ـ في وداع «حركة الفضوليين العرب» وقائدها النبيل!
من على بعد الحياة عن الموت تنتبه إلى حقيقة بسيطة: لا تهبط الصداقة بالمظلة، وان استولدت بداياتها المصادفة. إنها فعل اختيار: من بين مئة رفيق عمر أو زميل عمل تنتبه ـ متأخراً ـ إلى ان عدداً محدوداً منهم قد تغلغل في وجدانك وصار داخل لغتك وشريك أفكارك، تستدعيه رفيقاً في لقاء حميم، ويجيء بغير دعوة وهو يحمل حلاً لمشكلة تؤرقك، ويقتحم عليك وحدتك ليخرجك من ليل الشجن إلى متعة الصحبة وابتداع مجلس الأنس، فينعش عشقك للحياة.
لا أذكر، تماماً، أين وكيف ومتى وقع اللقاء الأول مع مصطفى نبيل. وحين أحاول استرجاع «تلك الأيام» انتبه إلى ان حماستي لتوكيد عمق الصداقة تجعلني أرجعها إلى ما قبل رحلتي الأولى إلى القاهرة قبل نصف قرن، تقريباً، فإذا ما أدركتُ خطأ الحساب أقول لذاكرتي: حسناً، لا تهم التفاصيل. لقد غدونا أصدقاء منذ اللقاء الأول في ستينيات.. ما قبل الميلاد!
حسناً، لنحدد نقطة البداية: في دارة أمين الحافظ وليلى عسيران في بيروت. هناك، في بداية الستينيات، التقيت غسان كنفاني وتعرفت إلى بهجت عثمان. أما اللقاء الثاني فكان في القاهرة التي يحمل بهاجيجو مفاتيح أهل الإبداع فيها، تحت قيادة «المعلم»، أحمد بهاء الدين أستاذ جيل الشباب من الصحافيين، كتاباً ورسامين ومحررين وفنانين يراوح إنتاجهم بين الكاريكاتور والتلحين والغناء، وصولاً إلى مسرح العرايس.
كان ثمة طابور من متخرجي التجربة الصحافية المميزة في مدرسة روز اليوسف، التي رعاها إحسان عبد القدوس، وتولى القيادة فيها فتحي غانم، لجناح الرواية والقصة القصيرة، و«بهاء» لجناح الرسم والكاريكاتور والريبورتاج والمقال السياسي… أما الطليعة فمعقودة الراية لأحمد عبد المعطي حجازي بوصفه ـ يومذاك ـ حادي الثورة وبعث الأمة.
وفي واحدة من حركة التغييرات، بعد تأميم الصحافة، جاء أحمد بهاء الدين إلى رئاسة مجلس إدارة دار الهلال، مصطحباً معه بعض متخرجي مدرسة روز اليوسف ـ صباح الخير.
في دار الهلال كنت أجد نفسي بين أهلي. أما في «الأهرام» فكنت أجد نفسي وقد عدت إلى مقاعد الدراسة تحت إدارة «الأستاذ» المعروف باسم محمد حسنين هيكل، ووكيله الحكمدار مكرم محمد احمد والناظر عن بعد صلاح الدين حافظ.. فإن أردت الاستزادة من العلم قصدت إلى السادس ـ طابق الخالدين لألتقي الأربعة الكبار: توفيق الحكيم، لويس عوض، الحسين فوزي وصلاح عبد الصبور.
ولأن دار الهلال صارت بيتي، خلال زيارات القاهرة، فقد انتبهت إلى ان مصطفى نبيل قد منحني صداقته بلا طلب، بينما حلمي التوني، الذي ولد مديراً فأخذ الرتبة ليضيفها إلى الإبداع الفني، كان يتصرف ان الصداقة مسؤولية ولا بد لها من إجراءات معقدة، أولها امتحان القبول.
المحطة الثانية: لست أذكر كيف ومتى أنشأنا ـ بغير تمهيد ـ ما اتفقنا من بعد على تسميته «حركة الفضوليين العرب»، لكنني أذكر جيداً أن مصطفى نبيل كان متقدما بين متساوين في التأسيس.. ثم سرعان ما اجتمع في هذه الحركة عدد من الصحافيين الممنوعين من ممارسة مهنتهم، لأسباب عديدة (سياسية أساساً.. وآخرها تعذر النشر).
كنا صحافيين شفويين. نريد ونسعى لكي نعرف كل شيء، مع ان لا مجال للنشر. وكانت المرحلة خصبة بالعناوين المثيرة… ولكن من له مصلحة في تهشيم صورة المقاومة الفلسطينية من خلال التصرفات او التصريحات الكاريكاتورية لياسر عرفات، ومنافسته عبد الناصر على الزعامة؟ ومن لا يحب في جورج حبش بديهياته؟ ومن لا يستفزه طوفان الكلام عند نايف حواتمه؟! ومن لا يخاف صداماً دموياً نراه قادماً لا محالة، في الأردن، بين السلطة الملكية وفدائيي الثورة التي انحرفت نحو ان تكون سلطة موازية.. ومن ثم بديلة؟ ومن لا يخاف من مزايدات القيادة السورية، أواخر الستينيات، بقدر ما يخاف من مناقصات اليمين اللبناني؟
المهم، أننا تلاقينا ذات يوم، من أواخر شهر آب 1970 في بيروت، مصطفى نبيل ومصطفى الحسيني، وقد جاءا من مصر، وانطلقنا نحن الثلاثة إلى بيروت حيث عقدنا جلسة أولى في المقر الصيفي «للحركة»، منزل حسين العودات بدمشق، ثم جلسة ثانية في منزل فلسطين المعروف باسم فيصل الحوراني… وكانت ألسنة الحرب الأهلية الموشكة على التفجر في عمان، بين أهل المخيمات الفلسطينية وبدو الملك الأردني، تلفحنا في عاصمة الأمويين.
كنت عاطلاً عن العمل. وكان المصطفيان قد جاءا لكي يعرفا فقط ولا نشر، وكان فيصل الحوراني ينعق على مدار الساعة ناعياً الثورة الفلسطينية التي تحولت إلى سلطة من أين لها ان تجلس في عرش الملك المصنوع في بريطانيا والمصفح أميركياً والمحمي إسرائيلياً، وهي التي يرى فيها هؤلاء خطراً أعظم وأسرع وأشد تدميراً من القومية العربية، خصوصاً إذا ما أكدت انتسابها إليها؟
وهكذا ركبنا أربعة في سيارتي الداتسون الحمراء وعبرنا درعا ـ الرمتا في اتجاه عمان. استقبلنا مدير الفندق المزدحم بحماسة الثوار ومخاوف الجيران، بتهذيب لم يمنعه من القول: أظن أن عليكم مراجعة المخابرات. ذهبنا فقيل لنا باختصار: نعرف من أنتم، ولماذا أتيتم… فليكن في حسابكم أننا نتابعكم!
ما هذا التهذيب الرفيع! ولكن ليس لدينا وقت نضيعه! وهكذا غرقنا في العمل. توزعنا على القيادات والوجوه والأعيان وملوك الكلام. نسأل ونسأل مثيرين عواصف من القلق، ثم نلتقي لنتبادل ما جمعناه، لننطلق إلى محاولة تعويض النقص في المحاضر. وسهرنا ليلتين في مناقشات محتدمة، وأجرينا لقاءات صاخبة مع قياديين. ولم يكن يزعجنا إلا السؤال: متى ستنشرون كلامنا وأين؟!
كنا نطلب المعرفة للمعرفة. وكنا ـ على حد قول مصطفى نبيل ـ نمثل الرأي العام، ونطرح مخاوفه: إيه ده؟! هم يلعبون القمار بدماء الشعب!
دخلنا في عراك مع أكثر من قيادي.. وواجهنا ياسر عرفات بأسئلة الهموم الثقيلة، وكان يبتسم وتلعب في عينيه قافلة من الثعالب وهو يحاول بث الطمأنينة فينا، وهو الذي يكاد يسحقه القلق.
كان مصطفى نبيل خلال رحلة العودة حزيناً. كان قنديلاً مطفأ.
واستفقنا، بعد أيام قليلة، على أخبار المذبحة التي باتت تعرف بأيلول الأسود، الذي صار ليلاً دامساً مع رحيل جمال عبد الناصر مع نهايته، مختاراً لوفاته يوماً لا يسقط من ذاكرة الأمة: 28 أيلول ـ ذكرى تحطم أول دولة للوحدة العربية في التاريخ الحديث.
[[[
كان اللقاء الأخير مع هذا الزعيم للحركة التي فقدت جمهورها بعدما صار الفضول تهمة، عشية انتصار الميدان في القاهرة بالثورة على الطاغية الذي افترض انه سيحكم مصر المحروسة إلى الأبد.
كان مصطفى قد «تقاعد»، متخلياً عن آخر موقع شغله كرئيس لتحرير مجلة الهلال.
قال برنة حزن في صوته: لقد جاءوا بعدما رحلنا..
قال له علاء الأسواني: ولكننا هنا..
هز مصطفى نبيل رأسه بأسى وقال: جيلكم هنا، أما نحن فقد فشلنا. هذا النصر لكم، ولن تفيد التعزية بأننا قد أسسنا لإنجازكم. لقد أهلكنا الخوف. أخذنا إلى اليأس، فصمتنا. خذ أنا مثلاً.. لقد هربت إلى مجلة الهلال مبتعداً عن السياسة التي جعلها الطغيان عبثاً.
لم تفد الكلمات في إيقاظ الحماسة في نفس مصطفى نبيل، قال: أنا فرح، لكنني أحس بشيء من التقصير. أخجل من النزول إلى الميدان لأنني قد هربت من المواجهة واعتكفت في قوقعة الصمت. زمان كنا نسعى إلى المعرفة فقط لكي نعرف… وفي المرحلة الأخيرة بتنا نهرب من المعرفة حتى لا نموت حزناً.
قلت: هل ترى أن نحل حركة الفضوليين العرب؟
عندها فقط انفجر مصطفى نبيل ضاحكاً وبدأ يروي مغامراتنا العبثية لكي نعرف ما لن نستطيع نشره إلا شفاهة.
واعتبرنا ضحكته تلك بمثابة عودة إلى الميدان… من أجل الوداع الأخير.
[[[
ـ غاده السمان: للحرية قبل الحب..
لا تتقن غادة السمان لغة إلا الحب. لذلك تبدو بعض خواطرها أو انطباعاتها المتسرعة التي جمعتها في «عاشقة الحرية» أقرب إلى انفعالات لحظات غضب او يأس او هرب في إجازة قصيرة من الحب الذي احترفته عمراً.
لكأن هذه المرأة التي قررت فعاشت وعشقت وأحبت وكتبت وكأنها النساء جميعاً، قررت في لحظة ما ان تسترجع ما هو عادي وطبيعي ومألوف في سلوك العامة، فكتبت مثل ما يكتبون ـ ولو كخواطر سريعة ـ، ثم خافت عليها ان تضيع فنشرتها في كتيب يستدرك ما فاتها من مباذل النساء… فها هو البومة المصابة بالأرق تنعق
«يدهشني ليل البشر،/ يحبون العلم ويتغزلون به، ويكرهون العلماء
«يعشقون الإنسانية ويكرهون الناس
«يتغنون بالمرأة، ويكرهون النساء
«يعلنون شيئاً، ويمارسون نقيضه في ليل عجيب غريب
ويسألون بعد ذلك شعب البوم لماذا يصاب بالأرق؟»
الحب عند غادة سيرة متصلة، يعبر الرجال والنساء والأماكن، فيظل ممتداً عبر الزمان والأجيال، يعيد استيلاد ذاته وأبطاله بلا انقطاع… كتلك البومة المقصوفة أبجدياً:
«لم أفعل شيئا منذ مراهقتي/ سوى أنني صنعت طائرة ورقية
«وركبتها ورحلت/ فلماذا يطاردونني بمدافعهم وصواريخهم العابرة للقارات».
ثم تنتبه إلى أن حباً واحداً لا يكفي، وأن الحب نهر مجهول المنبع مجهول المصب، وعليك ان ترمي نفسك فيه وتترك لك ان يحمله إلى حيث شاء،
من دون أن تنجح في حل معضلة المفاضلة، الحرية أم الحب:
«أعشق الحرية أكثر من حبي للحبيب
«صدر الحبيب قفص، والفراق يفتح لي باب ذلك القفص
«الحرية والحب لا يلتقيان/ ولا مفر من غالب ومغلوب.
«للحرية الكلمة الأخيرة دائماً في قلبي
«حريتي خط أحمر..».
على أن الجموح مع هذا المنطق قد يؤذي الذكريات، فتحاول غاده الاستدراك بأن تميز بين المطلق والحياة المعيشة، وتعود لتستذكر الحبيب الذي صار زوجاً من دون ان يخسر موقع العاشق، فتناجي الراحل بشير الداعوق:
«والطائرة تقلع بي من مطار باريس
لمحتك خلف نافذتها تحت المطر..
تركب طائرة أخرى بلا اسم
لماذا لم يعد بوسعنا ان نستقل طائرة واحدة معاً
وفي أي مطار يمكن ان نلتقي ثانية؟ وهل سنلتقي حقا؟»
أما في «رحيل البيروتي الجميل، رفيق الحرية» الذي عاشت معه غادة قصة حب عظيمة من موقع التنافر والتناقض في السلوك، فتكتب:
«لم تعد عصافير الفنان الكبير «براك» تحلق من لوحاتها وترسم بأجنحتها خط الأفق، كطائر البرق.
ها هي تقف لذكرى رحيلك مكسورة الأجنحة كعصافير دورية منهكة.
… أما زال سواها يتذكرك من «قبائل البشر» بالذات؟
أما زال سواي يحتضن ذكرى مرورك الجميل بهذا الكوكب؟
وهل الإسم الحقيقي «للإنسان» هو «النسيان»؟
الحرية هي البداية وهي هي في النهاية وغادة «عاشقة أخرى للحرية»، وهي الخاتمة:
«جئت من دمشق إلى بيروت/ أحمل على كفي عشرين ليرة
«وأحمل على كفي الآخر.. عشرين سنة من العمر
«وقلباً يغلي بعشق الحرية
«ومرت قرون وقرون من عمري
وتبدلت أرقام ما أحمله في يدي/ من مال وأعوام تبدل كل شيء
لكني قلبي ما زال يغلي بعشق الحرية/ كيوم وصولي إلى بيروت».
من زمان وضعت غادة السمان نفسها فوق الحساب بالنقد وفق المعايير السائدة، على الشخص أو على السلوك أو على النص المبدع…
لقد ولدت لتغني الحب، ولتعيشه أيضاً، فهو هو الحياة…
وها هي لا تتعب من التأكيد انها ما زالت تحب فيسعدنا انها ما زالت معنا تمارس حبها وحريتها معاً.
ـ من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ كلما أخذتني الغفلة بعيداً عن ذاتي انتصب طيفك أمامي فهزني بعنف: أراك نسيتني؟!
… وكيف لي أن أنسى وأنا لا أفعل غير الهرب من حبك بمحاولة إنكار ذاتي. كلما هربت مني وجدتك فيَّ.. فعدت إلى وعيي بحبي.