رفيق المعلوف يرحل إلى أستاذه المتنبي…
ضاق الباب عن قامته الشامخة، في زيارته الأولى، وحين هدر صوته الجهوري بالتحية اكتشفت، فجأة، أن مكتبي أضيق مما يجب. قال: أنا رفيق المعلوف. أفترض أنك تعرفني قليلاً، أما أنا فأعرفك كثيراً.. «السفير» هوية بخطها الوطني الثابت وعروبتها الصافية.
قلت، أرد التحية بمثلها: والمعالفة هوية، شعراً ونثراً، صحافة وأدباً، وعروبة…
كان يحمل إليّ ديوانه الفخم «حداء وادي الشجن» الذي يضم في صفحاته الأربعمئة «فصولاً من تاريخ التراث والنكبات للعبرة والشفاعة والذكرى»…
ولقد دهمني وأنا أقلب الصفحات وصوته المليء بالحماسة يصلني وهو يتابع تقديم نفسه، طيف أبي الطيب المتنبي، لا أدري لذلك سبباً، قبل أن يتعزز التشابه لاحقاً وعبر رحلة القراءة الممتعة في شعره الجيّاش بالطموحات المكسورة والعواطف النبيلة والخيبات ومرارة انحطام الآمال.
قال إنه يريد أن يعطي «السفير» بعض ما ينقصها، ورحبت منساقاً مع تقديري الشخصي لتاريخ هذه العائلة البقاعية، أصلاً، مع تفرعات في المقلب الكسرواني، في علاقتها بالثقافة عموماً، والشعر خصوصاً… وهي التي أنجبت ثلاثي عبقر الشعر: فوزي ورياض وشفيق المعلوف، وقد تنافسوا في ما بينهم ثم مع سائر الشعراء العرب الكبار لتجديد الشعر وضخ قدر من المعاصرة فيه…
كذلك فلقد أتاحت لي أيامي أن ألتقي كبيراً من لبنان وسائر بلاد العرب هو الأستاذ نصري المعلوف، الأعظم أناقة في هندامه وحديثه وغرامياته وذاكرته التي رفضت أن تهرم فظلت نبعاً متدفقاً يطلق قصائد الغزل أسراب فراشات ملونة، وإن ظلت للمتنبي منزلته المميزة… وكان هذا الشاب الذي لا يشيخ نجم السهرات وجلسات الأنس، وكان نصيبي منها تلك التي تعقد في منزل الصديقين أحمد وهلا الزين، وبالتحديد مع كل قدوم للخال سليمان الزين خدين نصري المعلوف ورفيق عمره. كما أنني سعدت بتلبية بعض دعواته إلى منزله المميز بأناقاته في عين القبو.
ثم إنني أكنّ تقديراً خاصاً لتجربة رشدي المعلوف في جريدة «الجريدة»، ثم مغامرته في جريدة «الصفاء»، ولإنتاجه «النوعي» ممثلاً في «الزميل» الذي غادرنا (والمهنة) ليصير واحداً من كبار الروائيين المعروفين على المستوى الدولي، أمين المعلوف.
في المرة الثانية جاءني رفيق المعلوف يتوكأ، بقامته العملاقة، على عصا. لكن إحساسه بالتفوق، حتى في الظلم، لم يغادره، وإن منعه من أن يرهن قلمه. وظل الطموح عظيماً، وإن عزت الإمكانات.
ولسبب ما كنت أفترض، كلما أطرق لحظة قبل أن يستأنف كلامه، أنه إنما يبحث عن «سيف الدولة»، متوقعاً أن يستجيب إلى ندائه ذات يوم فيطل من عليائه ليشهد له… وهو الشعور الذي كان يرافقني وأنا ألتهم قصائده التي وجدت فيها ما يكمل الخاتمة لديوان أبي الطيب.
هل أنت من تأخر عن زمنه، يا رفيق، أم نحن من عاد القهقرى إلى الجاهلية؟
ثم إنك كتبت، كما المتنبي، لقراء محددين ومعدودين، لكن هؤلاء ـ مثل أولئك ـ لا يقرأون.
كان يغيب طويلاً ثم يطل عليّ فجأة وقد تأبط سفراً جديداً. ولما جاءني بمجلد «سفر الأيام» (2008) وهو يقع في تسعة عشر جزءاً، ويضم أبرز مقالاته في نصف قرن، دهمني الإحساس بأنه دخل في مرحلة الوداع.
مع «سفر الأيام» جاءني بدراسته التاريخية التوثيقية الجامعة لخصائص الطباع «النفس العربية وجذورها الكيانية منذ خمسة آلاف سنة».
كان فخوراً بقحطانيته، تماماً مثل أستاذنا نصري المعلوف الذي قال إنه أعاده إلى جذوره، في أسرة توارثت أجيالها سر البلاغة جيلاً بعد جيل حتى بلغت القمة مع النابغة الذبياني:
فصحيح أنني ورثت المعالي وتدثرت صهوة العبقرية
قومي استعمروا المجاهل في البدء وصكوا تمائم الأبجدية
كذلك كان متيماً بحب زحلة:
أبل نسيم زحلة فاستفيقي وصبي جام سحرك في عروقي
وبردوني زحـلة مسـتهام يوشوش وارف الشـجر الوريق
ولأن عباقرة آل المعلوف يسكنونه، مثلهم مثل المتنبي، فتراه في واحدة من ليالي النجوى يهاتفه:
شفيق يا رائداً في عصبة فتحت
أبواب أندلس القصوى لمن طمحا
دعوك من جارة الوادي إلى بلد
جارت عليه الليالي والزمان لحى
عد، إن زحلة لا ترقى مدامعها
شال السرور بها والغم قد رجحا
ربما كانت فجيعة رفيق المعلوف بنجله فيصل، أوائل التسعينيات من القرن الماضي، في جملة أسباب انطوائه، هو الذي يطلب الصدر ولا يقبل الالتحاق، وهكذا فقد عكف على الكتابة فأنتج مخطوطات عدة بالعربية والفرنسية تنتظر من يظهرها إلى النور…
على أنه، منذ كتب السطر الأول وحتى يومه الأخير، كان يتخذ من المتنبي صديقاً ورفيقاً في الطموح كما في الانكسار، معتبراً أنه أشعر العرب… وربما لهذا فقد انصرف منذ أيام الدراسة إلى كتابة «حداء وادي الشجن» بخط يده، بالخط الفارسي الأنيق مشكولاً ومشروحاً في حواشيه، وبإخراج فني رائع يكاد يداني اللوحات.
ولقد رحل «متنبي» أيامنا، رفيق المعلوف، من دون أن يعثر على سيف الدولة، ومن دون أن يحظى بالتكريم الذي يستحق.
«أفلست أروع آية رسمت وأبلغ ما انكتب
ويكاد ربك ذلك الوهاب يعشق ما وهب»
… وهذا نتاجه مكتبة كاملة… ولكن أين القراء؟ أين المتذوقون، وأين من يقدّر الشعر والشعراء، ولو بحجم المتنبي؟!
جودت نور الدين في مملكة خربة سلم!
يعتكف جودت نور الدين في قلب هواياته: الخط العربي والتصوير الفوتوغرافي وسماع الموسيقى، في ضيعته خربة سلم، بعد دهر الخدمة في الدولة بمنصب «سفير»، منصرفاً إلى العناية بحديقة منزله الريفي، مستعداً لاستضافة الوحي متى جاءه، أنتج ديواناً جديداً، وها هو قد دفع إلى المكتبة «مملكتي من هذا العالم».
يرى جودت نور الدين أن «الشعر أكثره اكتشاف وأقله إبداع والعبقري جمع في فرد»: أنا الوهم… فافرح بأنك طيف!
كذلك فهو يرى أن «الشعر مهر حرون، لا حمار مقود»:
إنما الشعر ضيق الباب فاخلع عنك أصداف مضمرات الجمان
وتبتل في بيته وتناول سر خمر وعاه قلب الدنان
ولأنه كان سفيراً فقد تجول في عواصم كثيرة، أحب بعضها فأسكنها بيتاً في قصيدة، وتجاوز عواصم أخرى إلا بإشارة عابرة.. أما الإسكندرية فقد أغوته:
«أديري على ذكرها المبخرة لما قد رأيت وما لم أره
وحوطي عجائبها بالرقى هي إسكندرية يا اسكندره
ومكتبة عد أسفارها مئات ألوف سنت مبهره
هنيئاً لك العز عهد المعز بأسطولك السيد السيطره»
وعبر التجوال كانت تستوقفه الأنهار، لا سيما تلك التي تنشئ العواصم وتزينها:
آنست نهراً هادئاً أزرق يجري لبحرها الأسود. ذاكم هو الدانوب.
وعرفت نهرا دافقاً أبيض، على أزرق يجري لبحر صاخب أبيض. ذاكم هو النيل.
في بحر الميت يفور نهر حي وبحرنا الأحمر لا رافد، لا ري»
جودت نور الدين يرى أن أرواحنا الفردية منبثقة من الروح الكبرى في هذا الكون. والشعر ـ كماهية ـ هو شوق هذه الأرواح الجزئية إلى تلك الروح الواحدة».
هنيئاً لك أيها السفير الذي اخترت الآن أن تتفرغ لهواياتك… بلا بروتوكول.
هيا زيادة تسافر إلى التعب.. يأساً!
لم يكن «النعاس» هو الثوب الذي ارتدته هيا طارق زيادة في «سفرها» الذي شكل السؤال عمن يضيء قمراً للعابرين، بينما خيمة من المرارة والتعب من الناس تظلل رحلتها في «قطار لا يعود بمسافريه وأسئلة تسرد هشاشة الوجود».
نبرة اليأس، الخوف، الرحيل و«الحيوات العقيمة التي تطفئ قناديلها باكراً» تطل من كل كلمة، وتظلل الصفحات التي يكاد يملأها فراغ لا نهاية له» مع «الصقيع الذي يصيب الروح في حدائق العزلة».
يأخذك العجب من على البعد، وتشفق على هذا القلم الشاب الذي يتعامل مع «بقايا حياة»، بينما باب الحياة بتدفقها الهائل وغنى التحولات فيها حيث يبقى للفرح حيزه الواسع وحيث المساحة مفتوحة أمام من يريد أن يعطي الحياة فتعطيه.
«تكتب امرأة الظلال ألمها الرقيق. تهمسه كتاباً تلو الآخر ثم تحث الخطى إلى حيث لا ينتظرنا أحد فنرى في الضباب باباً لا ضرر من قرعه».
وطالما أن «للغياب وجه التعب» فلماذا لا يكون للحضور وجه الفرح؟
ثم لماذا نتعامل مع الحياة وكأنها بقايا؟!
«ذات يوم سنحمل بصمت حقائب السفر لنجدها فارغة إلا من بقايا فتات حياة هزيلة».
من قال إن الحياة هزيلة. الحياة الناس. الحياة الحب. الحياة الشمس والورد، الشعر والموسيقى، الشباب وروح التحدي: نعيشها بقوة إرادتنا قبل أن «نرحل إلى النسيان حاملين الحزن بخفة وصدى الخطوات إلى سفر التراب»..
وليس صحيحاً أن «لا شيء يحصل تقريباً ولا حياة تدور، بل مجرد وهم يتبدى وظلال».
الصحيح أن الحياة تعطينا بقدر ما نسهم في صنعها. نحن اللون ونحن المعنى. لأننا نؤكد بالحضور قدرتنا على صياغتها.
ما أوسع الحلم. هذا صحيح. لكن العالم أوسع. والعالم هو الإنسان.
عسى أن تفيق هيا طارق زيادة من نعاسها الطويل الذي يجعلها تنسى أن تعيش حياتها… باتساع أحلامها.
عبد الغني طليس عندما يكون الكل…
منتشر عبد الغني طليس بحيويته الفائقة، شعراً ونثراً، كتابة سياسية وزجلاً، ومقدماً لبرنامج تلفزيوني ممتاز يتيح له أن ينصب من نفسه لجنة امتحانات للشعراء ـ لا سيما كتاب الأغاني ـ والمطربين والمطربات والموسيقيين والجمهور معاً.
وهو قد كتب ولحن عشرات الأغاني، وغنى من نظمه وديع الصافي وراغب علامة وسلوى القطريب وعاصي الحلاني وغسان صليبا…
بل إنه قد لحن ست قصائد لسماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله.
النتاج الجديد، يحمل عنواناً طريفاً: «ما تيسر من عبد».
جديد عبد الغني طليس يضم قصائد بالمحكية والفصحى ومقالات في السياسة وبعض أسرار الأخوين رحباني وقصائد «جديدة» لعاصي.. أي إنه يضم أفضل ما عنده من كل فن دفعة واحدة:
«قلت اخصبيني فهذا نهرها طفحت
به سهولي، هنا قمح، هنا رطب
سمعت فيها حفيف الموت من ولع
وكنت أدرك ما من موتنا هرب»
ولكنه، بوصفه ابن بريتال البار، بوابة بعلبك، لا يطيق انتظاراً:
قالوا انتظر أملاً فقلت أنا معي
أملي ولست مع الذي انتظر الأمل
وقال:
لو أن روحك جاءت من يدي أحد أرادها لك عاراً.. ردها الروح
وقال في الأم:
رأيتك في وداع الأم صلبـا لمـن أجلـت دمـع الانكسـار؟
ولأن الكتاب الجديد كشكول فيه النثر والشعر والحكمة والغزل والمواقف من الحياة وأهوالها، فهو لم يغادر شيئاً إلا وقال فيه بعضاً من رأيه: المحامي كليم، غير أن العيب فيه أنه يطيل القول حتى في القصير. وأما نلسون مانديلا فقال عنه:
يسائلني صبراً جميلاً وإنني
عرفت جميل الصبر في أبشع الصبر
والحكمة التي يتوّج بها «عبد» كتابه الجديد: نحتاج مئة عام، ربما، لنعي أن الحياة مضت في شكل ملهاة.
ألست تنوي الكتابة للمسرح يا صديق الرحابنة وفيروز، أيها البعلبكي الذي يحاول أن يكون الكل معاً وفي وكل زمان ومكان.
مــن أقــوال نســمة
قــال لـي «نسـمة» الــذي لم تُعــرف له مهــنة إلا الحب:
ـ أفسح لحبيبك مساحة للدلال، ومساحة أخرى للغضب. بعض غضب الأحبة دلال أساء التعبير عن نفسه… ربما لامتحان قدرتك على العطاء.
أعطِ حبيبك. العطاء حب خالص.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان