في وداع «ماديبا» الذي صافحناه مرة باسم «روليهلالا مانديلا»
هي مرة واحدة أتيح لنا فيها أن نكون معه في مكان واحد ولوقت يسمح بأن نملّي عيوننا بابتسامته التي يشع بها وجهه فيتبدى قديساً.
هي مرة واحدة تمكنا فيها من أن نخترق أسوار البروتوكول البدوي المحروس بالعسس وأن نتقدم نحوه متهيبين إلى حد الانبهار، وأن نمد أيدينا لمصافحته وكأننا نتلمس أيقونة مقدسة، ونحاول أن نطيل فترة احتمائنا به لعلنا نكسب دقائق إضافية مع هذا الذي سكن وجداننا بطلاً حقيقياً، من لحم ودم وعينين لامعتين وابتسامة مشعة بالأمل.
تحلقنا من حوله صامتين وتركنا لعيوننا أن تتملّى مشهده، بجسده النحيل الذي يكسر صنم «البطل» الذي تعودنا أن نتخيله عملاقاً بقبضتين قويتين وعلى كتفه رشاش ومن حول خصره زنار من القنابل ومسدس يشكه مع حبل الرصاصات ذات الغلاف النحاسي الباهت.
هو من كسر الصمت ليسألنا من أي البلاد نحن وعن أحوالها، بينما ضباط المرافقة يحاولون «بلطف» دفعنا للعودة إلى مقاعدنا بعيداً عنه، وإن ظل في مدى الرؤية.
كيف وقد اغتسلت عيوننا بطلعته ذات الوهج يمكننا أن ننظر إلى أولئك الحكام الآتين إلى «قمة» ستؤكد غربتهم عن مطامح الشعوب التي يحكمون، وقد جلل كل منهم اسمه بألقاب الجلالة والفخامة والسمو والمعالي، وبينهم «قاتل أبيه» أو «خالع زعيمه» أو المتنكر لرفاقه في الحزب الذين أوصلوه إلى السدة فأمر باغتيال بعضهم وسجن الباقين في جحور لا يدخلها نور الشمس وتحتشد في جنباتها الفئران وأصناف البق والنمل الذي لا يتوقف عن مسيرته ذاهباً، عائداً، متخطياً كل الحواجز والمعوقات؟
عدنا إلى مقاعدنا صاغرين، لكن عيوننا ظلت معلقة فيه، تتابع حركاته البطيئة، وتشرب ابتساماته التي تتبدى معها أسنانه البيضاء مشعة فتضيء وجهه الأسمر بلون القمح المحمص.
لم نسمع كلمة من تلك الجعجعات التي أفسد بها القادة المطهمون جو القاعة، والتي يعرفون أنها أكاذيب، وأنها لن تجوز على الناس (شعوبهم)، والتي يخطئون النطق بكلماتها المطهمة ولا يهتمون لحركات الضم والفتح والكسر والسكون لأن أحداً لن يجرؤ على محاسبتهم أو التشهير بجهلهم لغة القرآن الذي طالما استعانوا بآياته محرّفة وخارج مضمونها لكي يبرروا تسلطهم على رعاياهم الغارقين في عجزهم.
قال واحدنا: ما أبسطه وما أقربه إلى القلب.
قال الثاني: إنه أعظم حضوراً من مجموع «أهل القمة» هؤلاء. ثم إنه أعظم ثقافة بما لا يقاس، وأوسع معرفة بالعالم وأحواله والتوازنات الحاكمة فيه.
قال الثالث: صار معي الآن صورة تجمعني بهذا البطل الأسطوري. سأقدمها لأولادي متباهياً بأنني قد صافحته بيديّ معاً.
عاد أولنا يقول: كنا نخاف عليه من منصبه. كيف لسجين الدهر أن يتجاوز آلامه ووجع كرامته التي حاول «النظام العنصري» أن يسحقها حتى لا يكون لأمته قائد يمشي بها عبر المواجهة التي امتدت لثلث قرن نحو الحرية، بعد ثلاثة قرون ونيف من الاستعباد والاضطهاد الذي تجاوز السجن والتهميش والإلغاء بالقتل.
عدنا نحاول قياس المسافة بينه وبين «أهل القمة» الذين شرّفوا اجتماعهم الفارغ من المعنى باستضافته: لا مجال للمقارنة، لا مجال للتشبيه، لا مجال لتقزيمه بحيث يقاربهم بهامته الناضحة بكبرياء التواضع وصلابة الموقف الذي لم تكسره عنصرية العرق واللون.
ولكننا انتبهنا إلى حقيقة ثانية: فأعظم ما في هذا المناضل الفذ أنه استطاع أن يجمع في حومة النضال شعبه جميعاً، وأن يتخفف من الخصومات والأحقاد ومن نزعة الانتقام والثأر، وأن يصمد ـ بنبل إنسانيته ـ لثلث قرن أو يزيد، وأن يظل هو هو بعد الانتصار مقدماً نموذجاً فريداً في التاريخ البشري للتحرر من نزعة التشفي ممن أهان كرامته الشخصية ومجد الانتساب إلى هذا البلد المترامي الأطراف، المتعددة أعراق شعبه، ليجعله وطناً لأهله كما لأولئك الذين كانوا مستعمرين قساة، متفوقين في اضطهاد أهل الأرض، وصاروا الآن أحراراً بفضل تضحيات المظلومين والمقهورين والمنهوبة خيرات بلادهم.
لقد حرر أهل البلاد مستعمريهم من نزعة الاستعلاء باللون وهي أخطر من الاستقواء بالرصاص.
[ [ [
… أما في الجنازة، وبعدما رحل «ماديبا»، فقد جاء العالم ليشيّع هذا الأعظم بإنجازه الوطني ـ الإنساني من مجموع المشاركين في مأتمه، رؤساء دول وأشباه رؤساء وأنصاف ملوك لو أنه رأى حشدهم لهرب منهم حتى لا يؤخذ بشبهة الصداقة معهم.
ولقد احتشدوا في موكبه الأخير جميعاً:
^ قادة أوروبيون من جلادي افريقيا ونهابيها، ورثة العنصريين من قتلة شعوبها بالسخرة والإهانة، في قلب الاطمئنان إلى أن لا حساب على الجرائم ضد الإنسانية ولا عقاب على المستعمرين الذين مزّقوا الأرض في ما بينهم، وزرعوا فيها دويلات هشة على قواعد قبلية، فلما غادروا تفجرت الحروب بين القبائل التي يصعب عليها الاعتراف بحدود بين الأب وأبنائه أو بين الأشقاء وأبناء العمومة… بل انهم سخّروا الدّين ليزيدوا الانقسام بين «أبناء الله» هؤلاء، وصبغوا الأنبياء بالأسود لكي يزرعوا أسباباً إضافية للشقاق والتناحر وابتداع الدويلات التي لا تملك من مقومات الحياة إلا ولاءها لمستعمرها السابق معززاً الآن بالإسرائيلي.
^ ورئيس أميركي «مختلف» بلونه وليس بالسياسات التي لا يملك قرارها. ربما وقع اختياره نفاقاً للناخب الأسود بعد اضطهاد معتق امتد بطول عمر القارة الجديدة، من دون أن يوقفه إعلان جورج واشنطن عتق العبيد، أو ربما تم «انتخابه» في محاولة للتكفير عن جريمة اغتيال ذلك الإنسان النبيل الذي تجرأ فأعلن «أنا عندي أمل»: مارتن لوثر كينغ.
^ ومجموعة من قادة دول أميركا اللاتينية وبعض آسيا، تلك التي أذل الاستعمار الغربي شعوبها جميعاً فنهب ثرواتها الطبيعية وأفقرها، ما جعلها تقف على بابه تتوسل «مساعداته» قروضاً تعيدها إلى الذل وافتقاد المكانة والقدرة على القرار، لأن استقلالها لم يخلصها من الارتهان، خصوصاً أن مواردها ظلت في أيدي المستعمر القديم أو جاء إليها المستعمر الجديد… ولم يكن أمام هذه الشعوب غير الثورة، ثم الثورة، ثم الثورة، للتحرر من الهيمنة الاستعمارية التي أوصلت إلى السلطة ديكتاتوريات كانت أشد وأقسى على شعوبها من «الاستعمار القديم»، وقد جاءت بالدم المسفوح الذي غطى شوارع العواصم، ولم تذهب إلا بعدما جرفها الدم المسفوح للتخلص منها ومن داعميها من أهل الاستعمار الجديد.
[ [ [
«روليهلالا مانديلا»… ومعنى اسمه الأول «كثير الشغب» بلغة قبيلته التمبو، أكبر عشائر الهوسا، وقد لقبه أفراد قبيلته «ماديبا» أي العظيم المبجل الأرفع قدراً بينهم.
قليل من مشيعيه كان يحفظ أقواله التي يحفظها عنه شعبه:
«حريتي عزيزة عليّ، ولكن حريتكم أنتم هي، بالنسبة لي الأهم».
«ليس في نية أحد منا أن يتزوج امرأة بيضاء، وليست لدى أي منا رغبة في أن يسبح في حوض سباحة واحد مع البيض».
«إن لنا طلباً واحداً أساسياً يعرفونه جيداً وهو المساواة السياسية».
أما عند إطلاق سراحه فقد توجه إلى مواطنيه بالقول:
«أقف هنا أمامكم لا كنبي وإنما كخادم بسيط لكم، للشعب»
«إن تضحياتكم البطولية هي التي سمحت لي بأن أكون هنا اليوم».
أما الدروس التي أفادها مانديلا من تجربته الغنية فإنها تجتمع في هذه الكلمات:
الدرس الأول ـ الشجاعة ليست في عدم الخوف، بل في إلهام الآخرين بتخطيه.
الدرس الثاني ـ قد من الأمام.. ولكن لا تترك القاعدة في الخلف.
الدرس الثالث ـ قد من الخلف ودع الآخرين يعتقدون أنهم في المقدمة.
الدرس الرابع ـ اعرف عدوّك واستعلم عن رياضته المفضلة.
الدرس الخامس ـ أبقِ أصدقاءك قريبين.. ومنافسيك أقرب.
الدرس السادس ـ المظهر يحدث فرقاً. وتذكر أن تبتسم.
الدرس السابع ـ لا يوجد شيء أبيض أو أسود فقط.
الدرس الثامن ـ التنحي هو أيضاً أن تقود بشكل ما.
الدرس التاسع ـ خرجت من السجن ناضجاً.
وفي كتابه الذي يحمل عنوان «رحلتي الطويلة من أجل الحرية» يكرر مانديلا بعض استنتاجاته ومنها:
«الحرية لا تتجزأ، فالقيود على أي فرد من شعبي هي قيود على الجميع، والقيود على شعبي بكامله هي قيود عليّ».
أما خلال كفاحه الطويل فقد انتبه إلى حقيقة بسيطة:
«اكتشفت أننا ما إن نصل إلى قمة تلة عالية حتى نجد أن هناك مزيداً من القمم علينا تسلقها».
لكن انتجي كروج كان لها رأي آخر، وقد كتبت أنشودة قرأتها الممثلة ساندر برنسلو في حفل تنصيب مانديلا رئيساً يوم العاشر من أيار 1994:
«نلسن رولي، هالا هالا، منديلا
أنت الذي جمعت الجميع في الأرض الممزقة
أنت الذي خطتّ جروح السود والبيض والملونين
أنت الذي لفتنا إلى بعضنا البعض ليقابل كل منا الآخر
أنت منبع القلوب، أنت شافي الناس
وهكذا سنقيم السلام، السلام أو الأمم العظيمة».
يستحق تحية وداع، من كل الشعوب المقهورة بالاستعمار أو بالطغيان، هذا الذي تابعنا أخباره مناضلاً سجيناً ومقاتلاً بغير سلاح إلا إصراره على حقه في بلاده، وإيمانه بشعبه، ثم رئيساً بغير شبيه استطاع أن يحفظ للجهاد قدسيته، فلا يتنازل ولا يفرط ثم يعصمه النصر من أن ينتقم ويتشفى، ويحمله الاطمئنان إلى نجاح التجربة وثبات النظام الجديد إلى مغادرة السلطة وقد ازداد كبراً، موفراً لجهاده الذي امتد عمراً الخاتمة اللائقة بهذا الرمز الإنساني النبيل.
تهويمات
^ حملك الهواء إليّ، ولم أستطع الإمساك بالهواء، لكنني منذ تلك اللحظة أبحث عن باب الخروج من العاصفة التي تسكنينها والتي تصرّين على أنها الطريق إليك.
^ تغادرين وأبقى أسير ظلك، وتعودين فإذا أنا أسير صوتك. وحين يسود الصمت أغرق في بحره وأرفض أن أتعلم السباحة.
^ هتف بها: اتركي لي هنيهات للنسيان. لقد ملأت الذاكرة حتى فاضت بك وبقيتُ خارجها.
قالت: وماذا تنتظر للدخول؟
^ تروين الحكايات وكأنك الجن يلاعب أطفالاً، فإذا الأمير صعلوك يجتهد لإضحاكك، وإذا الوزير حاجب يمنع الهوام من إزعاجك، وإذا المدير حاجب ببابك، وإذا أنت تجعلين الجميع فريقاً متنافراً في سيرك مذهب يسعى لإمتاعك.. وإذا أنت المدرب والقائد والجابي… وبعد ذلك تتفرغين لاختيار من يؤنسك في أوقات الفراغ، فلا ينجح في امتحانك إلا من امتهن تدريب الشياطين على أصول الرقص… أما حين يقترب الليل من الانصراف فتتفرغين للغرق في نحيب الرباب وهي تستدعي الذين غابوا والذين تصرين على استحضارهم ـ ضاحكين ـ كل مساء.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أجمل الحكايات هي تلك التي لا تعرف كيف بدأت، ولكنك تستذكر التفاصيل جميعاً: الساعة، اليوم، حركة الشمس والهواء، الملابس، تسريحة الشعر، والهمسة الأولى التي فتحت باب حكاية لا يراد لها أن تجد خاتمتها.
أما أجمل المواعيد فهو الآتي، بينما أنت مقيم فيه.