فلسطين والعروبة والإسلام السياسي: احفظوا غدكم!
وعَينا، كجيل، على الدنيا وفلسطين تختصر المقدسات جميعاً وتختزل الشعارات النضالية بالمطلق: هي العروبة، وهي الحرية، هي الانتصار على الاستعمار، هي التقدم، هي العدالة الاجتماعية، والأهم: انها الوعي بالذات والإيمان بالهوية الجامعة، تتوحد فيها الأديان والطوائف والمذاهب، العناصر والأعراق جميعاً.
ولقد أكد التلاقي في ميدانها عندما اجتاحها الإسرائيليون، 1947 ـ 1948، أن سرها المقدس قادر على تذويب الهويات القطرية… فإلى جانب الكتائب العسكرية التي جاءت من مصر والعراق وسوريا والأردن ولبنان، تدفقت جموع المتطوعين من ليبيا وتونس والمغرب، وتمكن بعض المجاهدين الجزائريين من اختراق سور الفرنسة والمجيء إلى الأرض المقدسة… وبالمقابل وصل مجاهدون من بعض أنحاء الجزيرة والخليج، قبل الحديث عن مجاهدين جاءوا فرادى من بعض الدول الإسلامية كالهند، قبل إخراج المسلمين فيها إلى دولتهم باكستان، ومن اندونيسيا وأفغانستان… إلخ.
تلاقت العروبة مع الدعوات الجهادية مع النزعة الإنسانية إلى رفض الظلم واقتلاع شعب من أرضه وتاريخه لحساب مجاميع من البشر الذين كانوا مواطنين طبيعيين في دول أخرى، ثم جندتهم المنظمات الصهيونية واستقدمتهم بتسهيلات استثنائية شاركت في تقديمها دول الاستعمار القديم في أوروبا، فرنسا بريطانيا، هولندا، بلجيكا، مع دولة كل الدول التي حسمت الانتصار على ألمانيا النازية وفرضت هيمنتها على القرار الدولي، الولايات المتحدة الأميركية… بل إن الاتحاد السوفياتي قد اندفع ـ حتى لا تفوته السوق ـ للمساعدة في تحقيق المشروع الصهيوني بذريعة تعويض اليهود عما نالهم من اضطهاد على أيدي النازية.
كانت الدول العربية طرية العود هشة التكوين بعد، وأعجز من أن تواجه مثل هذه الحملة الدولية التي تذكّر بالحروب الصليبية وما لاقته على الأرض العربية وهي في طريقها إلى استعمار بلادنا بذريعة استنقاذ بيت المقدس من أيدي الهمج والبرابرة المسلمين الذين يحتلونه.
وكما الحملات الصليبية فإن الحملة الصهيونية كانت مهّدت لانطلاقتها قبل عقود بمحاولة شراء التأييد العثماني، ثم بإدماج مشروعها بالمشروع الاستعماري الجديد لتقسيم المنطقة، والمشرق تحديداً، عبر اتفاق سايكس ـ بيكو الذي وجد ترجمته في وعد بلفور… قبل أن يفتح الاحتلال البريطاني لفلسطين أبوابها للمستوطنات اليهودية التي باشرت نهش الأرض المقدسة منذ العشرينيات.
ولم يكن ثمة تناقض أو روح مخاصمة وعدائية بين هذه العروبة والإسلام السياسي الذي كان محدود التأثير، آنذاك، وإن استمر يميّز دعواه عن العروبة.
كانت العروبة، ولا تزال دعوة للوحدة بين مكونات المجتمعات العربية كافة.
أما اليوم، فإن الإسلام السياسي قد صالح أو هادن القوى الأجنبية التي غالباً ما يطلق عليها تسمية «الإمبريالية» ليواجه عدوه الأوحد: العروبة.
وها إن الإسلام ينذر بإعادة تقسيم هذه المجتمعات على أساس ديني، فاتحاً الباب أمام تقسيمات أدهى تطال العناصر والأعراق فإذا أهل هذه البلاد أمم شتى لا يربطها رابط من التاريخ والجغرافيا فضلاً عن وحدة المصير حاضراً ومستقبلاً.
بل إن الإسلام السياسي، كما تنذر بشائر وصوله إلى السلطة في أكثر من قطر عربي، يتبدى تقسيمي النزعة، يبدأ بالمسلمين فيقسمهم طوائف متنابذة مقتتلة، ويُخرج من فيء الدين الحنيف من يختلفون مع طروحاته السياسية.
أما غير المسلمين فيرميهم بالكفر ويكاد يُخرجهم من الوطن بل من ديار المسلمين باعتبارهم من المشركين، فإن خفض أحكامه فهم أهل ذمة لا حق لهم في الشراكة في الوطن ولا في تولي المسؤولية كمواطنين.
[ [ [
لم يكن الرأي العام العربي معادياً للإسلاميين بالمطلق. ربما كانت لهم، تاريخياً، مشكلة مع بعض الأنظمة الحاكمة التي غالباً ما صادموها فصادمتهم، كما في تجربة جمال عبد الناصر في مصر، مثلاً.
لقد قبل الرأي العام العربي الإسلاميين كفصيل أو فصائل سياسية، وإن أخذ عليهم تسترهم وانعزالهم وتفضيلهم العمل السري. وحين حملوا راية فلسطين رحب بهم حتى وهو يشتبه في أنهم إنما يزايدون على القيادات والأحزاب القومية، من عبد الناصر إلى حزب البعث وحتى حركة القوميين العرب التي كانت فلسطين روحها ومنطلقها ومنبت العديد من قياداتها المؤسسين.
ومن أسف أن المزايدات السياسية قد تعاظم تأثيرها في القوى والتنظيمات الأخرى فأضرت القضية إضراراً عظيماً وقدمت للعدو الإسرائيلي مدداً مؤثراً، إذ بدا الشتات العالمي موحد المشروع والقيادة في دولة إسرائيل التي غدت أقوى دول المنطقة، بينما تفرقت الأمة الواحدة دولاً محتربة وقوى سياسية مقتتلة تحت رايات فلسطين التي باتت حطاماً.
[ [ [
ما علينا من الماضي وشجونه، فلنلتفت إلى الحاضر وهمومه.
إن الإسلام السياسي يتصدّر الآن موقع الحكم في أكثر من دولة عربية، الأخطر مصر طبعاً، ومعها تونس والسودان الذي ضحى حكمه الإسلامي بجنوبه من أجل السلطة.
ثم إن الإسلام السياسي يحكم غزة بعدما فصلها، عملياً، عن الضفة الغربية التي تخاصمه ويخاصمها.
ولقد شهدنا جميعاً نجاح «المساعي الحميدة» التي بذلتها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، لوقف الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، والتي توجتها بالنجاح في القاهرة حيث رعى حكمها الإخواني «الهدنة» الجديدة بين حماس والعدو الإسرائيلي…
بينما لم نر من هذا الحكم حماسة فعلية لإتمام المصالحة بين «النظامين» الحاكمين في كل من رام الله وغزة… وإن شهدنا بالمقابل حماسة عظيمة من قطر ـ مركز التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وقيادته ـ لتحويل الإمارة الإخوانية في غزة إلى منتجع يضارب على مونتي كارلو!
[ [ [
علينا أن نقولها صريحة: إن المشروع الإخواني ـ السلفي يستهدف العروبة كعدو أول وأخير.
إنهم يقاتلون في مصر الوطنيةَ المصرية التي تتضمن العروبة وإن لم تجهر بها في شعاراتها، كما في المشرق..
وهم يقاتلون العروبة في سائر أقطار المشرق، من لبنان إلى سوريا ومن العراق إلى اليمن من دون أن ننسى البحرين… ومن دون أن يعني هذا الكلام تبرئة للأنظمة الحاكمة من ارتكاباتها الفاحشــة التي تتهدد عروبة هذه الأقطار بأكثر مما يتهددهــا الاحتــلال الإســرائيلي.
عبثاً نبحث عن العدو الإسرائيلي في أدبيات الإخوان والسلفيين، سواء من صاروا في سدة السلطة أو من الذين يناضلون من أجل الوصول إليها.
عبثاً نبحث عن نبرة عداء للإمبريالية والهيمنة الأميركية، في خطاب الحكام الذين أوصلتهم المصادفات التاريخية إلى سدة السلطة في كل من مصر وتونس (والسودان، حتى لا ننسى جريمة حكامه في تعبيد الطريق أمام انفصال الجنوب). أما الإخوة الليبيون فقد اقتدوا بإخوان مصر وزيّنوا صدورهم بالعلم الوطني اقتداء بالتقليد الذي اعتمده الأميركيون جميعاً، قادة ومواطنين، بعد غارة الإسلاميين على البرجين في نيويورك.
[ [ [
سنبقى على إيماننا بعروبتنا. وسنظل نرى مستقبلنا الأفضل فيها.
وها ان اللبنانيين الذين زاغت عيونهم عن عروبتهم قد توزعوا على طوائفهم ومذاهبهم يتناحرون، بينما الأشقاء في قلب العروبة النابض، سوريا، يقتتلون، وفي العراق ينقسمون إلى معسكرين متواجهين تحت الرايات المذهبية فضلاً عن العرقية حتى لا ننسى الأكراد الذين يرون في الفرقة فرصة للاستقلال بإقليمهم المفتوح لغزو المخابرات والرساميل، لا فرق بين أن تكون إسرائيلية أو غربية أو لبنانية الواجهة.
العروبة هويتنا. هي مصدر الأمان اليوم وغداً.
وسنظل على إيماننا بفلسطين بوصفها الاسم الحركي للعروبة من الآن وإلى دهر الداهرين، وهو هو يوم الدين.
آسف لنبرة الحزن في كلماتي، لكنها تقصد التحريض ولا تأخذ إلى اليأس.
فاحفظوا عروبتكم تحفظوا غدكم.
(كلمة ألقيت بدعوة من ندوة العمل الوطني
في مركز توفيق طبارة)
حكايـة/ من يقتل الخوف؟
قالت: لماذا تهرب مني؟ لماذا تنكر نفسك؟ لماذا تدخل نفسك في هذا النفق الذي لا مخرج له. أنا من يسعى إليك. لقد اتخذت قراري ان تكون لي. لا يهمني ما تقرره. هل هذا يريحك؟
قال: تجيئين من البعيد إلى البعيد. تخترقين فاصل الزمنين بالهمس وقد اكتسى بحة جارحة كرمش عين مبلل بدموع فرح. تحولين المصادفة إلى موعد قدري، والموعد إلى تلاقٍ مفتوح يلغي الوقت.
استمعت بتحفز، ثم قهقهت فسمع زغرودة ضاحكة قالت:
ـ أنست الأسئلة. علامات الاستفهام تغتال اللهفة. تعودت ان امشي خلف حلمي فلا أدركه.. مع ذلك أواصل المشي. الحلم يستحق. أما أنت فجامد حيث أنت، تلبس قناعا بلا عينين، تنظر فلا ترى. أظنك لا تراني الآن. يقف الخوف حاجزاً بينك وبيني، أحاول اختراقه فأخاف أن أخسر اللقاء. لكني عنيدة. وها أنا أنذرك: سأكسر الحاجز، وسأواجه غرورك الذي لا يغطي خوفك. أنا البحر من أمامك، وأنا الصحراء من خلفك. وأنا أنا الدليل ومدرب السباحة.
ابتسم صامتا، مداريا ان يظهر ابنهاره بهذه المقتحمة، فأكملت غاضبة: أنظرك فلا تراني. يغمرك عطري فتفتح النافذة على البرد. أقترب منك فتلبس قناع الخوف من الآخرين. لماذا تحاصر نفسك بادعاء العصمة؟ تدعي انك لا تعرفني وأدعي انني أعرفك جيداً. وأول المعرفة ان تفتح قلبك قبل عينيك.
ظل صامتا، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة شاحبة. هتفت: لماذا تستعير أعمار الآخرين. روحك تقرر عمرك، والروح لا تعرف الشيخوخة. لماذا تهرب دائماً إلى الماضي والمستقبل أمامك مفتوح الذراعين؟ لا يصلح الماضي ساكنا؟ هل تريدني ان أشدك من أنفك كي تدخل دنيا البهجة التي تناديك… ام أتركك للندم يفتك بك حتى يقتلك بالتحسر. كلمة «لو» هي باب لجهنم!
قطع حبل الصمت أخيراً. قال: حسنا، لقد كسبت الرهان. هيا نقتل الندم.
وقاما فنزلا إلى شارع هادئ فملآه بالأهازيج! ثم افترقا على غير موعد.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أجمل الحب أوله، حين يهمي رذاذاً ناعماً كالندى.
قطرة قطرة ينمو ويتمدد داخلك، يأخذك إلى شيء من الخَدر، ثم يتحول إلى نشوة، فإلى لهفة تتهاطل معها الأسئلة التي تعرف أجوبتها، لكنك تكابر فتأخذها إلى حيث ترغب.
أما حين يتمكن فذلك هو زمن العواصف.