عادل مالك يروي «سيرة 1958»: شمعون ـ الثورة ـ عبد الناصر والأميركان
عاش عادل مالك العصر الذهبي للصحافة في لبنان، بل وفي الوطن العربي جميعاً. كان العرب، آنذاك، يصنعون التاريخ… وعاش حقبة «الكبار» في العالم وقدم أخبارهم على الشاشة التي كانت قد وفدت حديثاً إلى بلادنا العربية، وعبر لبنان، بداية.
كانت أسماء الكبار تتوالى على لسانه فينطقها بشيء من الزهو: جمال عبد الناصر، دوايت ايزنهاور، نيكيتا خروشوف، شارل ديغول، فيديل كاسترو، جواهر لال نهرو، جوزيب بروز تيتو، ماوتسي تونغ وشو ان لاي الخ..
أما على المستوى المحلي فقد باشر عمله وفي البلد صراع بين قيادات سياسية ذات شعبية وعندها قدر من المستوى، مما يجعل للمواجهات في ما بينها بعض المعنى، إذ هي تتصل بقضايا جوهرية بينها رفض الأحلاف الأجنبية، ومواجهة الانحراف السياسي الذي قد يأخذ لبنان إلى الهاوية (ولقد أخذه فعلاً.. وها هو الآن يتهدده في حاضره كما في مستقبله)… وكان بين نجوم المرحلة، مع البدايات، الراحلون كميل شمعون وفؤاد شهاب وصائب سلام ورشيد كرامي وصبري حماده وكمال جنبلاط وشارل مالك وآخرون تركوا بصماتهم على التاريخ السياسي لهذا الوطن الصغير، بالصح والغلط.
أما في المنطقة فكانت للقضايا بعض القداسة: فلسطين التي تنتظر تحريرها، والوحدة التي أقيمت على عجل فربطت سوريا بمصر في الجمهورية العربية المتحدة، ثم ثورة العراق وإسقاط العرش الهاشمي.
يكشف عادل مالك في كتابه «1958 ـ القصة ـ الأسرار والوقائع».. «أحداث تلك السنة كانت ظاهرة في الحياة اللبنانية بكل ما رافقها وتداخل فيها».
وعادل مالك شديد التهذيب، حريص على الحيادية بمعنى الموضوعية، ولذلك فقد انتظر «مرور الزمن على الحساسيات التي فجرتها أحداث 1958 كي نستطيع أن نلمّ بحقائق تلك الفترة»… والأهم في هذا الكتاب أن أبطال الثورة ـ على الجانبين ـ هم أبطاله!
يفترض عادل مالك أن صراع المحاور والمعسكرات العربية واختيار بعض القوى العربية لبنان كحقل تجارب لتفجير هذا الصراع، هو الذي أدى إلى الثورة، مبرئاً أو مخففاً من أثر الانحرافات أو الولاءات المختلفة للقوى السياسية المحلية.
كانت المعركة تدور فعلياً حول موضوعات جوهرية: العلاقة مع الإدارة الأميركية ولو أدت إلى اشتباك في الداخل، وإلى مواجهة مع جمال عبد الناصر والمد الشعبي العربي الذي كان يقترب من تحقيق واحدة من أغلى أمنياته في دولة الوحدة: الجمهورية العربية المتحدة، التي قامت من اندماج مصر وسوريا…
وهكذا فقد انحاز كميل شمعون إلى مشروع ايزنهاور، بينما كانت جماهير المنطقة تهتف ضد الأحلاف، وترى فيها تواطؤاً على أمن البلاد عموماً وعلى قضية فلسطين خصوصاً.
ومن أجل تمرير هذه السياسات كان شمعون قد استعد للهيمنة على السلطة بمؤسساتها جميعاً، فعمد إلى صياغة قانون انتخابي يقسم الدوائر بحيث يضمن إسقاط الكبار من معارضيه، وقد كان… لكن ذلك عجّل بالثورة، خصوصاً أن المعارضين قد اطمأنوا إلى موقف الجيش بشخص قائده اللواء فؤاد شهاب، الذي سلك موقفاً وسطاً.
واشنطن ترث لندن وباريس
بالمقابل، كانت المنطقة العربية تعيش حالة فوران ثوري. ومؤكد ان قرار جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس قد عزز الشعور بالكرامة والقدرة على المواجهة مع قوى الغرب الاستعماري في مختلف أرجاء الوطن العربي.. كل ذلك أمدّ المعارضة المحلية بزخم استثنائي، وجعلها أكثر قدرة على مواجهة الرئيس كميل شمعون الذي أعلن انحيازه إلى المعسكر المضاد… ولم يبدل موقفه من العدوان الثلاثي على مصر، والذي شاركت فيه بريطانيا وفرنسا والعدو الإسرائيلي في محاولة لتركيع مصر وشطب قرارها الوطني، فاستمر على موقفه مندفعاً مع ارتباطه بالمعسكر الغربي. ولقد مضى الرئيس شمعون في تحدي المعارضة فأصدر قانوناً انتخابياً مشغولاً بما يكفل إسقاط رموز المعارضة جميعاً من صائب سلام إلى كمال جنبلاط ومن حميد فرنجية إلى صبري حماده وأحمد الأسعد ونزيه البزري وغسان تويني وجبرايل المر ومارون كنعان.
وهكذا تلاقى الخطأ السياسي في الداخل مع الغلط في موقف الدولة مما يدبر للمنطقة بعنوان العدوان على مصر وإرادة التحرر، فانشق البلد معسكرين متواجهين.
يعرض عادل مالك مجموعة من الوثائق، أبرزها موافقة الحكم في لبنان على مشروع ايزنهاور، الذي يتضمن نوعاً من المعاهدة الأمنية مقابل التعهد بمساعدات مالية وعسكرية، تؤكد واشنطن استعدادها بموجبه لاستخدام القوات العسكرية لمساعدة أي دولة أو مجموعة دول كهذه تطلب المساعدة ضد اعتداء مسلح.
كان طبيعياً أن ترفض المعارضة الانضمام إلى هذه المعاهدة، خصوصاً في الظروف التي تعيشها المنطقة في أعقاب العدوان الثلاثي الذي أفادت منه الإدارة الأميركية «وارثة» النفوذين البريطاني والفرنسي، في محاولة تقديم نفسها كصديقة للشعوب والدول المعادية للشيوعية.
بين غالب والمعوشي
وهكذا تراكمت الأسباب، محلياً وعربياً، التي تعزز موقف المعارضة من «الحكم الشمعوني»… وشهد الصيف مجموعة «عمليات أمنية» ضد المصالح الأميركية، في بيروت، وكان منطقياً ان توجه الحكومة الاتهام إلى «المكتب الثاني السوري». كانت تلك إشارة واضحة إلى أن التوتر مع قيادة جمال عبد الناصر ومناصري سياسته في المنطقة قد بلغ ذروته…
يتطرق عادل مالك إلى الدور المؤثر الذي لعبه السفير المصري في لبنان عبد الحميد غالب، والذي أسماه خصومه «المندوب السامي» ورأوا انه أكثر من سفير، خصوصاً أنه قد أقام علاقات وثيقة مع أقطاب المعارضة..
يروي الزميل مالك أن السفير غالب قصد إلى القصر الجمهوري، قبيل إعلان دولة الوحدة بين مصر وسوريا، وعندما استقبله الرئيس شمعون بادره غالب بالقول: أنا أعرف يا فخامة الرئيس أنك لا تحبني..
وكان جواب شمعون: لست بغليظ.. أمر؟!
وأبلغه السفير أنه يأتي بمبادرة شخصية لإبلاغه ان «الأجواء العامة تشير إلى قرب إعلان الوحدة بين مصر وسوريا».
تفاقم الخلاف بين شمعون والمعارضة، وحتى لا تتسم الأزمة بطابع طائفي أخذ البطريرك المعوشي زمام المبادرة وصرح في الحادي عشر من شباط، وتعقيباً على تصريح عنيف لصائب سلام: «نحن الموارنة نقطة في بحر المسلمين، فإما أن نعيش معهم بمحبة وسلام أو فلنرحل أو فلننفَ. وهكذا صار البطريرك في موقع طليعة جبهة المعارضة، مع ان همه كان «الحفاظ على لبنان المتآخي، لبنان الجميع الذي تقوم رسالته على الاتحاد والوئام والمحبة».
توالت الأحداث سريعاً: قامت دولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة من اندماج مصر وسوريا وسرعان ما طلبت اليمن الانضمام إليها.. وأقيم كرد فعل فوري اتحاد بين المملكتين الهاشميتين العراق والأردن، وساد قلق في الأوساط المسيحية خوفاً من مشروع ناصري يضم لبنان إلى دولة الوحدة.
وعندما تفجرت ثورة 14 تموز في بغداد، فوجئت «الدولة» في لبنان بالأسطول السادس يتقدم نحو شواطئه ويبدأ بإنزال الجنود والمعدات، من دون إبلاغ السلطات مسبقاً… مستنداً إلى طلب كان قد قدمه الرئيس شمعون من قبل ولم يلق استجابة من القيادة الأميركية… ولقد تصرفت قيادة الجيش «بالحكمة» المطلوبة، فذهب اللواء فؤاد شهاب للقاء قائد الأسطول الذي كان باشر بإنزال جنوده في منطقة الاوزاعي، وتم التفاهم على مواقع انتشارهم، بحيث لا يستفزون «الثوار» الذين لم تكن قياداتهم راغبة بمثل هذه المواجهة.
في هذه الأثناء ارتفعت موجة المطالبة بتعديل الدستور والتجديد لكميل شمعون، وتوالت ردود الفعل الغاضبة، ووقعت سلسلة من المواجهات بين الأهالي ورجال الدرك، وأعلنت إضرابات، وأخذ السلاح ينتشر.. وزاد الأمر خطورة عندما أشاعت أوساط الرئيس شمعون أن الأسطول الأميركي السادس قد لبى نداءه فجاء لكي يعزز رغبته في التجديد، وبرغم نفي الحكومة، فإن المعارضة لم تقتنع بهذا النفي.
أما الشرارة التي فجرت «الثورة» فكانت عملية الاغتيال التي ذهب ضحيتها الشهيد نسيب المتني، رئيس تحرير جريدة «التلغراف»، والذي كان أكثر الصحافيين شعبية وأسرعهم إلى حمل المطالب والدفاع عنها. وقد كمن له الجناة بعد منتصف الليل غير بعيد عن مكتبه، وأطلقوا عليه الرصاص وهو في سيارة الزميل ميشال حلوة، الذي نجا بأعجوبة.
مراقبون دوليون للحدود
بعد ذلك ينتقل مالك وينقل قارئه إلى وقائع انتقال السلطة وقيام العهد الشهابي، مضمناً الصفحات نصوص العديد من المراسلات السرية بين بيروت وواشنطن، ودور وزير الخارجية آنذاك شارل مالك فيها.. ثم يقدم نص الخطاب الرئاسي لفؤاد شهاب، وهو جاء من خارج التقليد، وجرى الحديث في نوادي بيروت ان «البيك» منح الصلح هو منشئه، وكان ذلك تطوراً مهماً، بمعزل عن ان الرئيس شهاب لم يكن يتقن اللغة العربية.. فكيف بفصاحة أستاذ أجيال من الصحافيين والكتاب؟
يكتفي عادل مالك بدور الشاهد أو الراوية، ليقدم مجموعة من الوثائق، بينها مراسلات بين العواصم الكبرى، وبين بيروت وبعضها، ويسرد المقدمات التي أفضت إلى «ثورة 1958»، وإلى التداعيات الدولية التي تمثلت في الشكوى التي تقدمت بها الحكومة اللبنانية إلى مجلس الأمن، ثم القرار الدولي بإيفاد مجموعة من المراقبين الدوليين «لمراقبة تهريب السلاح من سوريا إلى لبنان» وهو الذي استعانت به المعارضة لمواجهة أنصار كميل شمعون وكان أبرزهم آنذاك جماعات من المنشقين عن الحزب السوري القومي، وقد ميزوا أنفسهم بشطب كلمة «السوري» وأبدلوها بكلمة «الاجتماعي».. بينما شكل حزب الكتائب الاحتياط الاستراتيجي.
لقد اختار عادل مالك مرحلة مفصلية في تاريخ لبنان والمنطقة، ومن ضمنها ما شهدته العلاقات اللبنانية الأميركية، في لحظة طرحت معها واشنطن حلف ايزنهاور كبديل من «حلف بغداد» الذي أسقطه الرفض الشعبي الواسع، قبل أن تدفنه ثورة 14 تموز في العراق. وفي الكتاب مجموعة من المراسلات التي كانت سرية ثم انكشفت في ما بعد بين وزير الخارجية في عهد كميل شمعون الدكتور شارل مالك ووزير الخارجية الأميركية.
أما عناوين الفصول التي يتضمنها الكتاب فتقدم ـ بالوثائق، غالباً ـ كشفاً بالتطورات التي عاشتها المنطقة، وقد اكتفى عادل مالك بتسجيلها، من دون أن يعطي رأيه فــي وقائعــها إلا لماماً… هو، في الكتاب، الشاهد وليس الطرف.
محاولة لاغتيال رسالة الغفران
خافوا أن يراهم بقلبه وفكره وإحساسه المرهف، كما رأى أمثالهم قبل قرون فواجههم وهزمهم، فأطالوا لحاهم، حتى حجبت أبصارهم والبصائر.
خافوا أن يحاكمهم فيدينهم بتخلفهم ويفضح كراهيتهم للجمال، فنقروا محجري عينيه المطفأتين..
خافوا أن يحاسبهم بالإسلام على جاهليتهم المتوحشة، فحاولوا أن يقيموا سداً من المصاحف بينهم وبينه.
خافوا أن يخرجهم من التاريخ وقد اقتحموه ليزوّروه أو يطردوا منه.. فلقد كانوا يشعرون انه أخطر الشهود على وحشيتهم، على تنكرهم لهويتهم وأرضهم.. فقرروا إعدام التاريخ الذي استمر يسجل أسماءهم في صفحات الملعونين، قتلة الشمس!
خافوا صمته، وهو الذي جعل بلاد الشام لسان حال العالمين.
خافوا من تمثاله الصغير الذي كان يشع نوراً يتبارك به زواره وقراؤه وسامعو التلاوة التي فتحت أبواب العقل.. ولم ينتبهوا إلى أنه الباقي بينما طُمست أسماء الأباطرة والخلفاء والملوك وسائر الديكتاتوريين.
كانوا يرونه يطاردهم حيث يهدمون المدن، بالمدارس والأفران والمستشفيات ودور العبادة التي لم يقترب منها لأن القلب مصدر الإيمان، ولأنه هو «الشهادتان» والشهيد.
وضعوا الخطط للهجوم. حشدوا جندهم بالمدافع والمنجنيقات والسيوف والرماح والبلطات والصواريخ والبنادق… لكن قائدهم كان أشد مكراً: جاء بكتبه وديوانه وأوراقه المطوية على الأفكار المشعة فقصفه بها حتى أسقط رأسه!
عندها فقط صاح منتصراً، لقد أطفأنا النور!
ومن بعيد جاءه صدى قهقهات المعري، قبل أن يستأنف تلاوة «رسالة الغفران».
تهويمات/ مطر على باب الجنة
انسدل الشعر ستارة، فقرأ ديوان العطر بعينيه المغمضتين خدرا. تقطعت الكلمات آهات. صارت الآهات قصائد. صارت مطراً معطراً.
قالت معتذرة: دموعي في الحزن عصية، لكن الفرح يستدعيها فتلبي..
ساد الصمت لحظات ثم قطعه هامساً: نعيش زمننا وجعاً. ودّعنا الفرح منذ دهر. صار علينا أن نستولد لحظات الفرح لكي نستطيع إكمال الرحلة.
قالت: أن تقدر على الحب يعني أنك انتصرت على الوجع.. إنني أشفق على الذين يهربون من مواجهة الحب لأنهم يخافونه. أنسيت أنني معك؟
تمتم بخجل: آسف… إنه عيب تكويني. غفلت عن أننا نستطيع أن نقيم جنة حيث نحن.
همســت: تفضــل يا ســيد آدم… أم أنك تريد التفاحة مقدماً؟
… ولم يُطردا من الجنة؟
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الــذي لم تُعــرف له مهــنة إلا الحــب:
ـ يمتلئ الغياب بصــور الحضور. وفــي الصمــت تنطق الصور. أحياناً أرد على ســؤال مفــترض لم أسمعه جيداً. وحدث مرة أن وجــهت ســؤالاً فانهــمر صوتهــا عليّ بألف جواب، وتركــني أســبح في لجّة النغــم المنشي محاولاً احتضان الصدى.
… وقال العابرون إنني سكران بنشوة عيد ليس لي.