إطلالة على الشعراء الذين ولدوا الشهداء… في عيناثا
يعرفك الطريق الموشوم بأسماء الشهداء وتعرفه فتمضي محملاً فوق أمواج الشعر الذي تتفجر ينابيعه في عيناثا حتى ليصعب عليك التمييز بين مناجاة أرواح الذين منحوا أرضهم حياتهم وأكملوا الديوان بدمائهم الطاهرة والذين استولدتهم الشهادة قصائد مفردة تنتصب على التخم وقد تعلقت العيون بالمباركة فلسطين.
يمم وجهك نحو القبلة وانطلق متمهلاً بين الشهيد والشهيد، بين البيت العتيق الذي كان وهدمته قذائف دبابات العدو والبيت الجديد المشع بنور الذين غادروه ولم يغادرهم وقد جددت بناءه إرادة الصمود وثبات أهل الأرض في أرضهم المباركة لا يغيبون عن سطحها إلا ليمكثوا في أعماقها شهادة ملكية موسومة بالدم.
تقدّم، فالعلامات تعصمك من الضياع… كل بلدة تخرج إليك شهداءها، بيوتاً ونساء وأطفالاً ورجالاً أدلاء إلى النصر الذي يجلل جبل عامل من أدناه عند بوابة فلسطين إلى أقصاه في قلب الشام.
في البدء كان الحجر، بورك بالحجر وقاذفه الذي لا يخطئ. ثم كان الزيت المغلي، بوركت أيادي الأمهات والصبايا وهن يقذفن به جند العدو فيحرق وجوههم ويطلق صرخاتهم عويلاً.
… والبيوت المزهوة بأنها كانت حصوناً مقاومة تنثر عليك من حبقها طيباً وتستقبلك نساؤها المتباهيات بأنهن حافظات التاريخ والجغرافيا وقد تعطرن بشميم الشهداء.
هامات الرجال هنا أعمدة من نور. ابتسامات النساء هنا التماعات فرح لا يغيب عن ظلالها لوعة الفقد: إنهن أمهات الشهداء وأخواتهن. إنهن الصامدات اللواتي توحّدن مع بيوتهن فبقين فيها وانغرسن معها في الأرض لتكون مباركة. السلام عليكن أيتها الأمهات الطاهرات جذورنا الباقيات هنا لا يتركننا ولا يغبن عنا. السلام عليكن جميعاً باسمِك يا أم حسين أيوب.
جنوباً در، جنوباً سر، وانتصر…
لا مجال لأن تضيع منك الطريق. إنها موشومة بدماء الشهداء. من بيروت التي احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء إلى خلدة التي كانت معبراً فصارت مزاراً بعدما أكسبتها دماء الشهداء منزلة القداسة، فإلى صيدا التي أولها «معروف» ومنازلها منقوشة بأسماء الذين حموا حبل الصرة مع جبل عامل فظلت في قلبه عاصمة وظل مداها بتاريخها الذي تعلمنا فيه شرف الهوية.
بغير قصد تنتبه إلى أن هامتك قد غدت أطول وأن رأسك قد ارتفع حتى دانى الغيم، وأن عينيك تتوهجان بقبس من نور الشهداء.
تتلعثم وأنت تقف أمام هذا الجمع هنا:
من أين يأتيك الكلام وكل مَن في عيناثا قد أخذ من اللغة بيانها شعراً، وأخذ من الأرض قداستها بالدماء التي تجاوز في طهارتها النص الإلهي…
في هذه البلدة تشتد المنافسة بين الشعراء الذين ولّدوا الشهداء وبين الشهداء الذين علّمونا الشعر. ليس في جبل عامل من النثر إلا ديوان الأرض المطهرة بأرواح الذين غادرونا ليسكنونا من دون أن يتخلوا عن مهماتهم واجبة التنفيذ.
…وقد عرفتُ عيناثا، مبكراً، بعنوان واحد من أئمة الصمود بنور العلم وهداية الدين الحنيف. إذ أسعدني زماني بأن جلستُ أقبس المعنى من سماحة السيد محمد حسين فضل الله، الإمام علماً وديناً.
بداية في النبعة، ثم في البيت الذي استهدف فيه بعملية النسف الإجرامية، ثم في البيت الجديد الذي كان أرحب في استقبال الأسئلة وفي الإجابة على أسئلة طالبي الهداية والمعرفة بشؤون الدنيا من دون مغادرة رحاب النص المقدس والتصادم معه.
وأشهد أن لعيناثا فضلاً عظيماً عليّ: لقد أعادت إليّ الإيمان بأن الدين لا ينفصل عن الأرض لأنه يعيش بها وبأهلها وليس بالعبادات وحدها، وأن الجهاد من صلب الدين وأن التحرير هو صميم الإيمان.
على أن عيناثا التي تتبدى بلدة متواضعة قد رفدت الثقافة، أدباً وشعراً، نصاً دينياً وغزلاً رقيقاً، وقصائد في الجهاد بوصفه عبادة، بأكثر مما أعطت المدن التي جعلها تمددها وغناها بالمواهب الوافدة عواصم للثقافة.
ولن أتورط في تعداد الشعراء والمؤرخين والمفسرين والشراح حتى لا أستهلك الوقت، وأكتفي بالإشارة إلى أن شهادتي مدموغة بإرشادات راعينا هنا كما في بيروت السيد حسن فضل الله ودواوين زاهي وهبي ومقدمات مريم البسام التي ترسم لوحة كاريكاتورية للحياة السياسية في لبنان وتوقيع المحرر السياسي حسين أيوب.
على أن الشكر واجب… فلقد انتشلتنا هذه الرحلة من خمود الحياة السياسية واندثار العمل النقابي وضياع الدولة البلا رأس، وقادتنا إلى حيث لكل شبر روايته البطولية… فعلى بعد أمتار من هنا، خيضت في مثل هذه الأيام من صيف 2006 معركة حقول الزيتون في مربع عيناثا ـ بنت جبيل ـ مارون ـ عيترون. المعركة التي منعت الإسرائيلي أن يحتفل برفع علمه في المدينة التي أعلنها قائد النصر مرة ثانية وثالثة السيد حسن نصر الله عاصمة للتحرير.
على بعد أمتار سقط علي أيوب (أبو حسن) شهيداً قبل 42 عاماً، وإلى جانبه وجدت مئة طلقة فارغة هي مجمل ذخيرة بارودته التشيكية. وهنا في عيناثا جارة بنت جبيل، لطالما تنقل «الأخضر العربي» أمين سعد من بيت إلى بيت آخر، مجنداً المقاومين في الزمن الذي كانت فيه المقاومة شبهة وتهمة.
أما بعدما منّ علينا الله بالقيادة التاريخية لحزب المقاومة ومجاهديها السيد حسن نصر الله فقد بتنا أعظم ثقة بالنصر وبالغد الأفضل.
وها أن معالم هذا الغد تتبدى على امتداد الأرض التي روتها دماء الشهداء، في معنى أن تكون من الجنوب وفيه وفي معنى أن تكون من المقاومة ومعها…
حمى الله هذا البلد الأمين بأهله…
مع الشكر والتحية لبلدية عيناثا برئيسها السيد عباس خنافر والأعضاء، ولعموم أهالي هذه البلدة الصامدة بين عناوين النصر لجبل عامل الذي افتدى لبنان والأمة بقدر ما كبُر بهما ولهما.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[ «كلمة ألقيت في الاحتفال الذي أقيم في عيناثا لتكريم أبنائها الإعلاميين وأهل الإعلام عموماً…»
عيناثا 9 آب 2014
قاعة مسرح الانتصار
موسى طيبا يسبقنا إلى بنت جبيل ويرسمنا من فلسطينه…
…ولكننا على موعد جديد في بنت جبيل يا موسى طيبا، هل تُراك نسيت؟ هل أخذتك منا الضاحية الباريسية الجميلة، شارتر، واندفاعك إلى الرسم على الزجاج لتؤكد جدارتك ـ جدارتنا بتزيين الحياة بضروب الجمال، إبداعاً في اللوحة والقصيدة والرواية والقصة والغزليات التي تعيد رسم الحياة بخيوط من نور القلب ودمع العين؟
في الموعد الأول كنت رائداً، تقدمت الجميع لتنفي عنك التهمة الشائعة: انك لا تهتم بالسياسة، وانك ـ لسذاجتك ـ تفترض انك تعرف ما سيكون فلماذا الاهتمام بالأخبار المجتزأة عن أحداث لما تكتمل؟
ولقد فاجأتنا، بعد شهر من نهاية حرب تموز (أي في أيلول 2006) انك ستقيم معرضاً للوحات أنتجتها عن المقاومة وأبطالها في مواجهة العدو الإسرائيلي، وانك قررت ان تكون ثانوية بنت جبيل «أرض المعرض»… ابتسم بعضنا، وقال بعض آخر: هذا الساذج سيفعلها.
التقينا، وزير الثقافة، آنذاك، طارق متري، وأنا أمام باب الثانوية، وكنت في الداخل مع عشرات من الأهالي، رجالاً ونساء، وقد ارتدوا ملابس العيد، وعلى وجوههم ابتسامات وادعة: البطولة تنفر من الضجيج وقرع الطبول.
«تقدمنا موسى طيبا ليشرح لوحاته الخمسين التي أنتجها في مدة قياسية وبأسلوب جديد مزج فيه بين الرسم والتصوير والوقائع اليومية فأعطى ما يشبه يوميات الحرب الإسرائيلية على لبنان، بوحشية العدو قاتل المدارس والمستشفيات وأصص الحبق والورد على شرفات البيوت الأقدم من وجوده العابر والباقية بعده…
توزع الناس يقرأون حكاياتهم في الجدارية الكبرى، ثم التفاصيل في اللوحات التي غطت جدران القاعة… كانوا يتطلعون إلى اللوحات ثم يستكملون الحكاية بالتفاصيل التي لن ينسوها. كانوا كأنما يشاهدون وجوههم فيها، وملامح أولئك الذين غيبتهم وحشية العدو، وإن ظلت أرواحهم ترفرف من حول المدرسة التي باتت شاهداً على النصر، بقدر ما هي بتلامذتها الستمائة شاهد على هزيمة العدو…».
… ويوم السبت الماضي قصدنا، يا موسى، عيناثا التي تسند رأسها إلى بنت جبيل وتحمي بصدرها مارون الرأس وتصدّ بنيرانها وبيوتها وحجارتها والأسماء الحسنى لشهدائها أرض الشهادة في جبل عامل. ولقد أردت زيارة الثانوية في بنت جبيل ولكنك لم تكن معي، فارجأت الموعد حتى تعود. وهاك تقريراً عن رحلتي في غيابك:
[ [ [
ضاقت عليك شرنقة أحزانك. تتهاطل عليك عبر الشاشات وأصوات القصف في غزة، براً وبحراً وجواً، دماء أهلك ومعها أحلامك السنية. تتهاوى اعلام انتصارات ناقصة مع بدايات «الثورة» قبل نصف قرن، سرعان ما انقلبت إلى هزائم ساحقة للأحلام والآمال والتمنيات، لأن أنظمة القمع والمقاتلين الذين أغوتهم المدينة بسحرها، اضاعوا الطريق ومعه الهدف.
تذهب إلى العمل، تجمع قصاصات ماضيك الذي اغتال مستقبلك واستبقاك رهينة المستحيل الذي تعرف أنه لن يأتي، ومع ذلك تتلبث منتظراً وقوع معجزات ينكرها عقلك ولكنك تستبقيها لأحلامك في يقظتك بعدما استحال عليك النوم.
قم فاخرج إلى حيث الهواء قد استعاد شميمه المنعش من المباركة الأرض المغسولة بدماء الشهداء… لتكن القبلة وجهتك، واندفع حتى جنوب الجنوب حيث الحد الفاصل بين الخطيئة والمجد،
تحفظ معالم الطريق عن ظهر قلب، وتعرف القرى بأسماء الذين أعطوها قداستها. ترفع يدك بالتحية للذين غادروا واستبقاهم الوجدان، بأسمائهم وأطيافهم، أدلاء إلى الغد الأفضل. تعبر البلدات والدساكر والقرى مترنماً باستذكار المواجهات التي حقق فيها أولئك الفتية أطرافاً من الحلم: قاتلوا في طلب الجنة فكانت لنا الأرض مطهرة.
تغادر صيدا التي لا تغادرك ويفتح لك جبل عامل ذراعيه، وتطالعك الشرفات بأصص الورد فيها. لكل منحنى كمينه، وعند كل منعطف مواجهة مع «الوحش» الذي تعوّد أن يهرب من مواجهته الأهالي المستضعفين والمتروكين للريح.
تدق أذنيك أخبار البطولات في غزة. ما أقدس الدم الذي يهزم الدبابات ويكاد يطاول الطائرات فيصد صواريخها.
الأرض فقيرة إلا بأهلها. لقد خضروا التلال التي ترابها من حوارة. استنبتوا الصخر ياسميناً وورداً أحمر، وابتنوا بيوتاً أنيقة بنوافذ مفتوحة على المدى الذي مات فيه الخوف. الكل يخرج من «الخلة» في قلب الوادي إلى المطل الأزرق المشرف على المباركة فلسطين. لقد آن له أن يمتع بصره بصور «الجبابرة» الذين عادوا إلى أحجامهم خارج الأسطورة، متصاغرين في قوقعة الخوف. صاروا هم يختبئون من عيونه. يدارون أن يكشف جبنهم.
ترتقي البيوت التلال، وكل يتطلع نحو الأعلى. كلهم يريد ان يبدأ صباحه بمشهد من فلسطين فيتبارك بشميمها ويملأه شعور بالسعادة: لقد استحق أرضه. لطالما أعطته، وهو يعيش حالة من الغبطة بعدما رد لها شيئاً من جميلها وأثبت جدارته بأن يكون ابنها مصيره فيها ومصيرها في يده.
تتوالى القرى وقد جددت شبابها وأضفى عليها أهلها الذين عادوا إليها ليبقوا شيئاً من الأناقة المؤكدة بكلمات أجنبية طارئة يصعب على الأجداد حفظها لكنهم يعرفون أن أحفادهم الذين يبتدعون المعنى لن يغادروا مرة أخرى. سيسافرون، لكنهم لن يهاجروا فيهجروا أهلهم وأرضهم والهواء المعطر بشميم المباركة فلسطين.
كل سبت يزحف إلى الجنوب آلاف الآلاف من ابنائه. سيمضون ليلتين مع أهلهم الباقين فيها في البيوت التي أعيد بناؤها مرة ومرتين وثلاثاً، قبل أن تتحول ركاماً، بل إن بعضها صار مقابر لأولئك المغروسين في أرضهم لا هم يغادرونها ولا هي تغادرهم وهكذا تصير الشهادة جماعية… ولكنهم الآن يعرفون انهم لن يغادروها أبداً ولا هي ستغادرهم.
نعبر القرى والبلدات متمهلين، ثم تتوالى المدن والقصبات حتى إذا بلغنا «صف الهوا» كان لا بد من استراحة مع بعض روايات البطولة في حرب تموز: بنت جبيل، عيناثا، مارون الراس، في كل بلدة روضة للشهداء. كيف يغادر الأبناء أطياف هؤلاء الذين منحوهم شرف الحياة بجبين عالٍ، وقدموا النموذج والمثال في تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر؟! لقد سمعوا فسجلوا عويل جنودهم ونداءات الاستغاثة! احترقت دباباتهم فجاءت الحوامات لنقلهم بينما المدفعية ترجم المنطقة جميعاً لتفتح طريقاً في الفضاء المن نار للذين سقطوا ـ بجبروتهم عند أبوابها وفي ساحاتها.
في طريق العودة كانت القصبات والقرى منورة بأسماء شهدائها. لكل قرية وبلدة في النصر المخضَّب نصيبها… وكل بيت من بيوتها شاهد وشهيد.
نرقى إلى المطعم الذي اختيرت له أعلى تلة في مارون الراس. يأتي من يعرّفنا إلى «القرى التي كانت لنا فأخذت قهراً». يشرح لنا بعض من قاتل حتى النصر المسالك والطرق التي عبرها «العدو» في القدوم مزهواً وفي العودة مدحوراً.
ما يزال للأرض اسم المباركة فلسطين. الأسطورة لا تبني أوطاناً. الناس هم بناة الأوطان.
يهتف بنا بعض الفتية: دعونا نلتقط لنا بعض الصور التذكارية. في الحرب المقبلة سوف تلتقطون لنا صورنا هناك، مع أهلنا في المباركة فلسطين.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ حبيبي من أرض الشعر.. مؤكد أن ديوان العشق من إبداع جبل عامل.. وحين حاولت أن أدفع المهر قصيدة اكتشفت أنني مبتــدئ، وأن الحــب يلعثــمني في هذه المباراة المفتوحة مع مليون عاشق، أما الشاعرات فخارج الإحصاء.