ـ لمحة عن الصحافة العربية.. من داخلها
تلاقينا كعادتنا كل سنة في «العيد» الذي ابتدعه «نادي دبي للصحافة» تحت عنوان «جائزة الصحافة العربية» فصار فرصة للتلاقي بين رفاق السلاح الآتين من البعيد، مشرقاً ومغرباً، يحدوهم الشوق إلى التعارف وإلى تبادل الخبرات في لقاء قصير لا يكفي للتأسيس لرابطة مهنية ـ ثقافية ذات أفق مفتوح.
الحشد عظيم عديده. لكن اللقاء الوحيد مرة كل سنة يفي بغرض الداعي في إطلاق تظاهرة تحت رعايته، لكنه لا ينشئ علاقات، ولا يتيح المجال إلا للتعارف، ويظل الحوار مرجأً إلى فرصة أخرى بين هؤلاء الزملاء الذين يعيشون ظروفاً مختلفة ويفتقدون ما يرتفع بالزمالة إلى رفقة السلاح.
الصحافة تعيش ظروف مجتمعاتها: هي منتعشة وذات دور حيث يسود مناخ من حرية التعبير، وهي متخلفة ورديئة الاخراج والنصوص حيث تعتبر العربية لغة ثانية، وهي بلا روح حيث تسود أنظمة بوليسية، في حين ان الصحافة اللبنانية تتميز بانفلات بلا ضوابط، من يراها من الخارج يفترضها انها طليعة للتقدم، ومن يتابع وقائع محنة لبنان المفتوحة على المجهول يعتبرها أداة للفتنة والحرب الأهلية أو «أداة تخريب» للوحدة الوطنية، وفي أحسن الحالات «منابر للإيجار» يسخرها أصحاب الثروات وزعماء الطوائف لأغراضهم الشريرة.
المفارقات عديدة في أحوال الصحافة العربية والعاملين فيها: فصحف أهل النفط عديدة الصفحات بحيث تحتاج إلى من يحملها لك، وكل منها تتكون من أجزاء يفترض انها متخصصة، بعضها للاقتصاد وبعضها للرياضة وبعضها للفن بالصور شبه العارية، والاجتماعات والمجاملات، والواجهة للمحليات بالتفاصيل المملة، وثمة زوايا للأحداث العربية والدولية، وأخرى للتعليقات. على أن أهم فيها ذلك السيل من الاعلانات التي يكفي ما ينشر منها في عدد واحد لتمويل صحيفة لبنانية لشهر وصحيفة مغربية لسنة. أما إذا كان ثمة واحد من الأسرة الحاكمة أو من وجهاء البلاد قد توفاه الله فإن الصفحات الاعلانية ناقلة المصاب تدر على الصحيفة المعنية ميزانية سنوية للصحف المذكورة أعلاه.
لا جدال في أن ثمة نهضة ما في الصحافة العربية إجمالاً، خصوصاً أنها دخلت عصر التكنولوجيا الحديثة. لكن السؤال عن المضمون يظل معلقاً، فالصحافة تعبر عن هامش الحريات في البلاد. وثمة أنواع مبتكرة من الحرية تمارس عبر المؤسسات الصحافية العربية:
في الدول ذات الأنظمة الملكية، والأميرية بالاستطراد، فضلاً عن السلطنة، فالسياسة من اختصاص الأسرة الحاكمة، ولا يجوز ان يعرف عنها العامة إلا ما تقوله الصور: استقبل، ودع، تباحث، تهاتف، أوفد مبعوثا، تلقى رسالة. أما موضوع المقابلة او أسرار المباحثات والهواتف والرسائل والبعثات فلا يجوز ان تُعرف ومن تجرأ على كشف شيء منها طرد من الجنة (إذا كان من قطر عربي آخر) أو أحيل إلى مهنة أخرى (إذا كان الجرم خفيفا).
لسوف تجد في هذه الصحف أسماء لكتاب عالميين يعالجون شؤون الوطن العربي وشجونه، ويناقشون تطورات الصراع العربي ـ الاسرائيلي وما تساق اليه قضية فلسطين وما يدبر لها في غيبة قياداتها المختلفين على سلطة لا سلطة لها.. فقد أسقط الحرم عن الشؤون الاسرائيلية، وبات من حق القراء الذين لا يعرفون عن بلادهم حقائق بسيطة مثل الدخل القومي العام، إيرادات النفط وكيفية إنفاقها، ان يعرفوا تفاصيل الهوايات التي يمارسها بنيامين نتنياهو أو ليبرمان أو باراك وغيرهم من قيادة الدولة التي كان يشار إليها من قبل بصفة «العدو». كذلك بات بوسع هؤلاء القراء ان يعرفوا بعض الحقائق عن السياسة الأميركية تجاه بلادهم من خلال مقالات الكتاب الأجانب الذين لا مانع لديهم من أن تنشر في الصحف الوطنية، في حين ان «الكتاب الوطنيين» يمتنعون بحكم الحصافة عن مناقشتها لأنهم يعرفون حدودهم.
المفارقة الثانية ان هؤلاء «الكتاب الوطنيين» يندفعون في مهاجمة النظام القائم في دول أخرى، آخذين عليه قمعه للحريات ومنعه مواطنيه من التعبير عن رأيهم بالتظاهر مثلا، أو بالكتابة، في حين أنهم يغفلون عن حقيقة ان مثل هذه «الامتيازات» محرمة على الرعايا في موطنهم، ومحرم عليهم ان يشيروا إليها من باب المقارنة او من باب المفاضلة أو حتى من باب التمني.
لذلك فغالباً ما ينتهي الحوار بين رفاق المهنة الآتين من أقطار مختلفة والعاملين في اطار قوانين او تعليمات مختلفة، بالتنهدات او بالتشكي المحسوب، او بإحالة الأمر كله على الآتي من الأيام والرياح حاملة شرارات الثورات، أو الضغوط الاميركية على الأنظمة الصديقة من أجل توسيع الهامش الديموقراطي التي غالباً ما تقدم في شكل «نصائح» ومن باب الحرص على النظام.
ليس من مؤسسات جامعة لأبناء المهنة الواحدة من «الرعايا العرب»، وفي الغالب العام فإن اتحادات الكتاب والصحافيين والمثقفين عامة هي مؤسسات حكومية، حتى لو نصت قوانين إنشائها على انها خارج اطار السلطة. ويمكن اضافة الاتحادات المهنية عموماً، ما دام معظم الأنظمة القائمة يفرض هيمنته ـ ماديا ـ على هذه «المؤسسات المستقلة».
هل من الظلم، والحالة هذه، ان تطالب الصحافة خاصة والهيئات الثقافية والمهنية التي يفترض انها مؤسسات شعبية، بما يخالف توجهات السلطة في بلادها، أو حتى في الإطار القومي الذي أفرغ من أي مضمون، بدءاً بجامعة الدول العربية والهيئات المتفرعة عنها والتي كانت تمثل ذات يوم خطوات في اتجاه الوحدة، ولو في إطار شعار «سيروا بخطى أضعفكم».
ان سنونوة واحدة لا تصنع ربيعاً.
وبين فوضى الانحياز السياسي في الصحافة اللبنانية، وسيادة مناخ الانعزال والتغرب في العديد من المؤسسات الصحافية العربية التي تعبر عن سياسة الأنظمة التي تصدر في إطار قوانينها وضوابطها الصارمة، تضيع فرصة التلاقي على الأهداف الموحدة لأهل القلم في الأرض العربية، ويصعب الادعاء انهم ينتجون حركة ثقافية عربية أو يعبرون عن طموح شعوبهم إلى الحرية.
ان الصحافة العربية في الغالب الأعم على صورة الأنظمة الحاكمة في بلدانها. وهي لا تستطيع ان تعوض تقطيع الأوصال بين الأقطار العربية، وفرض العزلة التي تجعل الأجنبي أقرب من الأخ الشقيق والتي تسقط حاجز العداوة مع محتل الأرض والإرادة وتشهّر بالمقاومة على قاعدة طائفية مع تسفيه إنجازها الوطني والقومي والإنساني.
لا يمكن صنع صحافة عربية في ظل أنظمة معادية للعروبة وان ظلت ناطقة باللغة العربية.
ـ حكاية
ثوب أبيض للنديم ـ الخصم!
لم تلفته الرسالة الأولى منها وان كانت قد كشفت له اسمها كاملاً ومعه هاتفها الدولي الذي يختصر المسافات. لا ينكر انه شعر بشيء من الزهو بانضمام قارئة جديدة إلى نادي المعجبين: هذا يعني أن أفكاره وآراءه السياسية تصل إلى النساء الجميلات في البعيد الذي غدا على بعد نقرات بسيطة على الجهاز السحري.
أما مع الرسالة الثانية فقد تراجع الفكر السياسي لحساب الاعتزاز بالرجولة: النساء لا يقرأن الكلمات.. انهن يقرأن الوجوه والعيون وربما النوايا!
الرسالة الثالثة كانت أوضح من ان تحتاج تفسيراً: ها هي تتجاوز الاعجاب إلى ما يشبه الاعتراف الصريح!
باتت المشكلة في الجواب. لكنه لم يتعود ان يجيب. هو متلق فقط! الجواب عبر الفضاء التزام. لا وقت عندك للترفيه عن النفس بمخادعة الآخرين.. ولست جاهزاً لمغامرة في الهواء. المجاملة أقل مما يجوز، والجواب الملتبس اندفاع مع المجهول. اعتصم بالصمت إذن. انه عنوان كاشف للارتباك، والارتباك دافع لمن يريد التقدم في المغامرة. فلنرجئ الكلام إذن إلى الرحلة الأخرى.
لكن رسالة منها وصلته وكلماتها تحترق بالشوق إلى اللقاء القريب!
فكر طويلاً في أسئلة لا يملك أجوبة عنها: ماذا تريد مني هذه التي تدهم لقاءاتنا، كل مرة، من خارج صفة المتلاقين داخل هموم مهنتهم؟ تدخل متفردة بثوبها الأبيض دائماً فتشد إليها الانظار الهاربة من بحر السواد الذي تسبح فيه النساء، هناك، ولا ضفاف؟
فكر أيضاً: هل هي قارئة محترفة تكرّم من تختار من الكتّاب بإبداء إعجابها بما يكتبون، أم انها تخصه وحده بتحيات الاعجاب؟
انتبه إلى انها كانت تبادر إلى البحث عنه بين وفود الواصلين للمشاركة في الحوار الثقافي، وتغمره بالشوق، ثم تتركه لتنصرف إلى ذلك «الراوية» الذي يحفظ مئات الطرائف والنكات، فإذا ما أعوزته الحيلة تدفق يروي بعض أسرار الكبار في دول صغيرة أو الصغار في دول كبيرة. انه نهر من الحكايات يتدفق باستمرار وفي عينيه تلك النظرة الساخرة من منافسيه المحتملين الذين لم يدخلوا مجالس طويلي العمر ولم يضحكوهم بنوادرهم ولم يشاركوهم في بعض جلسات سمرهم في الداخل وسهراتهم الحميمة في الخارج.
عليه أن يعترف لهذا «الثعلب» بأنه فنان في استثارة فضول النساء، كما أنه بارع في الخلط بين حكاياته الشخصية وقراءاته المتنوعة وذكرياته عن الاساتذة الذين أخذ عنهم العلم وعن زملائه الذين تعلم ألا يكون مثلهم، ثم عن المشاهير الذين يحفظ الكثير من أقوالهم وطرائفهم والأسرار التي تفرد بالوصول إليها بدأبه في البحث عن المختلف والمستهجن والمستغرب أو المستطرف.
تحولت المصادفة إلى مباراة مفتوحة، هي فيها الخصم والحكم. صار التقدم صعباً والخروج مستحيلاً. وقرر المغامرة فاستدعى مجموعة من صديقات اللقاءات المتباعدة، وتقدم نحو نديم الملوك، وهي عنده، في موكب معطر تفرقع فيه القبلات.
انتقلت لتجلس إلى جانبه متحدية «حريمه»، بينما انطلق «النديم» يروي ما تيسر من حكاياته التي لا تنضب.
بين الحين والآخر كانت تتقصد ان تميل عليه لتهمس في أذنه ما يفيد انها سمعت هذه الحكايات مرات عدة، من قبل، وان شهدت له بالتجديد في أسلوب الرواية.
وقف «المتلقي» فجأة وهو يقول بلهجة خطابية: حان وقت الطرب.. لقد أعد بعض الاصدقاء سهرة جمعوا لها من ينطقون العود ويترنمون بالنغم، من أراد فليتبعني.
ومشى فلم يرافقه إلا ظله، بينما كان «النديم» يفتح صفحة ذكرياته مع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش، ويتدفق في سرد حكايات ممتعة لا يهم ان كان عاشها أو قرأها أو سمعها من غيره ولكنها أفادت في اقتراب النساء منه إلى حد التلاصق.
في الطريق هتفت تقول له: أعطنا العنوان! لقد قررنا ان نلتحق بك!
وأقفل الخط مغتبطاً: لقد حقق الهدف وآن ان تنتهي الحكاية..
لكن النهاية لم تكن مبهجة: أطلت وهي تشبك ذراعها بذراع «النديم» الذي كان يرسم على وجهه ابتسامة انتصار عريضة، وقد حياه برقة مفتعلة، ثم قال بخبث مكشوف: فلنسمع مطربك العظيم وعوده الرنان.
وحسم المطرب المعركة بأن أطلق صوته الرخيم في أحلى ما غنى محمد عبد المطلب: «الناس المغرمين ما يعملوش كده..».
ـ من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ حبيبك يضيف إليك في عقلك وقلبك معاً.
في الأقوال ان الحب أعمى. وهذا افتراء على الحب. المراهقة عمياء أما الحب فنور يغمر القلب والروح والعقل معاً.
حبيبي جعل طموحي يقهر المستحيل.