الغزو الثقافي: شعار جاهلي لتبرئة السلاطين!
القاعة الفسيحة قيد الإكمال.. لكن غياب الفخامة عنها لم يمنع الجمهور من أن يتقاطر فيحتشد فيها، نسوة ورجالاً وفتية، تتقدمهم حيرتهم والأسئلة الكبيرة عن الغد.
أعترف بأن العنوان يستفزني، حيثما وقعت عيني عليه: الغزو الثقافي!
تستفزني كلمة »الغزو«، ويستفزني أكثر الربط بين الغزو وبين الثقافة…
أشعر بالمهانة عندما أسمع مَن يصوِّر أمتي جميعاً وكأنها أشتات من البشر، لا تاريخ لهم ولا حضارة، لا ثقافة لهم ولا مكان تحت الشمس، لم تكن في حياتها شيئاً مذكوراً ولا تستطيع أن تكون شيئاً في المستقبل.. واستطراداً فلا مبرر لوجودها، لا موحدة ولا مشطرة ومجزأة إلى ما لا نهاية من الكيانات على قاعدة الطوائف أو العناصر أو ما يتناسب مع مصالح الآخرين.
ربما لهذا ظلت النبرة حادة طوال زمن الندوة التي عز فيها الحوار، وكان بين ما طرح فيها من »أفكار أولية«:
صحيح أن الانهيار قد ضرب العديد من الحصون والسدود.
وأن الانهيار قد أصاب العديد من مكوِّنات وجودنا.
وأن الهزيمة قد هزت بعض ثوابت اليقين فينا فالتفتنا الى أنفسنا نستوثق من جوانب الصح فيها، ونتأكد من أننا لم نفقد الإيمان بالذات ولم نضع عن أهدافنا كلها وما زلنا نعرف الطريق إليها.
ولأن الهزيمة كانت أعنف مما نتوقع، وأوسع في تأثيراتها مما كنا نقدر، فقد وقعنا تحت ضغط الشعور بأننا قد خسرنا كل شيء، وكدنا في لحظات ننكر على أنفسنا كل كفاءة وأية كفاءة، ونفقد الإيمان بأننا قادرون على الإنجاز، أي إنجاز وفي أي مجال.
ومن قلب وهدة اليأس تضخم شعورنا بعظمة عدونا الذي اجتمعت فيه ومن خلاله كل خصوماتنا وعداواتنا التاريخية، فكدنا نفترض فيه الكمال المعجز بقدر ما افترضنا في أنفسنا النقص الذي لا يمكن أن يعوّض أو يسد.
سقطت في ميدان المواجهة النظامية جيوشنا ومعها هيبة أنظمتنا وكفاءاتها السياسية. ثم تحول العجز عن النصر وعن إسقاط ليل الهزيمة يأساً من الأنظمة والأحزاب والقيادات وصولاً الى اليأس من الذات.
ومع توالي الانتكاسات كانت مشاعر الامتلاء بالقدرة على الإنجاز تنقلب الى نقيضها، وكان العجز عن المقاومة يفتح الطريق الى الاستسلام، وكان الميل الى الدعة والاستقالة من النضال يأخذاننا الى التسليم بحتمية أن نكون أتباعاً وأن يكون عدونا هو المتبوع.
على هذا فليس كل ما نستسلم له ونسقط فيه من اتباع للآخر، الأجنبي عموما والعدو خصوصا، غزواً ثقافياً، بل ربما كان من قبيل »مَن يهُن يسهل الهوان عليه..«.
إننا نلتحق بهم أكثر مما نخضع لغزوهم.
إننا نفضل »الجاهز للحمل« على أن نتعب بالتصميم والتفصيل والانتاج وتحمّل أعباء المنافسة بتحسين شروط الانتاج والمنتجات.
ولعلنا نفضل كلمة »غزو« هرباً من محاسبة الذات على التقصير في إعداد العدة لمواجهة مفتوحة تؤكد قدرتنا على المواجهة، وتؤكد أننا نملك ما يستحق الدفاع عنه، مما كان يعطينا المكان والاحترام والجدارة بأن نسهم في صنع الحضارة أو تجديد الحضارة القديمة التي كنا بين صنّاعها.
بصراحة إن مجرد استخدام التعبير مهين.
كأنه استعارة من الجاهلية.
كأننا عشيرة تواجه عشائر أقوى منها، ولا تملك ما ترد به على غزوها غير التوصيف الذي لا يوقف غزواً ولا يرده.
إنه هرب من السياسة، هرب من مواجهة الذات، بنسبة القوة المطلقة إلى العدو… وهو بالتالي فرار من الميدان في زمن الحرب.
ولعلنا من أجل تسهيل المهمة على العدو نستدير غالباً الى واقعنا، وبدلاً من التصدي للتخلف فيه، نتلطى وراء التخلف حتى لا نتعب من محاولة التغيير، ونتذرع بعجز اللغة عن استيعاب روح التقدم لنهجرها، وكأنها نبتت فجأة بالأمس القريب، وليس لها تاريخ في الإبداع الثقافي وليس لها علاقة بالعلم والابتكار والاختراع، أو نتخذ من فشل بعض الأنظمة دليلاً على إفلاس الفكر أو عجز الأمة عن النهوض من كبوتها.
إننا نفتح الباب للهجانة ثم نتهم اللغة بالعقم.
ونطارد الرغبة بالتجدد في أجيالنا بأحد أمرين:
إما باتهامهم بالخروج على إرادتنا، وإما بعجزنا عن مقاومة الاجتياح الآتي إلينا باسم الحضارة الجديدة والذي يشمل المأكل والملبس والهوايات وعادات الحياة اليومية. فالكومبيوتر لا يشترط أن يحمل مستخدمه »الهمبرغر« في يسراه، و»الإي ميل« لا يفرض نبذ اللغة العربية واعتبارها لغة بائدة، والأخذ بجوائز ثورة الاتصالات والمواصلات لا يملي علينا أن ندمر كل تراثنا الفكري والمعماري وكل اجتهاداتنا السياسية وأن نحقر إبداعاتنا الثقافية شعراً ونثراً وما بينهما.
إننا نهشّم أنفسنا، فإذا ما وقفنا قبالة الآخر رأيناه كاملاً لا يقاربه النقص لا من خلفه ولا من أمامه.
إننا نحقّر أنفسنا، حتى ليبدو اليهودي الذي كان مواطناً لنا إلى ما قبل سنوات في اليمن أو العراق أو سوريا أو المغرب أو ليبيا أو لبنان ذاته، وكأنه صار، بمجرد تحوله إلى إسرائيلي، عبقرياً لا نظير له ولا شبيه، وأنه وُلد متفوقاً وسيبقى متفوقاً حتى قيام الساعة.
مشكلتنا ليست في الغزو الثقافي بل في الاستسلام بل الانسحاق السياسي.
إنها ليست حكاية غزو. إنه انهيار المستسلمين.
فالعبرية التي كانت بين أسلحة عدونا ليست متخلفة فحسب؛ إنها لغة مندثرة. وليست عاجزة فقط ولكنها غير قابلة للتحديث. ومع ذلك أعادوا صوغها وفرضوها على أجيالهم الجديدة، ولم تحل دون انتصاراتهم العسكرية أو السياسية ولا تقدمهم العلمي والتقني بحيث باتت إسرائيل في طليعة البلدان المصدِّرة للتكنولوجيا المتطورة.
لقد فصلنا بين العلم وبين حياتنا اليومية ، وبين طموحنا إلى غد وبين استمرارنا في وطننا وبهويتنا وبثقافتنا الوطنية التي كانت طوال التاريخ منفتحة على الثقافات الأخرى، تأخذ منها وتعطيها، كما يحدث بين الثقافات جميعاً من لقاح لغوي ومن اقتباس ومن تطوير ذاتي والاسترشاد بتجربة الآخر.
وكانت النتيجة أن نفترض أننا لكي نعيش في الألفية الثالثة لا بد من أن نخرج من تاريخنا ومن أرضنا ومن لغتنا ومن كل تراثنا الديني والثقافي والحضاري لنستطيع أن ندخل في النظام العالمي الجديد… فما دمنا نسكن التاريخ فليس لنا مع نهاية التاريخ إلا التسكع في أزقة العولمة وأن تسحقنا سنابك الخيل في صراع الحضارات.
إنها ليست حكاية غزو. إنه الاستسلام التافه والمهين، خصوصاً أنه غالباً ما يتم بغير قتال.
إننا، لشدة خوفنا من أن نُتهم بالإرهاب، كدنا نتخلى عن المقاومة ولو بأبسط أشكالها السلمية، في حين نخاف أيضاً من اتهام إسرائيل بإرهاب الدولة حتى لا تؤدبنا كمخربين للسلام!
ولشدة خوفنا من أن نتهم بالأصولية كدنا نتخلى عن ديننا، يستوي في ذلك الإسلام أو المسيحية الشرقية، وكدنا نعلن إلحادنا أو التحاقنا بمسيحية غربية مسيحها أشقر الشعر أزرق العينين وكذلك والدته السيدة مريم التي لا يمكن أن تشي صورتها بانتمائها إلى أرض الزيتون والشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط على حدود الصحراء، وفي بلدان لا بد من أن يكون أهلها سمر البشرة بعيون سوداء أو عسلية.
أي غزو؟. إنه الانسحاق تحت وطأة الهزيمة. إنه استعجال الاستسلام طلباً للراحة في ظل الهجانة.
مَن وجد جسداً ضالاً فليعده
جاءت كطوفان من المياه كان محجوزاً ثم انهار السد فاندفع يجتاح الأرض فيرتوي منها من قبل ان يرويها، ويصطبغ بلون حنتها من قبل أن يندس في أحشائها متغلغلاً في مكامن الحس حتى التلاشي.
كان طوفان الرغبة يهدر كصدى لرعد ترك برقه خلف الجبال، ووصل ملتحقاً بصخبه حيث تختلط الشهوة بالزجر، فيقتحم الأسوار والأبواب والحرس، حتى إذا ما اصطدم بالصدر المقفل على الفراغ، انكسر شلاله وانتثرت سيوله مطراً أسود على رمل الصحراء، فلا أرضاً روت ولا ورداً أنبتت ولا هي رجعت مستمتعة بنعمة الإخصاب.
محاصرة ومحصورة خلف قضبان النوافذ الضيقة لزنزانات الانفراد في سجن إقطاعي قديم، مات صاحبه وما درى السجان، ولكنه استشف الوجع المقبل من خلال بكاء ساجني أنفسهم.
ولما جاء يسألها عن سبب بكائها بكت خوفاً من السؤال ورعباً من الجواب، وفرقاً من سؤال ما بعد الجواب.
كيف تشرح له خوفها المربع: الخوف من مواجهة الخارج، هي التي لا تعرف الداخل، وخوفها من خواء الداخل المتشوق للخروج من ذاتها ولو إلى الخطأ في الخارج.
لكم حاولت اغتيال هذا الخوف فصدها الخوف في اللحظة الأولى للتفكير.. ثم أخذها خوفها بالمحاولة، فتهاوت وقد انسحقت هباءً.
هل الجسد مخيف إلى هذا الحد؟!
هل الجسد داخل الخوف أم خارجه؟!
هل هي داخل جسدها أم أن جسدها داخلها وعليها أن تستخرجه وترميه إلى الهواء الطلق في الشوارع المقفرة إلا من قطط الليل والكلاب الضالة.
أين أبناء السبيل؟!
مَن وجد جسداً ضالاً فليعِدْه إلى العنوان المضروب على لوح الصدر، بحروف مطفأة بالخوف حتى لا يقرأها إلا مَن يحتاج اليه .
تهويمات
} لا تغفر المرأة أن تفاضل بينها وبين أخرى.
إنها تريدك أن تشعرها وأن تتصرف فعلا وكأنها كل النساء، في حين تخضعك لامتحان مفتوح ازاء كل رجل تلتقيه أو تقرأ أو تسمع عنه.
} قالت لمرآتها: علينا أن نفترق، لم أعد أطيق الفضيحة التي أرى نفسي عليها فيك.
قالت المرآة: لو كان لي ذاكرة لاستخرجتك منها، لكن شرط وجودي ألا يكون لي ذاكرة.
قالت لمرآتها: ولكنني أهرب من ذاكرتي التي تستحضرينها ببلادتك وخلو مخك من الذاكرة.
قالت المرآة: ليست إلا قطعة من زجاج مطلي بالزئبق، فارحميني.
قالت لنفسها: ذهب الزئبق ولم يبق مني إلا الزجاج وموعد الانطحام.
ثم التفتت الى مرآتها بغضب: أيها الشاهد الأبكم، الأعمى، البلا حس، سأحرر نفسي منك الآن…
أدارت المرآة الى الحائط فسمعت حشرجة نحيب ثم أفاقت على دموعها وهي تكرج على خديها وتنساب عبر العنق لتطفئ لهيب الذاكرة.
} قالت بنت السبعين: إهدأ أيها الشاب، حياتك أمامك فلا تهدرها بالتعجل، اشربها بعينيك، لا نعرف قيمتها إلا قرب النهاية.
قال: لماذا تتحدثين كعجوز؟!
قالت وهي تسوي شعرها: لست كعجوز يا أحمق بل كصاحبة تجربة عريضة.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ليس الحب سجناً يغلق المحبون أبوابه عليهم فينعزلون عن الناس خوفاً منهم على حبهم. لا يكتمل الحب إلا بالناس، ولا يزهر ويشع فرحاً وألقاً إلا وسط الناس. من حجب حبه بذريعة الخوف فهو أضعف من الحب، ومن حجبه بذريعة أن الناس لا يستحقون هو أصغر من الحب. حبيبي يحرّضني دائماً أن نكون بين الناس لكي نعطيهم حباً ونأخذ منهم حباً أعظم.