الفردية كأقصر طريق إلى العولمة ..
أطفالاً كنا حين دخل بيتنا المذياع، أول مرة، وسط طقوس احتفالية بهيجة شارك فيها الجيران الذين كانوا عاجزين عن التصديق ان تحريك المؤشر ينتقل بهم من بيروت إلى القاهرة ومن دمشق إلى لندن، ومن نشرة الأخبار إلى الأغاني، وسط خليط من اللغات الأعجمية والذبذبات المشوشة بأنغام موسيقى الشعوب الأخرى.
أما حين اشترينا أول جهاز تلفزيون، بالأبيض والأسود، فلم يكن ذلك مجرد إعلان عن ارتقاء »طبقي«، بل كان في مضمونه اقتراباً من عصر مختلف تماماً تتقاسم فيه الصورة مساحة النظر والفكر جنباً إلى جنب مع الكلمة.
بداية كانت ساعات البث التلفزيونية المحدودة تجمعنا وجيراننا في لقاء الدهشة والمتعة والمعلومات على تنافر الأذواق والتعارض في المواقف السياسية.
بعد حين تعددت المحطات، وانسكب اللون على الصورة، واتسعت رقعة البث بحيث بات بإمكاننا أن نأتي بالعالم الى بيتنا فندور فيه، نتعرف إلى أقطاره حكاما وشعوبا عادات وتقاليد وصراعات سياسية ومعارك شوارع أو حروب جيوش…
وعبر اقتحام الفضاء وزرعه باللاقطات ومحطات البث والإرسال تصاغرت الكرة الأرضية حتى بات ممكناً أن تذرعها ذهابا وإيابا في لحظات معدودة.
ثم كان لا بدّ أن يحدث التحوّل الصاعق: فالقادر على الوصول إلى »فوق« هو مَن يتحكّم بك »تحت«، والقادر على استغلال هذا الموقع الجديد وملء ساعات البث بإنتاجه، في مختلف المجالات، هو المؤهل لإعادة صياغة أفكارك وإلى حد ما معتقداتك ونمط حياتك برمته.
من علوم الطبيعة والاكتشافات العلمية الباهرة في أعماق البحار أو في أعالي السماوات، إلى المسلسلات والأفلام الدرامية، إلى الأفلام الوثائقية، إلى المحاورات السياسية، إلى الأخبار، إلى تحليل الأحداث عبر مفهوم محدد وصولاً إلى استخلاصات محددة، إلى البرامج الترفيهية من موسيقى وغناء ورقص، إلى المباريات الرياضية واصطناع النجوم، إلى مباريات ملكات الجمال وملكات الأناقة وملكات الرشاقة وملكات البيتزا والليدي دي والأم تيريزا الخ..
بات لذلك كله مصادر معروفة ومحدودة: هي تنتج وتبيع،
والانتاج سياسة، والبيع سياسة، لأن الكلفة لا يعوّضها إلا الاعلان، وللإعلان شركاته المتصلة أو المتفرعة عن شركات الانتاج،
وشركات الانتاج لا بد أن تكون عظيمة رأس المال، وبالتالي فلا يقدر على إقامتها وتأمين شبكات توزيعها، إلا الأعظم ربحاً وبالتالي قدرة على التمويل، أي الاحتكارات الكبرى والرساميل الهائمة تبحث عن مجالات توظيف مجزية.
ولأن المال بلا رائحة، ولأن رأس المال بلا وطن ولا عقيدة، فقد كان سهلاً أن تنشأ الشركات متعددة الجنسيات، ومتعددة الأغراض: فإذا الشركات المنتجة للسلاح، مثلاً، تنشئ شركات إنتاج مدني من فائض أرباحها، ثم توظيف الفائض الجديد في شركات إنتاج سينمائي، مثلاً، أو تنشئ شركات إعلان ودعاية، لتستعيد بعض المردود الإعلاني عن سلع تنتجها هي، فيتعاظم رأس المال كلما اتسعت دورته وتعددت حقول الانتاج.
يتصاغر العالم مرة أخرى فيصير رهينة شركات معدودة، هي مَن يصنع ثقافته السياسية ووجدانه إلى حد كبير، ويحدد له سلوكياته وأولويات حياته من مفهوم الديموقراطية وحقوق الإنسان إلى نمط الموسيقى التي يسمع إلى الثياب التي يلبس انتهاء بالوجبات السريعة التي تغني عن المطبخ والمائدة واللقاء العائلي والاجتماع من حول المآكل التقليدية التي تتطلّب وقتاً طويلاً في الإعداد ووقتاً إضافياً لمسح آثار العدوان!
لم يعد التلفزيون وسيلة لاجتماع شمل العائلة (ناهيك بالجيران)، بل صار مع محطاته الفضائية المتعددة بلا حدود، أداة تفريق: ثمة فرصة لأن »يسافر« كل فرد مع ما يمتّعه أو يهمّه أو يلذّه إذا ما رآه منفرداً أو في عزلة (مع شريك) عن الآخرين.
صارت العائلة أفراداً أو آحاداً متجاورين سكناً، لكنهم مختلفون باهتماماتهم وبهواياتهم، من السياسة إلى الملبس ومن الموسيقى إلى المأكل ومن الأفكار إلى أنواع الصابون، ومن المشروب إلى أصناف السيارات،
الرياضة وحدها بقيت، في الغالب، أرض لقاء بالعراك!
صار لكل فرد من العائلة »تلفزيونه« في غرفته، يرى على شاشته، وحده، ما لا يريد لغيره أو لا يريد غيره أن يشاركه فيه.
صار لكل فرد عالمه الخاص، فعلاً.
صار كل فرد عالماً متكاملاً قائماً بذاته بعيداً عن الآخرين ومنفصلاً عنهم!
أليس هذا المدخل الشرعي إلى العولمة: لك العالم كله، أو أنك أنت في العالم كله،
الفردية أقصر طريق إلى العولمة: إذا كنت تشبه في ذوقك، في معارفك، في معلوماتك، في أكلك وملبسك، في هواياتك (الموسيقى والغناء والرياضة) كل الآخرين في كل الأمكنة، فأنت واحد من هذا الكمّ البشري الهائل المنتشر على سطح الكرة الأرضية.
لا شيء يخصك بذاتك، لكن لك من عالميتك نصيب.
أنت لا أحد بالذات. أنت نسخة من مليارات النسخ المتماثلة حتى ولو اختلفت الملامح.
لماذا العائلة؟! إنها تأخذك إلى الماضي، أما المستقبل فخارجها.
تهاوت المؤسسات القديمة جميعاً: القبيلة، العشيرة، العائلة، الأسرة..
ولم تتأخر الأحزاب والتنظيمات الشعبية والروابط الاجتماعية والنقابات والاتحادات المهنية، عن اللحاق بمؤسسات الماضي، فتفكّكت أواصرها أو تكاد،
أنت بذاتك العالم.
أنت ملخص العالم. العالم مصغراً، لا فرق بينك (كعربي) وبين الأميركي والأوروبي والياباني وحتى الصيني، إلا في الموروث، والموروث عبء يعطل تقدمك ويخرجك من الدنيا فيشلحك في مزبلة التاريخ!
ثم ان التاريخ قد انتهى، ربما صار هو مزبلة العولمة!
إنها قرية كونية بلا حدود، كل مَن فيها متشابه، متماثل، منسوخ عن أصل واحد، يشرب من »نبع« واحد، ويهتدي »بفكر« واحد، ويسلك في يومياته السلوك ذاته،
اجلس الى »الكومبيوتر«. سافر عبر الأنترنت وتجوّل عبر هذه القرية متحرراً من أثقال هويتك وما يربك مسيرتك نحو القرن الحادي والعشرين.
لا تستطيع دخول العصر باسمك المدبّب هذا.
لا تستطيع أن تجرّ خلفك كل تلك الشخصيات والأفكار والقيم والتقاليد الموروثة.
تخفّف منها جميعاً، اسقط عن كاهليك تخلّفك. افتح عينيك وتعرّف إلى ذاتك الجديدة.
(في الأسبوع المقبل نتابع رحلتنا مع هذه التداعيات التي أثارها الموضوع الخطير الذي يطرحه كتاب
»حصار الثقافة/ بين القنوات الفضائية
والدعوة الأصولية«
للدكتور مصطفى حجازي)
ليس ذكرى. إنه مصدر أمل!
استغرق الأمر ربع قرن من التحقيق والتدقيق قبل إعلان الخبر: إنه حقاً مات! ولا خطر من عودته أو من انبعاثه حياً اليوم أو غداً أو بعد غد!
وهكذا بدأ التشييع الثاني لجمال عبد الناصر: أشرطة سينمائية رخيصة الكلفة، مرتجلة »الأبطال« والشخصيات، سريعة الإطلاق، إعلانها بالصورة أقوى من مضمونها بالفكرة والكلمة ومغزى القرار، ثم الإفراج عن بعض أغنيات »الزمن الجميل«، والسماح بعودة صورته إلى الأفلام القديمة، وأخيراً إنتاج ملكي السمو للحلم العربي الذي يتخذ منه معبراً إلى مسلسل المآسي والهزائم التي عشنا أو نعيش.
في الماضي البعيد كان عرب الجاهلية يصطنعون آلهتهم من التمر فإذا جاعوا أكلوها، تقول كتب التراث،
في الماضي القريب قتل العرب أنبياءهم حتى إذا أثقلت عليهم الجريمة فأدخلتهم ليل الهزيمة، انتبهوا إلى خطورة أن يتحرّكوا ولا رأس لهم، فعادوا إلى المقابر يعتذرون إلى ضحاياهم ويطلبون منهم الصفح وتسلّم قيادتهم من جديد.
الميت لا يقود ميتاً،
أو أن الميت الحي لا يقود حياً ميتاً،
على أننا بلا أحلام… فقد اغتال قتلة الأنبياء الأحلام فينا، وأغرقونا في »واقع« لا أمل فيه ولا قبس من نور أمامه يبشّر بنهار غد جديد، فصرنا نخلط بين الحلم وبين الكابوس.
على أن الناس صفقوا للكابوس ورددوا كلمات أغنياته الملفقة والهشة البنيان والمعنى، لأنها تذكرة عودة إلى قدراتهم المهدورة، إلى أسمائهم المنسية، إلى أيامهم المغدورة،
بل أنهم بكوا حين انتبهوا إلى أنهم كانوا يقدرون، وقد قدروا.
تجاوزوا هشاشة التأليف ورخص الإنتاج وابتذال التمثيل وابتسار المعنى واكتفوا بعبق الذكرى التي ساعدتهم على استعادة ملامحهم وأسمائهم والاعتبار وإمكان أن ينظروا في عيون أبنائهم والأحفاد: هؤلاء آباؤكم!
لم يقتل التشويه المتعمّد والإدانة الملحاحة جمال عبد الناصر وحده، وقد كان قد رحل ولم يعد ثمة خطر من احتمال عودته »ليحاسبهم«،
قتل جيلا او جيلين من الرجال والنساء والفتية الذين أعطوا فجعلوه قادراً، وتعبوا وسهروا وعرقوا فمكّنوه من أن ينجز معهم وبهم،
لم يكن جمال عبد الناصر إنساناً فرداً مُنح القدرة على اجتراح العجائب والإتيان بالخوارق، ولم ينجز بجهد عقله وساعديه وتعب العينين فحسب، بل هو قد نجح بهم، صار فيهم وصاروا فيه فإذا قوتهم هائلة تغيّر مجرى التاريخ وتصطنع فجراً جديداً.
وهو الآن ليس في الماضي، إنه في الغد: إنه يتحدى كل لحظة أولئك الذين يعملون على تغييب الإنسان العربي القادر والمؤهل لتغيير الواقع،
ليس ذكرى. إنه مصدر أمل: نقدر! لا بد من أن نقدر. نفشل مرة أو مرتين، لا بأس، نكرّر المحاولة حتى ننجح، أما الانهزام والهروب من الميدان فذلك هو الموت الذي لا بعث بعده ولا مَن ينشرون.
في الذكرى الخامسة والعشرين لحرب تشرين يجيء مع طابور الشهداء الذين أكدوا القدرة ليدلنا على طريق الأمل: القرار بالمواجهة، مواجهة النفس، مواجهة الآخر،
والحرب سجال، ولا محال، وما زال بالإمكان أن نغني!
أقوى من الحب!
قال بمرارة مَن اكتوى بنار تجربة لا يريد لها أن تتكرّر: الصداقة أبقى من الحب. فلنكن صديقين!
كانت تبكي فلم تسمع.. وكان خائفاً من الصمت المظلّل بنسيجها فقرّر أن يواصل الكلام ولو بجُمل مفكّكة المبنى شاحبة المعنى.. قال: ليست لي قدرتك. الحب قوة، وأعترف أنني أضعف من أن أحب. لا طاقة لي على الحب. الحب مهمة خطيرة. الحب إعادة خلق. الحب إعادة صياغة للإنسان. أعرف أن الحب جميل، ولعله أجمل ما في الحياة لكنني هشّ الجسد والروح،
صرخت به: كفى! تقتل الحب ثم ترثيه! لا تريدني، فليكن، ولكن لماذا تهين ذكائي!
قال بلهجة المعتذر: ولكنني أعترف بقصوري. لا أقدر على مجاراتك. أنتِ أعظم مني، وأغبطك. أتمنى أن تكون لي قوتك. تستحقين مَن هو أفضل مني، مَن هو في مثل شجاعتك… فالحب أقوى مني، وأنت أقوى من الحب!
قالت: الآن بدأت تهين أنوثتي.. فلنفترق بصمت يليق بالجنازة!
مشت يميناً، ومشى يساراً، وبقي الحب كطفل لقيط على طاولة اللقاء الأخير!
خارج الأغنية
صدح المغني: آه،
همست له من بعيد: آه لك، وآه عليك،
صدح المغني وقد أغمض عينيه: يا ليل!
همست وقد غرست عينيها في حبات العرق فوق جبهته: يا جنة اللقاء!
صدح المغني: يا عين، عيني يا ليلي، يا عين..
ذابت في همستها: روحي أنا،
وحين رقّ صوت المغني وهو يهدهد كلمة »يا حبيبي« هتفت وكأنها تكمل المعنى »لك ما شئت وأكثر«!
وحين انتبهت إلى تلك التي تستحم بالنغم ونظرة المغني، هزت كتفيها بثقة وهي تهمس لنفسها: ولو! سيكون لي! سأزرع عينيّ في ليله فلا يرى إلا بها! وأنا الليل يا نهارية الملامح، يا التي تنام خارج الأغنية!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
من يحبس الحب في صدره كمن يحاول تخبئة نهر في كمّه!
يعلن الحب عن نفسه متجاوزاً بُعد المسافة وغضب اللحظة وشكوك النظرة الشاردة.
لا يتعايش الحب والصد. لا يتّسع القلب للحب والشك. لا تتسع الحياة لكل هذا الظمأ.