في وداع ثلاثة مبدعين: عاصم وأسامة ويونس الإبن
لا يتسع أسبوع واحد لأحزان الفقد ولوجع خسارة ثلاثة ممن أعطوا بإبداعاتهم وبعلمهم وأساساً بخلقهم مثل ما أعطى مهندس الأصالة والحداثة والجمال معاً عاصم سلام، والشاعر ـ الكاتب ـ الرسام ـ الفنان يونس الإبن، والكاتب المسرحي المميز بأسلوبه و«شخصياته» وحركة الصراع في ما بينها كما في قلب مجتمعها أسامة العارف.
لقد رحل الثلاثة في تعاقب موجع، وخسر لبنان بعض من أعطوه ولم يأخذوا منه، وجملوا في عمارته التي لا يفتأ «الزعماء» و«الأقطاب» يشوهونها، كما في تراثه الوجداني الذي يحاولون طمسه حتى يبقى «هجيناً» ليس من الشرق تماماً، مع أنه فيه، وليس من العروبة مع أن بعض أبنائه كانوا روادها ومؤسسي حراكها السياسي منذ بداية القرن الماضي، بقدر ما كانوا ـ إلى جانب إخوانهم في بلاد الشام وفي مصر المحروسة ـ من ناشري الوعي والمعرفة والإيمان بالهوية الجامعة.
أما مع عاصم سلام فقد تلاقينا فكرياً في السياسة ثم التحقنا به في الدفاع عن ذاكرة الوطن ووحدة أهله، بيروت، ومقاومة محاولة تهجينها، والأخطر: إفراغها من أهلها كي تتحول إلى منتجع وسوق وعمارات تسد الأفق، ومحاصرة البحر وإبعاده عنها بحيث يتحول إلى مهجع لأثرياء المصادفات القدرية والجغرافية (حتى لا ننسى النفط) والذين هم سيّاح من طراز مذهّب يتعالون على أبناء وطنهم فكيف بمن يرون فيهم أصحاب ذوق في إعداد الموائد والمنازل الفخمة التي لا تفتح أبوابها إلا في مواعيد محددة في السنة، و«للخاصة» من الناس و«خاصة الخاصة» من أهل الفن، لا سيما الراقصات، ومطربي حفلة المستمع الواحد مع بطانته، سواء أكانت وافدة أم محلية «من أهل الذوق»؟!
ولقد التحقنا بعاصم سلام وهو يقاتل حتى يحفظ لبيروت تاريخها وذاكرتها، مع نفر من زملائه وأقرانه المهندسين الذين رفضوا مثله أن يطرد أهلها منها، تمهيداً لأن تتحول إلى جزيرة للأغنياء وأبطال الصفقات عابرة الأوطان والهويات وحقوق الناس.
^^ أسامة ـ القلم المشرق
أما أسامة العارف الكاتب الذي يشع قلمه إشراقاً، والذي كتب للناس عامة، وليس الخاصة، وقدم عبر مسرحياته ـ التي انتزع الوقت اللازم لإنتاجها من وقت «المحامي» الذي كانه ـ صورة للمجتمع بطموحاته وتعثراته، وجمع فيها نماذج كادت تختصر شخصية «اللبناني» بتطلعاته وخيباته، بالانتهازية فيه والرغبة في التغيير نحو الأفضل، وإجمالاً فإنه كان أحد الذين نقلوا إلى المسرح هذا المجتمع المتبدل، المتحول، الذي تختلط في هويته الماركنتيلية وأفكار اليسار واليمين المتوحش ونهازي الفرص إلخ…
وكان أسامة العارف شاعر بيروت، يحفظ ملامح أهلها وعاداتهم ويحفظ كذلك شوارعها وأزقتها والدكاكين والمقاهي التي ترسم للترامواي طريقه بين «البربير» وساحة رياض الصلح، بحيث أنه أنتج «بانوراما» كاملة لمنطقة الطريق الجديدة، التي لم يكن يجاور معلمها ـ الأساس، حبس الرمل، وغير بعيد عنه الثانوية الرسمية المميزة التي عرفت باسم مديرها محيي الدين البواب، ثم الفراغ الرملي وعدد محدود من البيوت، تحيطها تلال رملية يخترقها الملعب البلدي، إلى أن تمّ شق الطريق التي تعرف الآن باسم كورنيش المزرعة فأعطتها اسمها: الطريق الجديدة.
^^^ يونـس الإبـن ـ الأديـب الكلّي
أما المبدع الثالث فقد رحل، كما عاش، مظلوماً، منفياً، أو فلنقل إنه هو من اختار أن ينفي نفسه وأن ينأى عن الحياة العامة والشهرة واحتفالات النفاق الاجتماعي الباذخة: يونس الإبن.
ولقد هيأت الأقدار أن نعمل، في زمن ما، معاً في دار الصياد، تحت رعاية الكبير الذي غادرنا قبل ربع قرن أو أكثر قليلاً: سعيد فريحة.
كان في الدار جيش من الموظفين، محررين وكتبة وإداريين وعمال طباعة، فهي كانت تصدر جريدة يومية «الأنوار» ومجلة فنية «الشبكة» إلى جانب المطبوعة ـ الأم «الصياد».
ولأمر ما يصعب تفسيره وجدنا أنفسنا أربعة زملاء مؤهلين لأن نكون أصدقاء: الأديبة المبدعة إميلي نصرالله، والشاعر ـ الكاتب ـ الرسام ـ الخطاط ـ ومواهب أخرى يونس الإبن والرسام جان مشعلاني وأنا. فأما إميلي فمن أقصى الجنوب عند تقاطعه مع البقاع الغربي على التخم مع سوريا، يظلل قريتها حرمون ـ جبل الشيخ الذي يربط بين فلسطين ولبنان وسوريا.. وأما جان مشعلاني فهو ابن المريجات التي تقوم على الحد الفاصل بين الجبل والبقاع.. وأما يونس الإبن فمن بعض الشمال، مزيارة، التي تشرف على زغرتا وإن بقيت تحت وصاية إهدن.
بعد فترة غادرت إميلي كمحررة وإن لم تغادر ككاتبة دؤوبة ومجتهدة حتى أنجزت مكتبة كاملة من الروايات والقصص مع محاولة شعرية يتيمة.. وغادرتُ لأعود بعد حين، أما يونس الإبن فقد بقي كاسم «الصياد» ثابتاً في مكانه، يكتب ما معدله صفحة يومية، مرة في الأسبوع، عدا السهو والغلط… علماً أنه يكتب مقالات النقد والخواطر والرأي بالفصحى أما الشعر فيكتبه موزوناً ومقفّى أحياناً، وشبه حر في أحيان أخرى. وزجلاً حين تتفجر قريحته شعراً شعبياً، على السجية، وإن ظل الفخر بلبنان الذي رآه «قطعة سما» يحتل الصدارة في كل ما أنتج. وأما جان مشعلاني الفنان الظريف صاحب الأفكار الكاريكاتورية المبهجة فقد نسي أن يغادر مكتبه الذي صار بيته.
ولقد هزت التجربة الناجحة للأخوين رحباني والسيدة فيروز في مهرجانات بعلبك سعيد فريحة، وشجعته بعض الخلافات التي شجرت بين هذا الثالوث المبدع ولجنة المهرجانات فتقدم لأن يبتدع «البديل» الذي رآه ناجحاً… وهكذا جاء بالمطربة المميزة صباح وعبقري الموسيقى والألحان الشجية الأصيلة زكي ناصيف الذي تولى إنشاء فرقة فنية مميزة تولى قيادة الدبكة فيها مروان جرار، وعهد إلى يونس الإبن بكتابة الأشعار وكلمات الأغاني الخاصة بالدبكة. وأذكر أن بعض الزملاء المحررين قد فضل الدبكة، ولو لبعض الوقت على التحرير وتصيّد الأخبار، ومنهم الزميل الراحل وجيه العجوز.
كان يونس الإبن يهزأ «ممن وقعوا في شرك الزواج»… هذا في الستينيات، ولكنه كأي رجل سوي سرعان ما مشى إلى هذا الشرك وهو يقترب من الأربعين، فإذا عروسه نجيبة رفول تضيف إلى مواهبه وتغنيها، ثم تضيف إلى هذا الشاعر الذي اختار أن يكون «الإبن» بعض اسمه ثلاثة من الأولاد، هم: نايدا، زوجة العقيد الطيار في الجيش إدمون الحمصي، لبنان الذي درس إدارة الأعمال ثم ارتحل إلى أفريقيا حيث الجالية المتحدرة من مزيارة وشديدة النفوذ وبينها من صار عظيم الثراء، أما الثالث ـ شادي، فدرس الدعاية والإخراج في جامعة «ألبا» وهو يملك شركة إعلانات.
ولقد مضى يونس الإبن مع الغواية إلى منتهاها فكتب الشعر عمودياً وحديثاً، وكان «لبنان» مصدر إلهامه وقافيته الدائمة وقصيدته المفتوحة، فإذا ما أعجزه «الفصيح» لجأ إلى «العامية» أو «اللغة اللبنانية» كما يسميها عتاة المتباهين على الكون «بهالكم أرزة العاجقين الكون، واللي من قبل ما كان الكون كانوا هون».
تواصلت اللقاءات، وقد غدت عائلية، مع يونس الإبن، وتعززت الصداقة التي سترعاها «أم لبنان»… وكان لنا، «من خارج الجدول» موعد شبه ثابت في معرض الكتاب الذي يقيمه سنوياً النادي الثقافي العربي.
[ [ [
تميز يونس الإبن بغزارة إنتاجه ثم بتعدد مواهبه. وبين تاريخ أول قصيدة نظمها، وأول ديوان أصدره تحت عنوان «أحلام الصبا» أنتج دواوين كثيرة منها «أربع خمس كلمات» ثم «سلمى» و«أنا فقير» و«أبو لبنان وسنتين حرب»، ثم «الكتاب المكدس» و«ألف ليلى وليلى» وقد كتبه بالفرنسية وبالفصحى، خلافاً لسائر أشعاره، ثم «حكايات من عنا»، أما في مجال القصة فقد كتب «فرصة عمر» و«غريب في غرفتها» و«الأرنب الميت» و«مائة ليرة» ثم «البيت» و«سيناريو»… وهناك العديد من المخطوطات الشعرية والنثرية التي لم ينشرها.
قبل شهرين، بعث إلي يونس الإبن بآخر دواوينه «أربع خمس كلمات»، وهو كان نشره ـ لأول مرة ـ في العام 1966، «وفي مقدمته قطعة سما عالأرض، التقيت على الأرض صبية من بنات القمر، فرحت أرد على سؤالها عن لبنان…
«وفي الحرب اللبنانية، لأنسى ما يجري، رحت أعيد كتابة هذه القصائد بيدي، وأهديها اليوم إلى كل قارئ… مع محبتي».
ولقد ترك التقديم لجبران خليل جبران:
«كان لي بالأمس قلب فقضى/ وأراح الناس منه واستراح/
ذاك عهد من حياتي قد مضى/ بين تشبيب وشكوى ونواح»
بعد جبران كان لسعيد فريحة شرف تقديم الديوان، بطبعته الأولى، ومما جاء فيه:
«يونس الإبن. لا أنصح أحداً بأن يزوجه ابنته، لأنه لم يخلق للزواج، وإنما خلق ليعشق ويتعذب، وهو في عشقه وعذابه وطراز حياته، أسطورة الأساطير.. لا تعرف له مقراً ولا مستقراً، إنه في كل مكان وليس هو في جميع الأمكنة، إنه كالطيف، كالرؤيا، كالزئبق الرجراج! لا تكاد تجده حتى تفقد أثره، ولا يكاد يجد نفسه حتى تضيع منه. سلامه وداع ووداعه لقاء…
«ومهما يكن فإن يونس الإبن كان في حاجة إلى هذا الحب ليفجر مواهبه الفذة وليجعل منه أسطورة الشعراء والعشاق..».
يروي يونس الإبن أنه حين كان في الخامسة من عمره، «في حرج سنديان يجاور بيت جدي في الضيعة، مر ابن الجيران وهو في العاشرة من عمره يحمل بندقية صيد أبيه ورآني فطلب أن أرفع يدي مستسلماً جاهلاً أن البندقية محشوة.. وإذ رفضت الاستسلام ورفع اليدين أطلق النار وكانت النتيجة أن طارت عيني اليسرى وصارت اليمنى مهددة بالعمى، وهذا ما جعل أهلي يقررون بإصرار عدم إرسالي إلى أية مدرسة وعدم السماح بأي شيء يشغل النظر خوفاً على عيني الباقية».
أما حول السياسة وموقفه منها فقد كان ناقداً سلبياً وبقي كذلك حتى اللحظة الأخيرة.. «وفي عهد اتفاق القاهرة هددت بالموت إن تابعت مسيرتي سلبياً، فرحلت إلى نيجيريا، وبقيت هناك حتى تغير العهد، ولقد نشرت قصيدتي المعروفة «أنا فقير» التي أقول فيها:
«… وإنني فقير، لأنني آمنت بالجمال/ لأنني لا أشترى بمنصب ومال/ لأنني من أمة أمية الخيال/ مخصية الرجال/ تبني على الرمال، تمشي على شفير، تسعى إلى زوال/ وها هو الزوال/ يا أمة كبيرها صغير، أجيرها مدير، ووزرها وزير وفكرها، مثلي أنا، معثر فقير».
[ [ [
سيمضي زمن طويل قبل أن تعوضنا الأيام من يملأ الفراغ الذي تركه في وجداننا وفي سعينا إلى التقدم هؤلاء الثلاثة من أصحاب العقول والموهبة والإيمان بالإنسان وعشق الحياة.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا مساحة للبُعد مع الحب.. فلا علاقة للجغرافيا بالمحبين.
كتب إليَّ حبيبي يقول إنه أنجز ديوان شعر يمتد تياراً من النـشوة واللهفة بيــنك وبيني، فلم تغب عني أبداً.
أعرف أن هذه الكلمات ستأخذك إلى التباهي.. لكن الحب يتجاوز الأنانيات، مع أنه مصدرها.