عن شوارع الصور التي تأخذ إلى النسيان!
صور، صور، صور. الجدران صور. الأشجار صور. الأعمدة صور. الشاشات صور. النوافذ صور. الأبواب المغلقة صور، وخلف الأبواب المفتوحة صور. في صالات الاستقبال صور، في غرف النوم صور.
خليط هائل من الصور حتى لتكاد تخطئ في أصحابها أو تخلط بين الشهداء والمرشحين للانتخابات، بين الزعماء المبتسمين والمطربين المقطبي الجبين والفنانات المكشوفات الصدور لتأكيد عمق الصوت الصادر عن هذا الأتون الخطير.
صور، صور، صور. يتجاور النعي مع الإعلان عن أثواب داخلية جديدة، وتحتل أجساد النساء الجميلات والعاريات إلا من مايوهات دقيقة ورقيقة وشفافة لوحات كبيرة على الطرقات فتزوغ أبصار السائقين ويضيع منهم الاتجاه.
صور، صور، صور. الجدران معارض، وواجهات المحلات التجارية »ملطش« ممتاز لعيون العابرين والفضوليين الذين تستهويهم قراءة الملامح بالفراسة التي لا تخطئ.
تقول الصور ما لا تقوله الكلمات.
بعض الصور تنفي الكلمات التي تقبع تحتها.
وبعضها تفضح ما أراد أصحابها أن يخفوه من تاريخهم الشخصي.
تتذكر أيام زمان عندما كان الاسم أهم من الصورة، والعمل أهم من الإعلان، والتاريخ الشخصي معروفاً بحيث لا يحتاج إلى حملات الترويج والتسويق و»بيعه« من الزبائن.
مَن لا صورة له يهوي إلى النسيان.
لكن الصور الكثيرة تأخذ صاحبها إلى النسيان. تصبح جزءا من الجدار. كأنها »رقعة« أو حجر ملطخ.
تتذكر أيضا، والموسم انتخابي، البدايات التي جعلت الصورة أداة تعريف بصاحبها ثم صارت بديلاً من صاحبها، ثم صارت تغني عن صاحبها، وتزوّر شخصية صاحبها، أو تزور عينيك وتحْوِل نظرك فيزورّ عنها لأنه لكثرة ما رآها لم يعد يراها.
ولكن مَن قال إن الصورة لا تراك؟
ترتبك خطواتك، وتهم بمتابعة طريقك، وتغذ السير فإذا أنت مطوّق بالصور من جميع الجهات، وإذا عشرات العيون تتفحصك وتنفذ إلى داخلك فتقرأ ما تفكر فيه، وتخاف فيفضحك خوفك وتتهاوى عند الصورة طالباً غفرانها!
تحدق في الصورة فتحدق فيك، تتجاهلها فتحسها وقد اخترقت ظهرك، ثم عادت لتواجهك من أمام وفي نظرتها سجل حافل بأفكارك الملعونة والممنوعة حكماً.
تستذكر المرة الأولى التي استخدمت فيها الصورة سلاحاً.
كنت يافعاً بعد، تشدك التظاهرة، ويستوقفك الخطاب، ويستهويك أن تتسلل إلى اجتماع انتخابي، وأن تحشر نفسك مع أترابك في زاوية السخرية أو التعجب أو الإعجاب بالقائلين وبما يقال.
ذات يوم حوّمت طائرة صغيرة في الجو الذي لم تكن تخترقه إلا قلة من الطائرات المدنية، ولم يكن قد امتلأ حتى ضاق مداه بالطائرات الحربية الإسرائيلية… انخفضت الطائرة وارتفع أزيزها مدوياً، وثارت عواصف من الغبار فوق الساحات المتربة، ثم تهاطلت تلك الأوراق الملونة، ومعها مئات بل آلاف من الصور.
كان بطل »الصرعة« الجديدة الراحل إميل البستاني الذي اقتحم المسرح السياسي من موقعه كرجل أعمال ناجح… فهو أول مَن استخدم الأساليب الغربية والأميركية تحديدا في الدعاية الانتخابية، فجالت طائرته الصغيرة في الآفاق ترمي صوره وبرنامجه الانتخابي وقصاصات شعارات مركزة تماما وقابلة للترويج والانتشار بسرعة فائقة.
قاوم »التقليديون« ممن يعتمدون على أسمائهم وتواريخ عائلاتهم العريقة هذه »البدع« ثم ما لبثوا أن سايروا »الموضة« وواكبوا الموجة فارتفعت صورهم بشنباتهم المعقوفة والبنادق في اليد، والطرابيش على الرؤوس، والشالات على الأعناق، وأحيانا بزهور زاهية على الصدور الغبراء.
احتدم الصراع بين وجاهات الزمن القديم ومحدثي النعمة أو الطامحين من الأجيال الجديدة، ولم تعد الصورة تكفي عندما أخذ هؤلاء يطرحون »برامجهم« على شكل وعود وتعهدات بتحقيق المطالب المزمنة التي قصّر السابقون في تنفيذها، ثم لجأ مجددون الى الكرّاس يشرحون فيه »إنجازاتهم« السابقة ويلتزمون فيه بناء عوالم مسحورة لم ترد في بال »الأوائل« الذين لا يعترفون »بالشعب« بل يعاملونه كأنه قطيع من الأغنام.
الصورة أهم من صاحبها أحياناً.
وحين يشتد التنافس تنزل الصورة المخبوءة لليوم الصعب: المرشح يقف مزهوا إلى جانب هذا أو ذاك من القادة المبرزين، وعلى الفم نصف ابتسامة تهيباً.
وقد ترفق الصورة بشعار يؤكد متانة العلاقة بالقائد العظيم.. لا سيما إذا كان قد غادر الحياة… وهكذا يصبح صوت »الميت« أقوى من أصوات آلاف الناخبين الأحياء.
… أما أنا فتكفيني الصورة التي في خاطري للذي لا يغادر قلبي، والذي أعطيه عمري كله بغير طلب، لأنه عمري.
شفيق ونبيل: الثنائي الفلسطيني اللبناني الذي يستحضر كل العرب!
القلب قلبي، والدماغ دماغي وأنا شريك فراش الألم للزميلين الكبيرين شفيق الحوت ونبيل خوري، وأولهما قد أنجز الأطباء فتح شرايينه التي سدها اليأس واتفاقات الإذعان، وثانيهما يحاول الأطباء بعد أن يعيدوا إليه وعيه، بعدما غيّبه عنه سأم الانتظار لما لا يجيء وتهاوي الأمل في أن تنوب الكلمة عن الفعل.
شفيق ونبيل، لبنان وفلسطين، استمطار الأمل من القلم، والاندفاع في العمل حتى السقوط على أرض المطار أو أرض الندوة التي يمكن تحويلها إلى حلبة للدفاع عن الحق المهدور والمهدد الآن بأن يضيَّع كله بعدما »أسقطوا« بعضه سهواً حتى يستمروا معلقين فوق قمة السقوط!
العمر بصداقاتك. العمر بمن أحببت، ثم بما أنجزت. والبدايات تترك بصماتها على المسيرة كلها، ومن أخذت عنه يرافقك دائماً وتحسه إلى جانبك إذا استوحدتك الهموم فاعتصرتك وضيّقت عليك أفق الأمل.
وشفيق ونبيل عنوانان ثابتان للود والقلق على الصديق والاستعداد للمساعدة بما يملكان: أي الرأي والكلمة الطيبة واللهفة الحارة.
هما عالمان يختلف واحدهما عن الآخر كل الاختلاف… إلى حد التكامل!
إنهما مختلفان في شبكة العلاقات التي ينشأ كل منهما في حضنها، بعيدا عن فلسطينه من غير أن ينساها أو يكف لحظة واحدة عن العمل من أجل استعادتها أو العودة إليها، وقريبا من لبنان إلى حد الاندماج فيه والقتال من أجله، إذا لزم الأمر، ولو ضد الخطأ الفلسطيني.
فنبيل خوري، المقدسي أصلاً، وخريج الجامعة الأميركية في بيروت، بدأ حياته العملية في أوائل الخمسينيات في إذاعة »صوت أميركا«، بينما كاد شفيق الحوت، اليافاوي الذي لجده شارع في بيروت، يُطرد من الجامعة الأميركية ذاتها بسبب »شيوعيته«.
وعندما تمّ لقاؤهما في مجلة »الحوادث«، أواخر الخمسينيات، نجحا في تغليب التكامل على التناقض… هكذا وفي حين كان شفيق الحوت يواصل شغبه السياسي بالمقالة النارية الأقوى من تظاهرة (كالتي تعوّد أن يقودها)، كان نبيل خوري »يخترق« المجلة برواية شبابية تحمل اسم »المصباح الأزرق« وتجاري موجة الكلام المباشر في المحظورات، التي كان إحسان عبد القدوس أحد روادها العرب، منتقلاً من رومانسية الحب العذري الى شيء من التوغل في عالم اللذات الحسية.
وكان من حظي أن دخلت المهنة فعليا من باب تلك المجلة التي شكلت في حينه نقلة نوعية في الصحافة الأسبوعية، نتيجة الخبرة التي جاء بها الراحل سليم اللوزي من عمله سنوات طويلة في أرقى المجلات المصرية آنذاك: »روز اليوسف«، مجلة الرأي والمقالة والكاريكاتور والنفس النقدي إلى حد مواجهة السلطات وتحديها كما في قضية »الأسلحة الفاسدة« الشهيرة، ثم »المصور« التي كانت وما زالت تعتمد النمط المغاير، أي الريبورتاج المصور والتحقيق الصحافي والمقابلة أو الحوار المطول، وتحاول أن توظف الصورة لاستدراك ما لا يقال كله.
وعندما وصل فؤاد شهاب إلى الحكم، في العام 1958، وجد مَن يدله على نبيل خوري وشفيق الحوت اللذين ذهبا إلى الذين »طردتهم« »إذاعة الشرق الأدنى«، بل استقالوا منها، بعد العدوان الثلاثي على مصر (غانم الدجاني، ناهدة فضلو الدجاني، عبد المجيد أبو لبن وإسماعيل أبو لغد)، »فاعتقلوهم«، وجاءا بهم الى الاذاعة اللبنانية التي لم يكن في البلد غيرها، في سيارات جيب عسكرية، وطلبا فنفذوا وأقاموا محطة يقبل عليها الناس ويصدقون ما تقول ويستمتعون ببرامجها المختارة.
المسيرة طويلة، ولا مجال هنا لسرد سياقها المثير.
ولقد تكاثفت عبر المسيرة الهموم والانتكاسات والإخفاقات فالتهمت النجاحات أو كادت، وغرق كل من هذين اللذين لا ملجأ لهما إلا القلم في هموم أثقل من أن يتحملها القلب، وأخطر من أن يقوم بأعبائها قلم ولو كان كالسيف المكلل بالورد، وأفدح من أن تخفف من رزاياها النكتة الفذة والضحكة الصاخبة وعلب الدخان العديدة والسهر المضني، خصوصا إذا ما استعين على الوجع بما يستجلب النسيان.
حمى الله القلمين المتميزين اللذين جمعا العرب في هذا المزيج الفلسطيني اللبناني المحرض على التغيير وعلى الصمود والمقاومة في انتظار أن يطل فجره البهي…
عيدان عيدك
لم تكن متعجلة القدوم والانخراط في زحام المتدافعين على الأرصفة، وأمام محلات البقالة والأفران وعلى أبواب المدارس. كانت هانئة في مستقرها الآمن والمكيّف، تحظى برعاية ملكية وتستمتع بتلهف المتعجلين لقاءها الموعود.
ماذا يريدون منها، في الخارج، ولماذا يظهرون كل هذا القلق.. أم إن القلق هو بعض سمات أهل الخارج؟!
حين سُحبت إلى الضوء كانت تصرخ، كأنما احتجاجاً على أن يقرر لها غيرها المواعيد، وقررت أن تبقي عينيها مغمضتين، لا تفتحهما إلا بالكاد، وللحظات محدودة ترمق من وما حولها بدهشة ممزوجة بالعتاب ثم تغمضهما وتغفو أو تتظاهر بأنها قد غفت من جديد، ولا تريد أن يزعجها أحد!
لعلها لم تكن تريد أن يكون لها شريك في صنع الحدث السعيد أو أن يرتبط اسمها بالنبأ العظيم.
على أن النور قد أخذ يقتحم العينين نصف المغمضتين، والأصوات بدأت تداعب الأذنين الرقيقتين كورقتي شجرة ياسمين. أما اليدان اللتان تتحركان في كل اتجاه فقد تعوّدتا أن تعبثا بكل ما يصادفهما، بحثاً عن نبع الحياة!
خطرة هذه »العجينة« التي اختارت موعد إطلالتها على الدنيا بحيث يكون العيد عيدين والورد دنياك.
الفرح ولود، والحزن عاقر، والورد عطر الحياة لمن يفهمها ويحبها ويعطيها من ذاته فتعطيه كثيراً.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا تصدق أن الحب مصادفة. الحب يصنع الأقدار التي تتخذ أحياناً شكل المصادفات. هو من يسخِّر الزمن ويبتدع الأمكنة ويطلق الألسنة المعقودة من عقالها فتعيد صياغة دنياها بهمسة أو لمسة أو كلمات تتعثر عند شفاه الاضطراب. لا تجلس في انتظار مصادفتك. اسع إليها، واقتحمها واجعلها مداك. يصطنع الجنة من يأخذ قدره بيده.