الصحافة وأزمة الخطاب المسيحي المعاصر: التبرؤ من المبشرين بالعروبة
قدمت كلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف في بيروت جهداً ثقافياً مميزاً، خلال الأسبوع الماضي، عبر مؤتمر نظمه مركز الشرق المسيحي للبحوث والمنشورات حول «الخطاب المسيحي المعاصر».
ولقد طلب المركز مساهمة طلال سلمان، بوصفه رئيس تحرير «السفير» في هذا المؤتمر، فاختار ان يتجاوز «أزمة الخطاب المسيحي مع الإعلام» إلى جوهر المسألة، أي إلى افتراق الخطاب الديني عموماً، والمسيحي خصوصاً، عن الهوية الجامعة لأبناء المنطقة، وبالتحديد قضية العروبة، مستعيداً فضل العرب المسيحيين في بعث هذه الهوية، فكرياً وسياسياً… وكانت هذه المداخلة التي يمتزج فيها السياسي بالديني بالثقافي حول العروبة وموقعها في وجدان أهل هذه الأرض.
شرف عظيم أن يُتاح لي الحديث في هذا المؤتمر الدولي حول خطاب الجماعات المسيحية في الشرق الأدنى في زمن الأزمات.. وهي مسؤولية خطيرة أن أُمثل مهنة الصحافة التي اعتز بانتمائي إليها، والتي علينا الاعتراف أنها لم تعد تختزل الإعلام، وإن بقيت الأكثر اتصالاً بحركة الفكر ومنبر الحوار المفتوح للآراء والمواقف والتحولات السياسية.
وقد لا يكون من حقي الاعتراض على العنوان ولكنني ـ وبصراحة ـ لا أرى أزمة للخطاب المسيحي مع الإعلام، وإنما أرى الأزمة في أن يكون ثمة خطاب مسيحي قائم بذاته وبانفصال تام عن سائر مكونات المجتمع الواحد الذي افترض انه يجمع كل أبنائه وبغض النظر عن انتماءاتهم الدينية… ولعل بعض أسباب البلبلة الفكرية والسياسية التي نعيش في أسرها أن المجتمع قد تشطر فصار لكل مجموعة دينية بل ومذهبية خطابها الخاص المختلف بل والمتنافر مع خطب المجموعات الأخرى، ما يهدد وحدة الشعب ويمزق لحمة الانتماء الى الوطن، وبديهي أنه يصدّع وحدة الدولة وينذر بتفككها كانتونات طائفية ومذهبية… وهو خطر داهم تعيش أقطارنا العربية في ظلاله السوداء، ما يفاقم من مخاوف اللبنانيين الذين دفعوا بمجموعهم، ضريبة ثقيلة لمخاطر الانقسام الذي كاد يصير تقسيماً واقعياً.
قد يقال: هو أمر واقع لا يفيد إنكاره في شيء… ولكنني ومن موقعي المهني، وبقوة شعوري الوطني، ما زلت اجتهد في مقاومة هذا الانفصال في الفكر وبالتالي في العمل السياسي، مفترضاً أن تميز كل جماعة بخطابها هو تعبير عن شعورها العميق بالخطر، علماً بأن الخطر يتهدد الجماعات كلها، ولم يحدث مرة أن كان الانقسام مصدر اطمئنان وتقدم لجماعة بالذات، حتى لو أخذتها اللحظة إلى مثل هذا الوهم الذي لن يصمد أمام وقائع الحياة، والاحتياج الى ضمانات يصعب توفرها اذا ما كنا نتحدث عن الإرادة الحرة والقرار المستقل.
والحقيقة ان استقلال كل طائفة بإعلامها يهدد باندثار الصحافة كمنبر توحيدي ديموقراطي جامع. وما نشهده من حروب الفضائيات والمحطات المحلية ينذر بخطر أكيد على الوحدة الوطنية. لقد صار لكل طائفة محطة او اكثر، ولكل خبر او حدث (روايات متعارضة) تعكس كلٌ منها طائفية الراوي ومصلحة فريقه.
على هذا لم يعد في الوطن الصغير، ولا في المنطقة من حوله رأي عام واحد، بل صار فيها آراء عامة متعددة ومتضاربة يضيع معها السامع، وحتى القارئ، في غياهب الاستنتاجات المتعارضة.
وليس سراً ان الصحافة بمجموعها و«السفير» منها وفيها، تعيش أبأس أيامها في ظل الانشطار العمودي للمجتمع الصغير التي تصدر فيه وتحاول ان تعبر عنه، موحداً.
بل لعلني لا أبالغ إن قلت إن الصحافة تعيش قلقاً على المصير، فإذا ما تحول صراع الأفكار والآراء الى مشاريع فتن طائفية ومذهبية فأين تصير الصحافة.
إن الصحافة أرض لقاء بين الآراء والأفكار والاجتهادات المتعارضة لا يمكنها ان تتحول الى متاريس متواجهة، وإلا كانت كمن ينحر ذاته. كذلك فإن المناخ المسموم السائد يعطل دور الصحافة والإعلام الموضوعي.
وبالتالي فليس الحديث عن أزمة للخطاب المسيحي مع وسائل الإعلام وإنما عن أزمة للإعلام مع غياب الخطاب الوطني وتزايد الخطب المعبرة عن طوائف أو مذاهب.
بذريعة الخوف من الآخر يغيب الخطاب الوطني وتغيب القراءة الموحدة للأحداث ويصير لكل حدث قراءات عدة، متناقضة، ويغرق المجتمع في ضياع بلا حدود.
إن أحزاب الخوف من الآخرين هي التي تتحكم فينا، كرعايا للطوائف.. فإذا لم تكن الاحداث المحلية مولدة جيدة للخوف تم استيراد الخوف من الأقطار المجاورة… وهكذا تختفي او تكاد الاحزاب الوطنية والتقدمية الجامعة وتحل محلها التشكيلات الطائفية، وإن موهت تكوينها بالشعار السياسي. فهناك إخوان مسيحيون وسلفيون مسيحيون الى جانب الإخوان المسلمين والسلفيين المسلمين. لكن هذه جميعاً تتلاقى ضد أي تحرك في اتجاه المجتمع المدني وضد الانتخابات بقانون نسبي، أو ضد الزواج المدني، أو ضد حقوق اللاجئ الفلسطيني في العمل، حتى لو فرض عليه أن يبقى في مخيم اللجوء.
الكل خائف من الكل. وبالتالي فإن حقوق الإنسان، وبالتالي حقوق المواطن، هي المضيعة.
ولقد كان المأمول أن تكون الدولة هي مصدر الطمأنينة والمرجعية المؤهلة على نشر الأمان بضمان الوحدة الوطنية… فكيف العمل متى صرف الخوف الدولة بمرجعياتها الدستورية جميعاً فعطلها؟!
[ [ [
^ معلمو العروبة
لقد نشأتُ وتربيتُ على أيدي أساتذة كبار في التاريخ وعلم الاجتماع ورواد في التبشير بالعروبة باعتبارها هوية هذه الأرض وناسها والرباط المقدس بين شعوبها المنتشرة ما بين الخليج والمحيط. ولم انتبه إلا متأخراً الى أن الأكثرية الساحقة من هؤلاء «الآباء المؤسسين» هم من المسيحيين.. ولقد ساعدني، وأنا فتى، شغف والدي بالقراءة، وهو الذي نشأ شبه أميّ، ثم وفرت له المصادفات أن جاء الى بلدتنا شمسطار، أوائل المدرسين الرسميين فصادقهم وصادقوه وأغروه بالمطالعة من أجل تمكين نزعته الى الشعر.
هكذا، بغير قصد، تعرفتُ الى نتاج عمالقة في اللغة والأدب والتاريخ، فضلاً عن الشعر، وأنا فتى يافع. واستقرت في وجداني أسماء جرجي زيدان وناصيف اليازجي وإبراهيم اليازجي وغيرهم… وفي مطلع الشباب عرفني بعض أساتذتي الى المعلم بطرس البستاني عبر جريدته «نفير سوريا»، ثم إلى نجيب عازوري وكتابه «يقظة العرب»، قبل أن أجد من يهديني «يقظة الأمة العربية»، ثم قرأت قسطنطين زريق «نحن والتاريخ»، وبعده بعض نتاج ادمون رباط.. وتعلقت كمراهق بنتاج جبران خليل جبران الذي فاجأتني رسائله السياسية حاملة نبضه القومي، أي العربي.
في وقت لاحق سأقتحم الصحافة فتى، وبالاضطرار، من دون أن تغادرني متعة القراءة، لا سيما تلك التي تُعرفني بذاتي وأهلي وأرضي، أي بهويتي وانتمائي.. وبالتالي أقبلتُ أكثر فأكثر على كتب التاريخ والعقائد والتطور الفكري للسابقين من مبدعينا وقد غدت مصدراً للثقافة. وهكذا بدأتُ التعرف الى نتاج العقائديين الذين اجتهدوا في صياغة «القومية» عقيدة، وكان اولهم زعيم الحزب السوري القومي انطون سعاده، وبعده، وبفارق سنوات، ميشال عفلق وطروحاته حول «البعث» والأمة الواحدة. قرأت الشروح التي يختلط فيها الوعي بالتاريخ واستنطاق الجغرافيا للتعرف الى الهوية، والفهم العميق لمجريات الماضي في محاولة تأمين المستقبل.
سأتعرف في وقت لاحق إلى الحكيم جورج حبش ورفاقه الذين حفزتهم نكبة فلسطين على توكيد هويتهم فأنشأوا حركة القوميين العرب.
وهكذا فإنني أخذتُ العروبة عن الآباء المؤسسين للفكرة ثم العقيدة التي حُوربت وما تزال تحارَب بضراوة، فيتهمها بعض خصومها بأنها معادية للإسلام، في حين يتهمها خصومها الآخرون بأنها مجرد قناع يموه حقيقة أنها الإسلام مقنعاً.
[ [ [
ربما كان من حظي أنني نشأت في ظل الصراع من اجل التحرر من الاستعمار الغربي ومواجهة العدوان الإسرائيلي المفتوح، وكانت إحدى ذراه المجيدة صد العدوان الثلاثي على مصر في خريف 1956…
في تلك الفترة بدأ يتكامل وعيي السياسي، وأخذتُ أدرك وبالملموس أن المشترك بين شعوب هذه الأرض العربية يكاد يشكل تاريخها جميعاً، وأن ما يفصل بينها «سياسي» بالدرجة الأولى، سواء أكان من صنع الأجنبي أم فرضته تطورات الصراع على السلطة.
كنت أتوقف عند محطات محددة في التاريخ وأقرأها، في ضوء مطالعاتي، فأكتشف ما يمكن أن أسميه التزوير المباشر للوقائع أو لدلالاتها، فإذا الثورة العربية الكبرى تنتهي عبر مسلسل من المخادعات التي أدت الى تقسيم المشرق مجدداً عبر معاهدة سايكس بيكو التي مهدت لوعد بلفور، فكان التقاسم البريطاني الفرنسي للمشرق وكان استيلاد الكيانات السياسية الجديدة، وكلها هش وأضعف من يعيش مستقلاً، وإن كان يفيد في التمهيد لزرع الكيان الصهيوني فوق ارض فلسطين، وفي ظل الأعلام الخفاقة لدول العجز العربي.
^ العروبة في مواجهة الإسلام السياسي
لا اقصد أن أُعيد كتابة التاريخ، ولكني استأذن بأن استعيد هنا بعض الدروس التي أفدتها من تجربتي الصحافية التي أتاحت لي أن أزور فأتعرف إلى العديد من المفكرين والكتاب والمؤرخين والدارسين في مجمل البلاد العربية تقريباً بين المحيط والخليج: إن كل العرب في المشرق والمغرب حريصون على لبنان بطابعه الاستثنائي. ليس بينهم ولا بين أهله من يريده «دولة إسلامية» بل إن الجميع مهتمون ببقائه وطناً لأهله جميعاً، ودار أمان للمسيحيين فيه قبل المسلمين… وأفترض أن الشريك المسلم لا يقبل ولا يريد تغييراً في هوية البلد وحكمه.
إن مخاطر تفتيت الكيانات التي استولدت قيصرياً تهدد أبناء هذه الأرض جميعاً، بالأكثرية، أساساً ومن ثم الأقليات، خصوصاً بعد ضرب الهوية الجامعة التي تغلب المواطنية والإيمان بالمصير المشترك، على الشعور الأقلوي.
إن الفشل في مواجهة العدو الإسرائيلي بحروبه المفتوحة على هذه الأرض العربية منذ قدوم الاستعمار الغربي وتفتيت المنطقة دولاً مستضعفة لا تملك ما يحمي وجودها، هو نتيجة حتمية للانقسام والتفكك… ومفهوم أن الضعف العربي سيضيف قوة الى العدو الذي تم التخطيط لاستيلاده أقوى من مجموع الدول المتهالكة التي زُرع في قلبها. ونحن في لبنان الشاهد والشهيد، أقله منذ العدوان على مطار بيروت في آخر أيام سنة 1968 وحتى حرب تموز التي منع مجاهدو المقاومة انتصاره فيها.
إن استعادة طروحات ماضي الفكر الإسلامي وبروز التنظيمات الإسلامية، أصولية وسلفية، كل ذلك يشكل خطراً داهماً على الأكثرية العربية التي تدين بالإسلام. إن هذه الحركات معنية بإعادة أسلمة هؤلاء المسلمين الذي لم يروا في الدين هوية سياسية، بل اعتبروه الطريق الى الله، وعلى هذا فالأكثرية الساحقة من العرب المسلمين هم مشاريع كفرة في نظر المسلمين الأصوليين، إخواناً وسلفيين.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الأكثرية الساحقة من الشعب المصري لما تقبل حكم الإخوان الذي أوصلته المصادفات إلى سدة السلطة، وأحداث الأيام الفائتة شاهد وشهيد. المصريون بأكثريتهم مسلمون ديناً، ولكنهم يريدون الدولة المدنية بالشراكة الكاملة بين المسلمين والأقباط، كمواطنين، وهي الدولة التي كانوا رواداً في بناء هيكلها الدستوري والقانوني قبل عقد من الزمن تقريباً.
كذلك فإن الحكم الجديد في تونس، الذي يحتل فيه الإخوان مكان الصدارة، لا يحظى بتأييد الأكثرية ولا يبدو مؤهلاً لأن يدوم ويترسخ وجوده في دولة لم يمنع إيمان أهلها من أن تعلن دولة مدنية.
ولقد كانت سوريا دولة علمانية رائدة في المشرق العربي، وكان الدين لله والوطن للجميع… وها أن الحرب الأهلية تنهشها الآن وبالشعار الإسلامي، من دون أن ينفي هذا التوصيف مسؤولية نظامها عما وقع لها وفيها.
وها هو العراق الذي كانت دولته علمانية يكاد يتمزق في حروب الطوائف والأعراق.
إن العروبة تعني تقدم شعوب هذه المنطقة بأكثريتها الإسلامية نحو عصر الدولة المدنية التي لم يعرفوها لا في ظل الخلافة ولا في ظل السلطنة رافعة الشعار الإسلامي.
بل إن الإسلاميين يُكفرون دعاة العروبة والمؤمنين بها ويعتبرونهم من الزنادقة والمرتدين ويكادون يضعون عليهم الحد.
وفي حين يعترف العرب عموماً بريادة المسيحيين منهم في إطلاق العروبة وبناء منظومتها الفكرية، يحاول الطائفيون التنصل من هذه الهوية وهم يسعون إلى توظيف الدين سياسياً من اجل السلطة، وهذا ينطبق على المسلمين والمسيحيين. فالقائل بالحكم الإسلامي بمصر كالقائل بالحكم المسيحي او بحكم الشراكة على قاعدة طوائفية تحفظ للمسيحيين حصتهم في كعكة الحكم كضمانة. كلاهما يمنع قيام الدولة، ويلغي المواطن، بقدر ما يبرر الكيان الإسرائيلي كدولة يهود العالم.
[ [ [
^ المسيحيون وريادة العروبة
في غمرة التحولات السياسية الخطيرة التي شهدها لبنان في سياق ما شهدته المنطقة جميعاً، تستوقف المتابع هذه العدائية المستجدة لفكرة العروبة، وبالتحديد في البيئات التي حضنت رواد فكرة العروبة ثم محاولات صياغتها سياسياً، بغض النظر عن مدى النجاح او الفشل في الصياغة.
ومع الاعتراف بأن الأحزاب التي رفعت راية العروبة قد غادرت المبادئ حين وصلت الى السلطة، وغالباً بالانقلاب العسكري، إلا أن الرد بإنكار الهوية بحجة الاعتراض على تلك السلطات التي موهت دكتاتوريتها بالشعار القومي، بعثياً كان او قومياً عربياً، كان أقرب الى مخادعة الذات، لا يفيد في نفاق العدو وإن أفاد في التعجيل بمغادرة المسلمين «العروبة» الى الإسلام السياسي والحركات الأصولية. بالمقابل فإن من الأوهام القاتلة انعزال المسيحيين وانفصالهم عن واقعهم، في انتظار نجدة دولية تحميهم من الأكثرية الساحقة من أهلهم في أوطانهم، وهم ضحايا مثلهم، بل قبلهم..
وهكذا فإن الفتن والحرب الأهلية ترسم ملامح الغد في هذه المنطقة التي لمّا تجد طريقها الى غدها.
لقد كان المفكرون المسيحيون اللبنانيون أساساً، ومعهم بعض السوريين والفلسطينيين رواد العروبة، فكرة وعقيدة وانتماء. ولقد بشروا بها فانتشرت في المشرق إجمالاً، ليس لمجرد الرد على التتريك، بل اساساً لتثبيت الهوية الأصلية لشعوب هذه المنطقة بتاريخهم المشترك ماضياً وحاضراً ومصيرهم الواحد مستقبلاً.
ولم تكن مصادفة أن مؤسسي الصحافة العربية في مصر، وبينها الاهرام ودار الهلال والمقتطف وسائر المطبوعات الثقافية والعلمية، كانوا بمجموعهم من المسيحيين اللبنانيين أو الشوام، كما أسماهم المصريون.
من هنا إن المفكرين المسيحيين كانوا أسبق في التنبيه الى خطر الصهيونية ومشروعها بإقامة الكيان الإسرائيلي فوق أرض فلسطين، كاستعمار استيطاني معزز بالرعاية الغربية لإشغال شعوب المشرق بالخوف على المصير، وتعزيز الكيانية ـ الانفصالية التي تأخذ الى معاداة الجار الشقيق، وإلى التنكر للهوية الجامعة بوصفها مصدر خطر على الكيان.
صار الكيان أهم من الوطن. وصارت «الدولة» التي استولدتها مصالح الآخرين أهم من الأمة، وتحول الأشقاء الى أعداء يتخاصمون ويقتتلون عند الحدود التي لم يكن يتوقف عندها الأجداد، لعجزهم عن مواجهة عدوهم القومي الواحد.
[ [ [
العروبة وإسرائيل والدين
إن ريادة المسيحيين للفكر القومي وتبشيرهم بالعروبة شرف عظيم لهم، خصوصاً وقد كانوا الأسبق الى العلم نتيجة سبقهم الى التعليم الذي لعبت فيه الكنيسة دوراً تأسيسياً، بينما كانت المساجد مشغولة بالدعاء للخليفة السلطان.
ليس الدين هو ما صنع إسرائيل، وليست الأسطورة الدينية غير تمويه للمشروع الاستعماري ـ الاستيطاني الذي رعاه الغرب والشرق، وما زالوا يرعونه، ليكون أقوى من مجموع الدول العربية المستولدة ضعيفة وهشة التكوين، والمهددة الآن في كياناتها المرشحة لخطر التفتيت بالحروب الأهلية التي لن تنتهي في مدى معلوم.
وبهذا يتعزز الكيان الإسرائيلي وتتعاظم قوته، خصوصاً أن المحيط العربي سيكون أضعف من أن يواجه أو ينافس، أو يضمن استمرار دوله على قيد الحياة، وهكذا يتم تحويلها الى محميات إسرائيلية.
إن تراجع العروبة كارثة قومية، من شأنها أن تدمر الأمة العربية جميعاً ومشروعها السياسي.
وتهجير المسيحيين مشروع صهيوني، حتى لو كان دعاته من المتطرفين في إسلامهم إلى حد الخروج منه وعليه كدين حنيف، او من قادة بعض الدول الغربية من مستعجلي تفتيت هذه المنطقة لضمان استعادة حصتهم من خيرات الأرض وباطنها.
أيها الأصدقاء
آسف إن كنتُ أطلت. لكن موضوع هذا المنتدى العالمي مهم بل وخطير، وهو ـ في ما يعنيني كصاحب رأي وصحافي يرئس تحرير واحدة من الصحف الأساسية في لبنان ـ يطرح مسائل مصيرية.
من هنا، لا تجوز المجاملة او مقاربة القضايا الخطيرة بخفة او تسرع او بمداراة الحساسيات.
إن وطننا في خطر.
وبين مصادر الخطر عليه أن يغدو لأهله أكثر من خطاب في مواجهة قضاياهم المصيرية. فلستُ أرى خطراً مسلماً على المسيحي ولا خطراً مسيحياً على المسلمين، وإنما أرى الخطر محدقاً بالوطن، بل وبالأمة جميعاً بكل أبنائها.. وعلينا التنبه والاستعداد لمواجهته، مهما كانت الكلفة وإلا هلكنا كلنا.
وشكراً لمركز الشرق المسيحي للبحوث والمنشورات، وكلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف على الإعداد لهذا المؤتمر الدولي الجامع الذي يقدم فسحة للتفكير بهموم المصير، وينتشلنا من وهدة العبث السياسي التي تكاد تدمر المواطن فينا وتقسمه الى أجزاء بعدد الطوائف والمذاهب في هذا الكيان الفريد!
حمى الله لبنان.
حكاية/أن تعيش الحب مرتين
قالت هاوية الكتابة التي احترفت الحب وهي تمد يدها بروايتها الجديدة: عشقت قبل الحرب واحداً، ولكنني عشقت خلال الحرب ألفاً. لا يمكن مواجهة الحرب إلا بالحب. ليس أمتع من ان تقهر خوفك من القذائف والعبوات الناسفة ورصاص القناص بدفن ذاتك في أحضان حبيبك..
لم يعلق، فنهرته قائلة: لكأنك لم تعرف الحب! لعلك كنت مشغولاً بوصف الحرب من خارجها. لعلك كنت مشغولا بضحايا الحرب فلم تنتبه إلى أنك بين أولئك الضحايا! كيف استطعت ان تتحمل قسوة الآخرين الذين صاروا وحوشاً من دون ان تفتح قلبك حديقة ورد للعشاق الذين كنت تلاقيهم مع انبثاق الفجر في البيت المحروس بالأنفاس المحترقة شوقاً؟!
حاول ان يتكلم لكنها سبقته لتضيف: لست منهم، أولئك الوحوش، ولست منا، نحن الذين قهرنا الموت بالحب. وقفت على الحد الجارح بين الغياب المفجع وآهات الوجع المنشي، فصرت الرواية وأنت أنت الراوية لمآسي الآخرين… لكن هؤلاء الآخرين كانوا عشاقاً وأحباباً يذوب همسهم شعراً. وكان لهم عاشقات وحبيبات داخل دائرة النار. ولعلهم حين اندفعوا يقاتلون قد توهموا أنهم قادرون على صد الموت عن التهام الحب، فراحوا يطلقون زغردات رشاشاتهم لحماية الهمس الحميم. ألست تحفظ قصائد بعض من انتصروا على الحرب بغيابهم فيها؟ ألم تقرأ روائع القصص التي كتبوها ثم وضع القتلة خواتيمها؟ هل تأملت ابتسامة الشهيد؟ ألم تقرأ فيها اسم حبيبته؟ أما أنا فلا تعنيني الكتابة.. كان يعنيني ان أطرز اسمي على شفتي حبيبي وكأنها آخر قبلاتي.. كان يعنيني ان يكون وجهه آخر ما أغمض عليه عيني لو ان الرصاص أخطأه فأصابني.
خيم الصمت لحظة، فقطعته وهي تقف لتنصرف، قالت: أعظم الحب ان تعيشه مرتين، في الحضور وفي الغياب حيث تتوحد مع من انزرع فيك ودفن النسيان.
تجمد في وحدته ذاهلاً، ثم استفاق وقد رفت عليه فروع عاشقة انتصرت به على الحرب، ثم أخذته إلى الانتصار على ذاته..
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ حدثتني عجوز عن حبيبها الذي غاب. بدأت بأسلوب الحكاية ثم رق صوتها فصار همساً ثم انقلب هسيساً. وحين رأت الدموع في عيني هتفت بفرح: أنت عاشق يا بني.
وأغمضت عيني حتى لا تقرأ ملامح حبيبي.