عن سعيد فريحة و«الصياد» والصبا بعنوان جان مشعلاني
قبل نصف قرن تماماً، وصباح يوم لا أنساه، رن جرس الهاتف في منزلي، وجاءني صوت سيبقى في أذني طويلاً:
ـ الأستاذ سعيد فريحة يريد أن يتحدث إليك… لحظة من فضلك.
بعد ثوان جاءني صوت الأستاذ الكبير الذي كنت أتابع، كجمهور واسع من القراء، «جعبته» التي تمثل لوناً نادراً من الظرف في الكتابة الصحافية في لبنان… قال: أود أن أراك، فمتى تأتي إليّ؟… هل يناسبك أن تجيء ظهيرة الغد؟!
أسعدني الاتصال لأسباب عديدة، أولها أنني كنت من المعجبين بالتجربة الناجحة لهذا الصحافي الكبير الذي كان في صباه الأول «صبيّ حلاق» في حلب، يهوى القراءة ويحاول أن يعلم نفسه بنفسه… وحين وصل إلى بيروت تدبر عملاً بسيطاً في بعض المجلات التي يكتبها أصحابها، ثم أخذ يتقدم في المهنة… ويسرت له جرأته وظروف البلاد المضطربة عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية، ان يقترب من رجال كبار في الوطنية والسياسة أبرزهم رياض الصلح الذي شجعه على إصدار مجلة «الصياد» ورعاها، إيماناً منه بموهبة هذا الصحافي الذي تجاوز الصعاب وأكد كفاءته… وهكذا سانده، خصوصاً أن «الصياد» صدرت مع الاستقلال وظلت تحتفل بهذه المناسبة الوطنية على أنها «يوم ميلادها».
دخلت مكتب سعيد فريحة في الطابق الرابع من مبنى دار الصياد (القديم) في الحازمية متهيباً، فاستقبلني مرحباً وقال: كنت أتابعك في مجلة «الأحد»… ثم سمعت أنك ذهبت إلى الكويت فأصدرت لعبد العزيز مجلة. ومؤخراً انتبهت الى أنك تكتب في «المحرر» الأسبوعي. تعرف طبعاً ان هشام أبو ظهر من متخرّجي دار الصياد.
قلت: ليس وحده، بل ان كثيراً من نجوم الصحافة في لبنان قد تخرجوا من هذه الدار.
ابتسم سعيد فريحة ومدّ إليّ يده بعلبة «كنت» قائلاً: أنت صحافي إذن فأنت تدخن.
قلت بلهجة اعتذار: نعم، ولكنني أفضل «الينيجه».
ضحك قائلاً: بين كل من أعرف وحده الرئيس فؤاد شهاب يدخن الينيجه.
قلت بعفوية: وأعرف من «الجعبة» انك تدخن كثيراً.
قال: أما وقد أشرت إلى «الجعبة» فقد سهلت عليّ الموضوع الذي طلبتك لأجله… أريدك أن تتسلم إدارة تحرير «الصياد».
كتمت انشراحي بصعوبة وتمتمت بكلمات شكر… فظن أنني أعتذر عن عدم قبول هذا العرض، فعاد يكرر: أريدك معي هنا في دار الصياد. تعرف اننا نصدر «الأنوار» ومن قبلها كانت «الشبكة» لكن «الصياد» هي الأساس.. ولقد كنت سلمتها، قبل حين، لشاب سمعته طيبة ويوصف عادة بأنه مفكر، ولربما كان من كبار المفكرين، لكنها الصحافة… وأنا أريد صحافياً لتولي مسؤولية «الصياد». وحين عرفت انك قد تركت الكويت بعد تجربتك الناجحة فيها قلت في نفسي ان مكانك الطبيعي في «الصياد»، مديراً لتحريرها، وبراتب مريح نسبياً.
لم أكن بحاجة إلى إغراءات كثيرة لأقبل عرض هذا العصامي الذي بدأ رحلته مع الصحافة من أدنى السلم، ونجح في إنشاء «إمبراطورية» صحافية بالتعب والجهد وحسن قراءة الأحوال والظروف في لبنان وما جاوره من دول شقيقة وصولاً إلى إمارات الخليج التي كانت الكويت طليعتها فنالت استقلالها وباشرت بناء دولتها بخبرات أبنائها معززة بكفاءات عربية وافدة من أقطار عربية عديدة، بينها مصر وفلسطين وسوريا ولبنان بطبيعة الحال.
بعد أيام قصدت دار الصياد ودخلت إلى مكتب «الأستاذ» فرحب بي، وجمع أسرة تحرير «الصياد» ـ وكانت معدودة ـ فقدمني إليهم وعرفني بهم وباشرت عملي. وقد لفتني وجود «زميلة» سأعرف ان اسمها بالأصل اميلي أبي راشد، فلما تزوجت اكتسبت اسم عائلة زوجها فيليب نصر الله فصارت الروائية المميزة التي يعرفها لبنان ودنيا العرب وبعض العالم باسم اميلي نصر الله.
كانت اميلي كاتبة، حقاً، وهي من منبت ريفي، مثلي، ومن قرية تقع على الحد بين البقاع والجنوب، وعلى التخم مع سوريا، وهي مسقط رأس رجل دولة حقيقي هو فارس الخوري، الذي شغل مناصب قيادية في الحكومة السورية في الأربعينيات. أما سائر «الزملاء» فكانوا «عاديين».
كان «خليل الأشقر» يرسم كاريكاتور «الصياد» في حين كان جان مشعلاني يرسم كاريكاتور «الأنوار». وكان الأشقر طيباً، لكنه لا يرسم ولكنه ينفذ ما يطلبه «الأستاذ» الذي يجمع بعض الزملاء فيعرض أفكاراً عن موضوعات محددة، ويستدرج الجميع إلى محاولة ابتداع مواقف ساخرة، ثم يستدعي خليل الأشقر فيرسم الفكرة في الهواء لينقلها خليل إلى الورق من دون أن يعرف حقيقة ماذا يراد من الرسم.
أما جان فكان رساماً موهوباً، صاحب أسلوب في الرسم وفي الوصف الكاريكاتوري… وصرنا صديقين.
كان عصام فريحة يتولى المسؤولية عن «الأنوار»، وبسام فريحة يتهيأ لأن يتولى الإدارة العامة، ويرافق والده في جولاته في الخليج ليتعرف إلى الشيوخ والمسؤولين الذين كانوا، بعد، بسطاء، لم يعرفوا من الدنيا إلا بعض القاهرة وبيروت وعدداً من المصايف في الجبل أبرزها بحمدون وعاليه وحمانا.
سيمضي وقت قبل أن نتعرف إلى تلك الصبية مشرقة الوجه جميلة العينين إلهام فريحة، التي تخطر أحياناً في الطابق الرابع، أو نلمحها عند المدخل، أو في المصعد فنتبادل معها التحية ونحن نغض البصر بينما هي تتأملنا بهدوء.
مرت الأيام، ولم تكن الظروف المادية للدار جيدة… وبالتالي فقد عجز سعيد فريحة، وعجزت معه، عن تطوير «الصياد» بضم صحافيين مميزين إلى أسرتها… وكنت أمضي النهارات وقسماً من الليالي أحاول وأجتهد، أكتب وأعيد كتابة «المادة» التي ينتجها بعض «الزملاء» غير الناجحين.
كان جان مشعلاني يتردد على مكتبي مرة قبل الظهر، ومرة ثانية بعد الظهر.. ونندفع في هجاء أهل الحكم والسياسيين والتندر بما نسمع عنهم، فيكوِّن «جان» الرسم الذي سيبدعه لـ«الأنوار».
كنت مدخناً شرهاً. وسيكارتي «الينيجه» ولم يكن جان يدخن… ولكنه كلما جلس إليّ مد يده إلى علبة الدخان فأخذ سيكارة، فإن طالت الجلسة أخذ سيكارة ثانية.
ذات يوم جاء فجلس وروى لي آخر نكتة، ثم مدّ يده بعفوية إلى علبة السكاير، وسحب سيكارة، فأشعلها ومج منها، فأخذ يسعل… وفجأة انتبه إلى أن العلبة ليست ينيجه، فالتفت إليّ وقال بحدة: «ـ حاج تغيّر دخانك… نزعت لي صدري»!
[ [ [
تركت دار الصياد بعد سنوات ثلاث… لكنني لم أطل الغياب، إذ عدت إليها ثانية، بعد سنة واحدة، وكان الأديب المبدع غسان كنفاني قد انضم إلى أسرة «الأنوار»، في حين كانت اميلي نصر الله قد أصدرت روايتها الأولى «طيور أيلول» التي اعتبرت فتحاً جديداً في عالم الروايات، خصوصاً وقد تناولت موضوع الاغتراب عبر متابعتها سيرة العديد من أبناء بلدتها ومنطقتها ممن هاجروا وطالت غيبتهم، فباتوا يأتون لزيارة الأهل مع بداية الصيف ثم يغادرون في أيلول وقد اصطحبوا معهم بعض من يبحثون عن مستقبل آمن خارج الوطن.
صرنا نختلس بعض الوقت للتلاقي: السيدة اميلي نصر الله، التي باتت أديبة مميزة، وتعددت رواياتها، وغسان كنفاني الذي كان قد أنجز الكثير في «المحرر» وقبل أن يجيء إلى «الأنوار»، إذ عرفنا إلى أدباء الأرض المحتلة في فلسطين ونشر نتاجهم، شعراً ونثراً، رواية وقصة قصيرة، وجان مشعلاني وأنا…
وكانت الصبية ذات الوجه المشرق والعينين الجميلتين تخطر أحياناً فتقف تستمع إلى محاوراتنا، وتسأل، وتسأل وكأنها تريد أن تعرف كل شيء عن كل الناس وكل الموضوعات…
بعد انصرافها كنا نتمنى لها مستقبلاً هانئاً، ونكاد نحسد ـ سلفاً ـ من سيسعده القدر بأن يكون شريك حياتها.
في صيف 1973 غادرت دار الصياد، آخر مرة، وبعد حوالي عشر سنوات من العمل فيها مديراً لتحرير «الصياد»، ومراسلاً بالعاجل من الأخبار لـ«الأنوار»، حاملاً معي التقدير العظيم لواحد من الأساتذة الناجحين في تاريخ الصحافة اللبنانية: سعيد فريحة.
… ولن أنسى إطلاقاً أن سعيد فريحة حمل سنواته الثمانين وجاء إلى زيارتي في مكاتب «السفير» مهنئاً ومتمنياً لي النجاح.
وبطبيعة الحال لا يمكن أن أنسى المبدع العظيم والمجاهد الحقيقي غسان كنفاني الذي نسفته المخابرات الإسرائيلية مع ابنة شقيقته لميس عند باب منزله في ضاحية مار تقلا التي ولدتها الحازمية.
أما الروائية المميزة والمبدعة غزيرة الإنتاج اميلي نصر الله فأتمنى لها العمر الطويل وإنجاز ما في ذهنها وقلبها من فنون القصص والرواية، للكبار كما للصغار، وهي قد أنتجت مكتبة كاملة.
وإذا كان الحزن على فقد جان مشعلاني الذي هده المرض والوحدة فارتحل عن دنيانا بغير مشيعين، وبغير احتفال يليق به، فذلك أبسط شروط الوفاء لصديق عمر.
وأما السيدة إلهام فريحة التي أثبتت كفاءة ملحوظة وهي تتولى المسؤولية عن دار صحافية تنتج إضافة إلى صحيفة «الأنوار» ومجلة «الصياد» مجلة «الشبكة» التي تعتبر رائدة المجلات الفنية، وكذلك مجلة «الدفاع العربي» وغيرها من المجلات المتخصصة، فهي «بألف رجل»، كما يقولون، مؤكدة جدارتها بأن تكون حافظة مجد سعيد فريحة.
آهات عبد الكريم.. ورقص السكارى!
في الحفلة الشهرية الثانية، آخذاً بعادة السيدة أم كلثوم، قدم عبد الكريم الشعار أغنية واحدة: «أهل الهوى»… وهي إحدى روائع ألحان زكريا أحمد لكلمات الشاعر المبدع بيرم التونسي.
تزايد الجمهور الذي جاء مشوقاً إلى استعادة ذكريات شبابه مع الكلمة الشجية واللحن الذي يدغدغ الوجدان فينثره بين الذروتين: الحزن والفرح وكلاهما يأخذ إلى الطرب، وإحياء أيام أو ربما ساعات من البهجة والاحتفال بنعمة الحياة.
صدح عبد الكريم، وتكررت صيحات «الآه» خافتة، ثم أخذت تعلو يرافقها التصفيق، للمطرب العائد إلى جمهوره بجديد لا يطاله القدم، وبفرقة موسيقية من أربعة عازفين يعادلون في تنويعات النغم المنشي أخطر أوركسترا تملأ المسرح بآلات مدوية الصدى والصناجات وأنواع الكمان، واقفاً أمام عازفه أو مرتاحاً على كتفه.
سرت النشوة في الجمهور، وتصاعدت الآهات تطلب الإعادة مرة ومرات، وعبد الكريم «يجود» وصوته يمتد مسكراً ثم يذوب في الكلمات وفي تنهدات العشاق ومجيدي الاستماع بقلوبهم.
… وحين انتهت الحفلة لم يشأ الجمهور أن ينصرف، بل تجمع في مدخل الصالة الضيق واندفع، رجالاً ونساء إلى الرقص.
راقص الرجال نساء لا يعرفون أنسابهن، وراقصت النساء رجالاً لا يعرفن عنهم إلا صحبة النغم وشجن الصوت الجميل وإيقاعات الطرب الأصيل.
نجح عبد الكريم في امتحانه الثاني برغم ما يتضمنه هذا اللحن الرقيق من آهات الفراق ولوعته «حطيت على الخد ايدي وأنا بودع وحيدي… وقلت ساعديني ياعين… ياعين.. وبالدمع جودي».
ونجح الجمهور في امتحان النشوة وقد عبر عنها برقص المتفارقين والمتلاقين بالمصادفة بعد غياب، والسكارى وما هم بسكارى وإنما هي حيلة لاحتضان من كانوا يتشهون الاقتراب منهن ثم يمنعهم الخوف من الصد أو تشجعهم «فوضى الحواس» وضيق مكان اللقاء القصير الذي لن يتكرر!
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ اغضب لحبك من دون أن تقتله، فالغضب انتحار أو إعدام من دون محاكمة.
لا حب بلا تسامح. لا يتنزل الحب من الفضاء، ولا هو يأخذ مباشرة إلى الجنة.
أجمل ما في الحب أنه يتكامل بهمس اللهفة، وغضبة الإخلاف في المواعيد والشوق إلى التلاقي في أحضان النسيان تجديداً لحب جاء بغير موعد ويبقى بغير إذن.