حسومات في القراء والمستمعين.. في معرض الكتاب!
يهجر العرب القراءة إلى… الفراغ!
الطريف انهم يبررون، لأنفسهم، تناقص عدد القراء، وبالتالي »كساد« الكتب، وضآلة توزيع المطبوعات عموما، بثمرات الثورة العلمية العظيمة التي وفرت هذا التقدم غير المسبوق وغير المحدود في عالم الاتصال والمواصلات.
الأطرف انهم يتدفقون بنشوة في حديثهم عن تحول العالم الفسيح الى »قرية كونية«!
كأنهم هم المبدعون، وأصحاب الفضل في الثورة ونتاجها الخطير!
أو كأنهم يفيدون منها، فعليا، بقدر ما يثرثرون ويتوهمون و»يفشطون«!!
أو كأنهم أسياد تلك القرية الكونية، أو أصحاب دور فيها، أو شركاء في إقامتها، أو مستفيدون مجرد مستفيدين من الواقع الجديد!
فأما الوقت فيملكون منه أكثر مما ينبغي بدليل اهتمامهم بأنواع المسابح التي يجمعونها ويتبادلونها كهدايا لقتل الوقت.
… وهم يحارون في المفاضلة بين مسائل قتله من النوم الى لعب الورق الى جلسات الثرثرة في المقاهي أو تبادل الزيارات بغير مناسبة والمقايضة بالأخبار البائتة والنكات المستهكلة، لا سيما الجنسية منها، تحت عنوان: إشغال الوقت الفائض على حاجتهم، والذي لا يدرون ماذا يفعلون بسيفه المسلول، تمثلاً بالمثل (!!) القائل: الوقت كالسيف إن لم تقتله قتلك!
لماذا هذا الكلام، وما مناسبته؟!
مناسبته معرض الكتاب في بيروت، وهو برغم الجهود الطيبة المبذولة لانجاحه يتحول إلى »معرض« للفرجة والتحسر أكثر منه مهرجانا للثقافة، كما هو القصد الأصلي منه، وكما كان لسنين خلت.
ان المبيعات تتراجع سنة بعد سنة.
وليس العيب في النتاج المعروض، أو في الكتب الجديدة.
إنما العيب في »الجمهور« وتحديدا في جيوب الجمهور، وفي اهتماماته الطارئة التي أخذته بعيدا عن الكتب والأفكار والفلسفات التي لا تطعم خبزا.
كانت الصورة الأبهى الراسخة في الذهب هي تلك التي تجمع فيها يد خشنة بين الصحيفة (أو الكتاب) وربطة الخبز.
أما حين تغدو المفاضلة بين الكتاب (والصحيفة) ورغيف الخبز فالخيار معدوم!
لقد تناقصت القدرة الشرائية للجمهور بوتيرة عكسية مع تصاعد كلفة الكتاب والمطبوعات عموما، فبات منطقيا ان تتراجع المبيعات.
وكان يمكن ضبط نظرات الحزن والانكسار في عيون »الجمهور« وهو يدور كالسكران بين الواجهات العديدة لدور النشر الكثيرة، حيث تشده الأغلفة الجميلة والعناوين الجذابة والأسماء اللامعة لكتابه الأثيرين، لكن اليد تبقى قصيرة ومغلولة، والمعادلة الظالمة تفرض عليه الانصراف سريعا وقبل ان يسقط في الغواية والاغراء فيدفع ثمن الرغيف في ورق قد يغذي العقل لكنه لا يسد جوع المعدة!
في بيروت، ومن قبل في دمشق وفي القاهرة، كان يمكن استعادة المشهد نفسه: آلاف من المتشوقين للقراءة يجيئون من البعيد فيجولون بين الواجهات المزركشة بالمؤلفات المفيدة ثم يكتفون بالقليل القليل مما يحتاجونه ويريدونه، قبل أن ينصرفوا وهم يجرون أذيال الحسرة!
حتى الحسومات، وسواء كانت مخادعة أم حقيقية، لم تعد لتزيد كثيرا من حجم المبيعات.
فما زال الكتاب أغلى (أو أعلى سعرا) من أن تطوله اليد المغلولة بمحدودية الدخل.
الأغنياء في العادة لا يشترون.
و»المثقفون الكبار« يدعون أنهم يفضلون قراءة الانتاج العالمي، مهما غلا ثمنه، لأن الثقافات المحلية لا إبداع فيها ولا استشراف للآتي.
أما الفقراء فلا يملكون ما يكفي لممارسة هذا الترف!
ومع تناقص المشترين يكتسب المشهد، في المعرض، ملامح كاريكاتورية: يُنزل الكتاب الناشرين، وقد تحولوا الى ما يشبه أصحاب الدكاكين، الى الناس متصاغرين، يحاولون إغراءهم بالحسومات، فتظل الغلة أقل من المأمول والمرتجى.
على أن الأطفال يظلون »قطاعاً« مهملاً، لا يحظى بالاهتمام الكافي، مع أنهم »وسطاء« ممتازون للترويج، فالأهل لا يضعفون إلا أمامهم.
لكن المعروض، وبمعزل عن ندرته، ليس في المستوى المطلوب.
وانها لمأساة، بل هي فضيحة، ان يكون المهتمون والمعنيون بل والشغوفون بالكتابة للأطفال بمثل هذه الندرة.
وتكتمل المأساة حين يخطر ببالك أن تقارن النتاج العربي للأطفال بنتاج الشعوب الأخرى في العالم »المتقدم«.
وما دام الحديث حديث مواجع فلنصل الى خاتمته:
والخاتمة تكتسب ملامحها القاتمة في تلك القاعة المخصصة للمحاضرات في بعض جنبات المعرض، وهي قاعة محدودة المساحة، ومع ذلك فنادرا ما تمتلئ مقاعدها، برغم ان إدارة النادي الثقافي العربي تبذل أقصى الجهد في استضافة المحاضرين من أصحاب الأسماء الممتازة والسمعة الأدبية والفكرية الطيبة، كما في توجيه الدعوات و»مطاردة« المدعوين!
قل لي كم تقرأ أقل لك من أنت…
لا ضرورة. لقد عرفتك عربيا!
فؤاد مطر يخرج جديداً من كنوزه السودانية!
الكنوز المخبوءة عند فؤاد مطر أكثر من أن تحصى، خصوصا وانه واحد من قلة من الزملاء الذين عملوا بمنهج: فكل لقاءاته مسجلة، ومفكراته الغنية بالعناوين وأرقام الهواتف في العواصم العربية جميعا تكاد تضم أسماء النخبة ممن حكموا أو عارضوا على امتداد ثلث قرن أو يزيد… وهو لم ير بأي منهم عابرا، ولم يخرج من لدن أحدهم خالي الوفاض. ولأنه غاية في الأمانة والدماثة فقد استأمنه الكثير من هؤلاء الزعماء والساسة، رؤساء وأمراء ووزراء، على بعض أسرارهم، وكلفوه أحيانا بأدوار تتخطى نطاق الصحافة الى إيصال الرسائل أو التوسط أو أداء الشهادة حين يتوجب أداؤها.
كتاب فؤاد مطر الجديد عن السودان، وهو يؤرخ لفترة لاحقة على كتابه الممتاز الذي رصد فيه التحول الدموي البارز لحكم جعفر نميري وأدى الى صدامه مع الحزب الشيوعي السوداني، وهو صدام دفع السودان دماء غالية نتيجة له وربما انه ما زال يدفع.
الكتاب الأول كان يحمل عنوانا ملفتا: »الحزب الشيوعي السوداني نحروه أم انتحر..«، وقد أصدره زميلنا صاحب التجربة الغنية في بداية السبعينيات،
أما الكتاب الجديد فيكاد يشكل »حلقة ثانية« في المأساة السودانية المفتوحة، إذ يضم ما يمكن اعتباره محاضر رسمية لمشروع المصالحة التي بدأت ثم لم يقدر لها أن تصل الى خاتمتها المرجوة بين جعفر نميري وحزب الأمة بقيادة الصادق المهدي.
لولا بعض التفاصيل لحسبت نفسك تقرأ في وقائع هذه الأيام، وتحديدا في مجريات »المصالحة« الجديدة التي باشر عقدها الرئيس السوداني الحالي الفريق عمر حسن البشير مع الصادق المهدي ذاته، وبعد نحو ربع قرن من تلك التي بوشر بها ثم لم تكتمل فصولاً.
فؤاد مطر في كتابه الجديد يثبت كما في كتابه السابق، كم هو قريب من السودان والقيادات السودانية وكم هو خبير في أموره وكم هو مؤتمن من قياداته، وبالذات الصادق المهدي الذي أضاف الى زعامة طائفة الأنصار (حزب الأمة) التي ورثها عن أسلافه، عصريته ودهاءه وبراعته السياسية الفائقة.
أخطر الدروس التي يفرض عليك كتاب فؤاد مطر الجديد استخلاصها ان التاريخ يعيد نفسه، باستمرار، في منطقتنا لأن أحدا من قادتنا لا يريد التعلم من تجربته، وأن كلاً يصر على تكرار تجربة غيره وغالبا بالأخطاء نفسها فينتهي إلى تجديد المأساة.
وبين المصالحتين، وكلتاهما يصح التساؤل عما إذا كانت قد »انتكست ام انهم قد تسببوا بانتكاستها؟«، يكاد يضيع السودان، دولة وشعبا وأرضا ونيلاً هو في السودان فقط نيلان، لكنهما ومع الأسف لا يجدان من أهله الجهد الكافي، وربما الوقت الكافي، والاهتمام الكافي لاستثمارهما والانتقال بالسودانيين الطيبين من حال العوز، بل الكفاف الى الغنى، بفضل هذه الثروة المائية العظيمة التي يمكن ان تحيل تلك الأرض الهائلة الامتداد إلى جنائن معلقة وإلى مصدر للانتاج الوفير يدخل السودان إلى العصر، والى شيء من الرفاه المرتجى أو المشتهى ولو بالتمني!
زيارة إلى الفتى داخل الغبار
مشى إلى المنزل القديم متعجلاً، كأنما يخاف أن يخدش الصورة الجميلة المختزنة، او يفرض ظله المتهدل على محاولته استعادة صورته فتى.
والفتى يستدعي الفتاة والايدي المتشابكة فإذا ما انفك عقدها اندفعت الى المعابثة وتدفق الدم الى الرأسين الصغيرين فضاع العقل أو كاد لولا الخوف اللاجم لشهوة امتحان ما لا يحتاج الى برهان.
انعطف من الساحة في طريق جانبي، تتقدمه الذكريات ويستحثه خوف الربط بين وجهه وبين الصورة العتيقة.
لم يكن ينتظر ان يرى أحداً، ولا هو كان يحاول أمراً بالذات.
كان يسعى الى لقاء مع ذلك الفتى الامرد المميز بسمرته الدالة على غربته، ومن ثم يا للغرور على فرادته!
كان يعرف انه لن يجدها، فالماضي لا ينتظرنا على ناصية المستقبل.
الماضي شبكة من خيوط العنكبوت تتداخل في الذاكرة ثم تتهادى تحت ضغط الحاجة الى النسيان. لا يستعاد الماضي ولا يعاد ولا هو يعود.
تساءل: انه ليس في طريق العودة الى ما كان، فإلى أين اذن؟
لعله في طريق الخروج النهائي من الذكرى الى عبث النسيان.
البيت… لم يتبق منه إلا مثل ما تبقى في ذاكرته عنها!
الساحة الفسيحة ما زالت مسكنا للفراغ، لكن محيطها تبدل… قامت بيوت جديدة اعظم أناقة توحي بغنى مستجد لسكان آخرين!
اما البيت فبات هيكلا بغير رأس… وبغير قلب!
السلم الرخامي الأنيق الذي يوحي بمجد غابر قائم، بعد، لا يوصل الى مكان. لقد اقتطع عن جسده، وبدل غبار الأقدام نبت عند أطرافه حشيش الفراغ والهجران.
الابواب منهوبة، والفراغ جراح ملئت على عجل بأحجار الباطون، فغدت أقرب الى القبور الواقفة.
طار سقف القرميد وطار المخبأ الذي كان عشهما الآمن، ولو أنه عار من الأثاث، والحركة فيه محفوفة بمخاطر السقوط. من عنده الوعي ليسقط؟! من عنده الوقت ليسقط؟!
كان للبيت مدخل ثان الى الشقة الثانية فيه، الفارغة شتاءً من السكان، والتي كان مفتاحها عندها، وكانت ذريعتها ان تأتي كل اسبوع للتفقد ونفض الغبار.
لكن الغبار ملجأهما… ولطالما سعدا بأن يغرقا في بحر الغبار الدافئ!
لا ابواب. لا سقف. لا تتخيتة. لا غبار. لا خطر سقوط. لا خطر تنصت. لا خطر من انكشاف أمر الفتى، او أمر الفتاة… او أمر هذا الثالث الذي يولد من لقائهما.
ماذا تفعل هنا. هيا ألق النظرة الاخيرة على فتوتك التي كانت، وابحث عن خطر جديد في عباب غبار العمر الذي يرسم آثار خطوك على الطريق!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
في القصر المذهّب الرياش، الهائل الفخامة، بهرني العز، وأخذتني روعة البناء وجمال الموقع وحسن التنسيق بين الألوان، ولكنني حين سمعت الهمسة ذات البحة الآسرة: »حبيبي«، نسيت ذلك كله واندفعت إليه كأنني أحتمي به من الغواية، وأتحصن بالدائم والذي لا يفقده الزمن وهجه المقدس… وأحسست بأنني أغنى من صاحب القصر، فلن يعوضني الذهب روحي، ولن تنفعني الرياش الفخمة في بناء سعادتي التي تقع في نقطة وسط بين اللمسة الحانية والهمسة التي تتزاوج مع البحة لتليق بصوت القلب الذي يتخذ صورة حبيبي.
طلال سلمان