I ـ صلاح ستيتية: الشعر في الغربة وطنا…
أشعت صلعته وكأنها صفحة بيضاء تستعد لاستقبال القصيدة الجديدة، وتقاطعت الألوان الغامقة في سترته الخضراء وقميصه الزرقاء وربطة عنقه المزركشة فوق بنطاله الأسود، وغامت عيناه قبل أن يحدّق في موقع خطواته داخلاً الى اللقاء مع بضعة سطور أخذها عنه واحد من تلامذته الكثر.
… وهكذا أسعدني حظي بلقاء طال انتظاره مع الشاعر المبدع صلاح ستيتية خلال زيارته الأخيرة مدينته بيروت، ليشهد واحدة من حفلات تكريم عطائه الثقافي المميز.
… ويمكنني، الآن، التباهي بأن صلاح ستيتية كان أستاذي، ولو لفترة قصيرة، قبل أن يلتحق بوزارة الخارجية ويجوب عواصم الدنيا سفيراً للبنان، عبوراً باليونسكو، ليستقر ـ بعد التقاعد ـ في العاصمة التي ظهّرت إبداعه الشعري خصوصاً والفكري عموماً، باريس، إلى جانب من نحب أن نفترض أنها ملهمته.
ولقد عرفت «الأستاذ صلاح»، منتصف الخمسينيات، أستاذاً يدرسّنا الفرنسية في صف البكالوريا في الكلية العاملية ببيروت.
أذكر أنه كان يدخل علينا الصف، حاملاً حقيبته السوداء، فيُجيل عينيه الصغيرتين بيننا، كأنما يتفحص استعدادنا أو أهليتنا لفهم ما سيلقيه علينا من دروس عن الأدب الفرنسي ومناراته، لا سيما الشعراء منهم. ولم نكن نعرف يومها أنه سيغدو من أعلامهم…
في حالات محدودة، التقيته خارج الصف، حاملاً حقيبته البسيطة، ماشياً بخطاه البطيئة وقد مدّ بصره إلى أمام فتبدّى وكأنه يحلم، أو يغرق في تهويماته، فيبدو نصف نائم… وبديهي أن «يهرب» من مواجهته الطلاب أمثالي ممن كانوا يشكون صعوبة إتقان الفرنسية، وتتعذّر عليهم متابعة شروحاته، فكيف بـ«تغريداته» وهو يتلو علينا بعض القصائد المختارة محيلاً حرف «الراء» إلى «غين» كما تقضي أصول لغة راسين ولامارتين وفكتور هوغو.
ولسوف ينقضي زمن طويل قبل أن نلتقي مجدداً على باب الرئيس سليم الحص وقد غدا صلاح ستيتيه أمينا عاماً لوزارة الخارجية، خلال محنة تشقّق الوطن الصغير إلى دولتين… وكانت تجربتي في العمل الصحافي قد حملتني إلى موقعي الحالي في «السفير».
للقاء عند ذلك الباب حوار لطيف، فقد بادر الدبلوماسي الشاعر إلى تكريمي بالقول مخاطباً الرئيس الحص: هل تعرف، دولة الرئيس، أن طلال هو تلميذي… لقد درس عليّ في العاملية.
والتفت إليّ الرئيس الحص فهززت رأسي مؤمنا (بل ومتباهيا) على صحة الواقعة، فسأل دولته: وماذا درّسته؟! وحين رد ستيتية: اللغة الفرنسية وآدابها… انفجر الحص ضاحكاً وهو يقول: ربما لهذا السبب تميّز طلال بلغته العربية.
دارت الأيام، وعاد صلاح ستيتية إلى موطنه الثاني، لغته الفرنسية، في عاصمتها الجميلة باريس، وكنت أطمئن عليه من إصداراته المتتابعة، أو من بعض أصدقائه ومترجميه، وفي طليعتهم مروان فارس، ومؤخراً من شقيقه المهندس عاصم ستيتية الذي يتحلى بملكة الكتابة الطريفة وتنشر له «السفير» بعض لطائفه السياسية في صفحة الرأي.
[[[
تحدث صلاح ستيتية الذي يتابع، من على بعد، أحوال وطنه وأمته في خضم الانتفاضات الشعبية التي تجتاح أقطار المشرق والمغرب، عن الشعر خاصة والثقافة عموما، عن الدين في السياسة والسياسة في الدين، عن تراجع مكانة العرب، دولياً، وتضاؤل الاهتمام بقضاياهم نتيجة خلافاتهم وهيمنة الأنظمة الدكتاتورية بكل ما أنتجه قمعها من نكبات أخطرها التخلف عن العصر.
قال الرجل الذي يتقدم الآن نحو الخامسة والثمانين من عمره، والذي ما زال يخطط لإصداراته التالية، ويبلغك بمواعيد محاضراته المقبلة في أكثر من عاصمة، وبعضها يقع بعد عيد ميلاده في الخريف، إنه بصحة جيدة، ولا يفكر في الموت بل يتابع حياته مع شريكة عمره بهدوء، متمتعاً بسحر الثقافة، والشعر عنوانها المتوهج، وتوجعه المقارنة مع أوروبا في ما يتصل بموقع الدين في السياسة وهو أمر تم حسمه في أوروبا قبل مئتي سنة أو يزيد.
وتحدث صلاح ستيتية بإعجاب واضح عن شخصية النبي محمد، ـ وهي في تقديره استثنائية بكل المعايير بشهادة قدرته على استيعاب الرسالة ـ وعن السحر الذي ينضح به النص القرآني الذي جمع فأوفى ولم يترك شأناً من شؤون الحياة إلا وحدد قواعد التصرف فيه…
قال الشاعر الكبير إنه يفتقد في بيروت بيروته، مستذكراً أيام طفولته ويفاعته فيها، مروراً بدراسته في اليسوعية التي عاد إليها أستاذاً في جامعتها، وقال إنه لا يحس بالغربة في فرنسا، ليس لأن اللغة يمكن أن تكون وطناً، بل لأنه ألف جوّها وحياتها الثقافية التي تزيده غنى، وإن ظل يتابع بكل جوارحه ما يقع في لبنان وله وللمنطقة من حوله… وهو يتوقع أن تمتد فترة الاضطراب في المنطقة العربية لعقد أو أكثر، قبل أن تستقر أحوالها بعد صدامات ومواجهات بين الماضي والحاضر نتمنى معها أن نستطيع إنقاذ المستقبل.
صلاح ستيتية جاء إلى بيروت لواحدة من حفلات التكريم التي سوف تتوالى مؤكدة «أن الشعر في الغربة وطن»، لكن الوطن يظل أجمل من الشعر.
II ـ هنري زغيب يعيد إنتاج جبران: بشري لا نيويورك!
هو كمثل النملة دأباً ومثل النحلة عطاء: لا يكلّ ولا يملّ، تلقاه في كل مناسبة ثقافية محاضراً او مناقشا، شاعراً ـ ناثراً ـ ناقداً ـ فضلاً عن نشاطه التلفزيوني عبر حواره المفتوح مع الكبير سعيد عقل، وعن مشاركته في العديد من الهيئات والأندية والجمعيات الثقافية في الوطن أو في ما وراء البحار: إنه هنري زغيب.
ولقد تسنى لي أن أستذكر وجه هنري زغيب «المغترب» من خلال كتابه الجديد ـ القديم: «جبران ـ شواهد الناس والأمكنة» الذي اختار له غلافاً مميزاً يتمثل في صورة لمرسوم جمهوري صادر في 25 أيلول 1930 بتوقيع رئيس الدولة آنذاك شارل دباس بمنح جبران وسام الاستحقاق من الدرجة الثانية.
على هامش الكتاب ذكّرنا هنري بأن «قصائد حبه في الزمن الممنوع» قد ترجم إلى الانكليزية، وأن «سمفونيا السقوط والغفران» و«من حوار البحر والريح» قد صدرا في واشنطن، حيث إنه قصد إلى الولايات المتحدة في العام 1985 ليتولى رئاسة تحرير جريدة «الهدى» الاغترابية… وهو قد اختار لسكنه في نيويورك المبنى 74 من الشارع 28 غرباً قرب المبنى 28 في الشارع 9 غربا حيث سكن جبران عندما وصل إلى المدينة في ضيافة صديقه أمين الريحاني، وعلى أمتار من المبنى 51 في الشارع 10 غرباً حيث استقر عشرين عاماً متواصلة.
قام هنري زغيب برحلة تتبع لأنفاس جبران وعلاقته الحميمة بمن تبقى من أصدقائه ومعارفه، وصولاً إلى الأماكن التي سكنها وصولاً إلى كنيسة سيدة الأرز التي سجي جثمانه فيها والساحة التي على اسمه اليوم واللوحة التذكارية فيها… وزار النحات خليل جبران وزوجته اللذين يحتفظان بناي جبران وبعض ثيابه والوثائق التي جمعاها على مدى سنوات في كتاب معروف… كذلك فهو زار الشارع الذي كان فيه محترفه والمستشفى الذي توفي فيه، وصولا إلى بيت صديقة جبران الأثيرة ماري هاسكل في سافانا بجورجيا ومتحف تلفير القريب منه حيث أودعت لوحات جبران فيها.
باختصار: تتبع هنري زغيب، كمثل مقتصي الأثر، مسيرة جبران الأميركية التي امتدت ما بين 1895 و1931، وعرّفنا ـ مجدداً ـ بما أنتج بدءاً بكتابه الأول «نبذة في الموسيقى» الذي وضعه بالعربية وحتى كتابه الأخير بالانكليزية «آلهة الأرض». دخل إلى عالمه الخاص وإلى كتاباته المنشورة أو الباقي مخطوطات ومسودات ورسائل، ومجموع مقالاته خلال ربع قرن، واستذكر مع آخر معاصريه ملامحه.
وكان طبيعياً أن يتوقف هنري زغيب أمام ماري هاسكل «الملاك الحارس» التي ملأت أيامه ولياليه و«حجبت نفسها عن الظهور طوال حياته مع أنه من «المجنون» وحتى «آلهة الأرض» الذي صدر قبل وفاته بأسبوعين لم ينشر نصا بالانكليزية «إلا بعد ما سرى قلمها عليه وباركته عيناها» وبعدما غاب كفيله وراعيه في الحقبة الأميركية ميخائيل نعيمه (1988) ثم لحقه آخر الرفاق وهو أندرو غريب، وهو من مواليد عيتا الفخار ومن خريجي المدرسة الروسية في بسكنتا.
يقول هنري زغيب إن الريحاني وجبران أول من كتب الشعر المنثور في العربية… وإن جبران كان يحب الانزواء وعدم الخروج من المنزل، دائم الحزن المكتوم والشوق إلى أوقات يعيشها في الطبيعة ولم يكن رقم هاتفه في دليل الهاتف…
أما الخلاصة المحزنة فتتمثل في أن جبران لم يعد له شبر أرض في بشري، وأن بيته في نيويورك قد آل إلى غيره، وبقيت حديقته المهملة في قلب واشنطن متروكة للريح.
هنري زغيب الذي لا يهدأ ولا يغيب عن مناسبة ثقافية، يكتب، يخطب، ينقد، يحاضر، يصدر كتبا ومجلات، يقدم برامج تلفزيونية ويسافر ليصدر صحفاً في المهجر… من أين لك كل هذا الوقت أيها الذي نجد «نسخة» منه في كل محفل ثقافي يقام على حافة السياسة او سياسي يقام على حافة الثقافة؟!
III ـ صلاح سلمان: لم يصبح سياسياً بعد حكومة لم تحكم!
بعد صمت امتد دهراً، قرر صلاح سلمان أن يكتب تجربته المرة، هو الذي «اختطف» من مجال نجاحه في الطب ليزجّ به في الغابة الوحشية داخل عالم السياسة، وزيراً في الحكومة الأولى للرئيس سليم الحص، في لحظة التوهم أن الحرب الأهلية قد انتهت مع بداية العام 1976 ليكتشفا بعد قليل من الوقت أنها في البدايات، وأن ما سوف يأتي سيكون أعظم.
الكتاب ينضح بالمرارة من السطر الأول وحتى السطر الأخير، والطبيب المفجوع بصورة لبنان من داخله، يهدي تجربته «إلى طالبات وطلاب الجامعة ـ وهم الأمل الوحيد الباقي لإنقاذ لبنان من الطائفية والنفاق والفساد وسوء استعمال السلطة».
في المقدمة التي كتبها الرئيس الحص الذي «صمد» لفترة أطول داخل دنيا السياسة ولو من خارج طقوسها، برغم المرارة والخيبات المتلاحقة، يعدد أستاذ الاقتصاد الذي صار رئيسا للحكومة خمس مرات أسباب العجز عن الإنجاز: «الأنانية والشبق إلى المال والسلطة والفساد الأخلاقي»… ويعترف بأن البيانات الوزارية «دغدغة لآمال المواطنين وأحلامهم، ثم تمضي الحكومة ولا تنفذ منها شيئا».
يقدم الدكتور صلاح سلمان في كتابه «في حكومة لم تحكم» مطالعة اتهامية بحق الرئيس الراحل الياس سركيس «الذي تعامل مع الحكومة وكأنها لتصريف الأعمال»، وبحق الوزير ـ صاحب الموقع الممتاز في عهده ـ فؤاد بطرس «الذي كتب وكأن كل همه أن يقنع قاضي التاريخ بوجهة نظره».
بين «عيوب» الكتاب أنه يصدر متأخراً كثيراً عن موعده الافتراضي، وأنه يكشف غربة هذا الطبيب عن «عالم» السياسة المحلية الذي زجّ بنفسه فيه من دون معرفة منه بخفاياه وصفقاته الفضائحية، وفي لحظة دقيقة كان القرار الداخلي خلالها نتيجة تسوية دولية تم عبرها تفويض سوريا ـ حافظ الأسد برعايتها، مع الأخذ بالاعتبار مقتضيات «الكفاح المسلح الفلسطيني» الذي أجبرته التطورات على أن يستقر في لبنان متخذاً منه منصة لقضية التحرير، وهي أخطر بتبعاتها من أن يتحملها هذا الكيان الذي يتبدى هشاً ثم يفاجئك بصلابته التي يوفرها الدعم الدولي غير المحدود.
يعترف الدكتور صلاح سلمان بأنه لم يكن «من أعضاء المطبخ الرئاسي الداخلي» ولكنه يأخذ على الرئيس سركيس انه «لم يكن يتمتع بمزايا قيادية»، وأن أداءه كان أول دعوة جدية تشجع التدخل السوري على الغوص في الشؤون الداخلية.
ولا يحتاج المتابع إلى كثير من التدقيق قبل أن يكتشف أن بين مسوغات إصدار الكتاب هو الرد على بعض ما ذكره الوزير فؤاد بطرس في كتاب يضم كثيرا من الوقائع التي عايشها والقرارات التي واجهها عهد الرئيس الراحل الياس سركيس… وهو يعتبر أن الوزير بطرس «كتب وكأن كل همه أن يقنع قاضي التاريخ بوجهة نظره».
عبر هذا الكتاب، في اختيار لحظة إصداره، كما في التركيز على وقائع من دون غيرها، يكشف الدكتور صلاح سلمان أنه لم يكن سياسيا ـ بالمعنى اللبناني ـ قبل الوزارة، ولم يصبح سياسياً بعدها.
IV ـ من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ ينطق الحب بألف لغة وإن ظلت العين هي الأفصح والأبلغ والأسرع في إيصال المعنى. فالشَعر يتلو الشِعر كابتهال وتهمس تموجاته موسيقى تأخذ إلى النشوة… وعند الشفتين ينتهي الكلام.
الحب يعطي الحياة المعنى… ولولاه لاختفى الإنسان في غابة الدم والنار.