية الأميركية، وأن ثلثها تحت الوصاية الإسرائيلية، وما تبقّى هي »جزر« مطوّقة وموضوعة على »قائمة الإرهاب« تنتظر اللحظة المناسبة لاجتياحها من الخارج، أو لسقوطها من الداخل.
المشكلة أكثر تعقيداً من أن تلخص بفقدان الاستقلال الوطني،
فقديماً كان العربي يلجأ إلى العربي أو يستعين بأخيه العربي لمواجهة مخاطر النفوذ الأجنبي، ومن ثم الهيمنة الأجنبية على مقدراته،
… أو كان العرب، بمجملهم، يتلاقون لدرء الخطر الإسرائيلي عن واحدهم أو عن بعضهم أو عن مجموعهم،
الآن صار الأميركي هو حامي العربي من العربي،
وصار الإسرائيلي هو بوليصة التأمين ومصدر الأمان للعربي من خطر أخيه العربي،
ونزلت المسألة من مستوى النظام إلى مستوى »الشعب«، أو فلنقل إلى مستوى »المجموعات« أو »الجماعات الأهلية«.
صار الطيران الأميركي (والبريطاني) ينطلق من قواعده فوق الأرض العربية ليضرب شعباً عربياً (من دون حاكمه) فلا يرتفع صوت بالاعتراض، ولا تقوم في الأقطار المعنية تظاهرة احتجاج، فإذا قام مَن يرفع صوته ضد هذا الاعتداء المكشوف على قُطر عربي رأت وسائل الإعلام (العربية والدولية) والدوائر السياسية (العربية والأجنبية) في ذلك »حدثاً« خطيراً، أما واشنطن فقد تعتبره إرهاباً وعدواناً مباشراً على قواتها المسلحة… وعلى أصدقائها العرب!
وصار الطيران الإسرائيلي يواكب ويحمي طائرة حاكم الأردن، أثناء تحليقها في أجواء فلسطين المحتلة، بينما جماهير الأردنيين تملأ الشوارع بهتافها بحياته أو بصلاة الشكر ترفعها إلى الله سبحانه وتعالى لأنه مَنَّ عليه بالعافية، بغير أن يتوقف واحد من الجمهور ليتساءل، مجرد تساؤل، عن معنى الحماية الإسرائيلية لسليل مفجِّر الثورة العربية الكبرى.
هذا مع إغفال ما يجري في »فلسطين المحرَّرة« ولمناضليها السابقين الذين انتصروا مؤخراً فحازوا الشرفين معاً: حماية المخابرات المركزية الأميركية إضافة إلى الوصاية الإسرائيلية المعزَّزة بالاحتلال العسكري المباشر،
ولعل السلطة الفلسطينية هي النموذج المستقبلي للأنظمة العربية: حكومة شكلية تتكوَّن من مناضلين سابقين، وتعمل كواجهة محلية للاحتلال أو للهيمنة الإسرائيلية أو تحت الحماية العسكرية المباشرة للمصالح الأميركية،
ومع الأيام، يختصر الطموح العربي نفسه بالعمل لأن تبقى مساحة فاصلة بين الخطط الأميركية والخطط الإسرائيلية للمنطقة، لكي تشكّل فسحة للتنفس والحكم الذاتي.
وقد نشهد مناضلين عرباً تحت الراية الأميركية يقاتلون لتحجيم الوصاية الإسرائيلية،
أو مناضلين عرباً تحت الراية الإسرائيلية يقاتلون لتحديد (أو ربما لإجلاء) جيوش الحماية الأميركية.
ولقد تجاوز العرب الانقسام الأميركي التقليدي بين حزبين متشابهين إلى حد عدم القدرة على التمييز بينهما، الجمهوري والديموقراطي، فباتوا الآن أقرب ما يكون إلى الانقسام العقائدي الحاد بين الليكوديين وأنصار حزب العمل، مع أقليات متطرفة هنا وهناك (رابينية في قلب العمل، وموردخاوية في قلب الليكود)…
وهذه بالضبط هي حدود الفوارق بين الحماية والوصاية!
في الزمن الماضي كان التحريض اليومي وسط الجهل بالذات: اعرف عدوك!
لعلنا اليوم بحاجة، وقد عرفنا العدو حتى آخر التفاصيل، أن نعرف أنفسنا!
هلاّ ذكّرتني بإسمي القديم؟!
**
تنقشع غيمة البُعد، وتتهاوى سنين الوجد فنتوهم في إشراقة اللقيا وكأننا عدنا إلى قلب الحلم، واننا إنما نحاول إكمال البداية الواعدة، فإذا نحن لا نفعل غير ابتسار الخاتمة.
يرحل مَن جاء بلا حصان فاختطفك ومضى، ويمتد حبل الحنين متيناً ثم يتهالك فيكاد ينقطع: أحدنا لا يملك أن يتراجع، والثاني لا يستطيع أن يتقدم متوغلاً داخل الجرح.
اختلفت السيرة وانقطع السياق وصرنا غريبين نستذكر وقائع أيام المعرفة، ويحاول أحدنا التثبت من قوة ذاكرته عبر قراءة صورته في عيني الآخر، ثم ننتبه إلى أن استعادة الأمس تلغي اليوم وتفسده.
لنكن غيرنا، إذن.
هل البُعد يجمِّل الماضي الذي لا تستذكر منه إلا قسوته؟
أم هو فراغ الحاضر يرجعك إلى أيام بيضاء لم تكن يوم عشتها (سهواً!!) تحمل لوناً، فتضفي عليها الآن من توهّمك أو تمنياتك ما تفتقده فيها من البهاء!
الماضي فراغ. تمد يديك عبر الزمن الضائع متوهماً أنك تقترب من الشاطئ، ولسهولة السباحة في العبث تتوهم أنك وصلت وما وصلت، وتنسج لنفسك حكاية عن استعادة الذات والآخرين، وما استعدت إلا هنيهة من الصفاء لن تدوم لترى نفسك فيها.
أن تستعيد الوهم الذي كان يعني أن تخسر الواقع الذي يمنحك وقته.
لك القرار: تهاجر عائداً إلى التمني، أم تكسر الحلم بالاقتراب حتى الذوبان في لحم اللحظة المتاحة بلا حجاب؟!
الفرح حاصل جمع، والحزن لا ينقسم على اثنين، ولا يفتح الباب للمشاركة. هو لصاحبه حق، أما الفرح فلكل عابر سبيل فيه نصيب.
وما أنا بعابر السبيل،
ولست تمثالاً للماضي، جامداً مثله أجاهد أن أختفي تحت نثار الغبار.
سأخرج من الحكاية لا لأقرأها مع المتفرجين، بل لأكتبك من جديد.
هلاّ ذكّرتني بإسمي القديم؟!
قصص مبتورة
**
} اشتعلت غيرة فمدّت يدها تطفئ التلفزيون، وزمجرت بغيظ: تعشق صورتها فتنساني. أتسعى إلى طيف وتنسى حقيقتي؟!
لم يرد. كان أعظم حزناً منها. هل بات خياره محصوراً بين صوت يلغي التمني، وبين تمنٍ كلما تجسّد غاب؟!
} قالت: أحب هذا الزحام في مواعيد الأعياد، إنها فوضى لبنانية ممتعة. تصوَّر، لولا فوضاها لما نجحنا في اصطناع عيدنا الخاص. إننا نفطر في ميلادنا ونتسحَّر استعداداً لصيام طويل!
} قالت لصديقتها: كلما نظرت إلى غيري حزنت على نفسي! أنا الأجمل، والأصدق والأطهر، فلماذا ينجحن وأفشل؟!
ارتبكت صديقتها فلم ترد، فعادت تقول كأنما تحدِّث نفسها: ها أنذا أزيد من أحزاني وأحزانها، وأضيف إلى فشلي شهادة جديدة.
قالت الصديقة بهدوء: لنخرج إلى الهواء الطلق، مَن يحبس نفسه لن يأتيه النجاح إلى زنزانته. هيا نستعرض الباحثين عن ذواتهم عبر الآخرين.
} كان المراهقان على الرصيف يتابعان بعيونهما الصبايا العابرات فيعلّقان على أشكالهن.
قال الأول: أنظر إلى هذه، لو سكنت فيها لاختنقت لضيق ملابسها.
قال الثاني: بل هذه هي مطلبي. إنها تقول إنها لا تريد أحداً غيرك فيها.
من أقوال »نسمة«
**
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
عرفت في حياتي أنماطاً عديدة من العشق… فهناك مَن يحب بعينيه، ومَن يحب بيديه، ومَن يحب بلسانه، ومَن يحب بقلبه. أما أنا فقد أحببت بكليتي، بروحي وجسدي وحواسي، بقمصاني وأهدابي وأظافري… ولم يمنحني هذا الحب الغامر التوازن الداخلي فحسب، ولكنه منحني القدرة على التعامل مع الخارج أيضاً. بالحب تصير السيد، حتى لو كنت الأقل دخلاً بين أقرانك. الحب يلغي حاجتك إلى ما يعوّضك من خارجك.