عند أبواب القدس: تراها بقلبك وهي ترحل بعيداً
لم تكن بيننا سابق معرفة، لكن الدمغة الفلسطينية في لهجته، فضلاً عن كنيته التي تكاد تدل على بيته في مدينته القريبة من القدس، وتلك اللهفة المتعجلة في كلماته جعلتني أهتف به: أنا في انتظارك على الفور.
دخل يتقدمه ارتباكه. قال: آسف ان أكون قد فرضت نفسي عليك من دون سابق معرفة وبغير موعد… لكنني لم أشأ أن أغادر بيروت التي وصلتها قبل يومين إلا بعد المرور بكم كي أشد على أياديكم وأحيي مجهودكم في «السفير» في إصدار ملحق «فلسطين». إنكم تعيدون بعث قضيتنا التي لن تموت إلى صدارة الاهتمام. انها مبادرة نبيلة. انكم تحيون في صدورنا الأمل. اعذرني على ارتباكي… لكن طائرتي ستقوم من مطار بيروت لتعيدني إلى مقر عملي بعد ساعتين. وها قد جئت أقول لكم: شكراً!
مع القهوة كان قد هدأ روعه. قال: سأروي لك ما وقع لي قبل أسبوع. انطلقت من عمان في اتجاه فلسطين، أقصد ما تبقى منها. عند حاجز الجسر سألني الضابط الاسرائيلي: أين ستقيم؟! وأعطيته عنواني في رام الله. حدجني بنظرات الريبة، وقلب صفحات جواز السفر فوجد أختاماً لبلاد عدة. سألني: كنت في الولايات المتحدة الأميركية؟ أجبت: لخمس عشرة سنة. درست هناك. دقق: وماذا درست؟ أجبت: الهندسة الميكانيكية. ثم عملت هناك خمس سنوات أو يزيد. وبعدها جئت بعقد عمل إلى بعض إمارات الخليج. سأل عمن تبقى من أهلي في «الأراضي» وأين يقيمون، وهل من بينهم موظفون في «السلطة». سأل عن أسرتي وهل هي في «الداخل» أو حيث أعمل. وبعدما اطمأن إلى دقة إجابتي ختم جوازي وهو يقول: إلى رام الله. هيا.
أكملت سيري ضمن القافلة التي تنطلق فتمر على حواجز لا تنتهي، في مسافة لا تصل إلى خمسين كيلومترا، لكنها قد تستغرق معظم ساعات النهار. لا يمكنك ان تتصور أهوال هذه الرحلة التي كنا نقطعها في ساعة أو أقل.. ولن أحدثك عما يتعرض له العابرون من الإهانات المتعمدة والمبتكرة والتي تشعرك في كل لحظة انك «دخيل» و«مشبوه» ان لم نقل انك «عدو مبين» إلى ان يثبت العكس.
صمت لحظات يغالب تأثره، وحين عاد يكمل الرواية كان الدمع يخالط صوته… قال:
ـ في اليوم التالي قررت زيارة بعض أهلي في القدس.
استدرك بحرقة: لم يعد يكفي ان أقول: القدس. لا بد أن أضيف «الشرقية» أو «العربية» لتعرف قصدي. لم يعد لنا من القدس، عملياً، إلا ثلثها أو أقل. أما المسافة بين رام الله والقدس فهي، بتعبير العامة، ضربة حجر. بدقائق قليلة تنتقل من «جنة» السلطة إلى «جحيم» الاحتلال… وكان لا بد من الوقوف عند حاجز للتدقيق في هويات العابرين إلى القدس. ليس من حق الفلسطيني، أي فلسطيني، الآن، ان يزور القدس. انه يحتاج إلى ترخيص خاص. أنت في حاجة إلى إذن خاص لدخول بلادك، ثم انك في حاجة إلى ترخيص للعبور من منطقة إلى أخرى داخل الضفة. أما القدس فلا يدخلها ابن رام الله أو أية قرية مجاورة إلا بإذن خاص. القدس ليست من «فلسطيننا». انها من «اسرائيلهم». لم يعد للفلسطينيين علاقة مباشرة بالقدس. للمقدسيين «هوية» خاصة تعطيهم ـ نظريا ـ حق العبور من القدس وإليها. أما سائر الفلسطينيين فممنوعون حتى من زيارتها إلا… بترخيص!
طلب الجنود جواز سفري فمددته اليهم، دقق بعضهم في الاختام، ثم قال لي رئيسهم: ليس لديك تأشيرة لدخول القدس. عد من حيث أتيت.
صعقني كلامه بلهجته الحازمة… لكنني تمالكت نفسي، وحاولت مجدداً: لكنها مدينتي، فيها بعض أهلي، وهم أبناؤها منذ مئات السنين.
قاطعني بشيء من الحدة: تأشيرتك لا تسمح لك بدخول القدس، وليس لدي وقت أضيعه معك في مناقشة أمور الملكية. هيا، تراجع، ثمة من ينتظر خلفك.
تماسكت حتى لا تفضح عاطفتي عجزي… وعدت أدراجي، أغالب نفسي فلا أملك إلا ان أستدير، بين خطوة وأخرى، لألقي نظرة على مدينتي، عاصمتي، أولى القبلتين وثالث الحرمين. قدسي أمامي ويغصبها مني محتلها. سحّ الدمع فغطى وجهي… وحين التفت مرة أخيرة، كانت عيناي مغشيتين بدموعي فلم أتبين ملامحها المطبوعة فوق صفحة وجداني وفؤادي وذاكرتي وبؤبؤ العين. أبكاني القهر، يا أخي… خصوصاً أنني لا أعرف ان كنت سأتمكن لاحقا من دخول جنتها. غرقت في خوفي من ان أكون قد حرمت منها إلى أمد غير معلوم. وعاندتني ذاكرتي فأخذت تستعرض ملامحها بأحيائها القديمة والمجددة منها، بحاراتها وكنيسة القيامة ودرب الآلام، بقبة الصخرة ومسجد عمر. بحي الشيخ جراح الذي يكاد الاحتلال يزيله برمته… بتفاصيلها التي تنطوي على شميم النبوة وعطر القداسة وذكريات الأجداد التي طالما عززت شعورنا بالانتماء إليها.
رشف بعض قهوته، الباردة الآن، وتنهد بحرقة قبل ان يضيف قائلاً:
ـ لكن مفاجأة اخرى، أقسى وأمر، كانت في انتظاري في البيت في رام الله. فبعد ساعتين او يزيد قليلاً من عودتي خائبا من عند الحاجز الذي ردني عن القدس، تلقيت اتصالاً من ضابط في «مخابرات السلطة».
بعد تحية قصيرة سألني بلهجة أحسست ان فيها شيئاً من التشفي:
ـ كيف كانت زيارتك للقدس؟!
استفزني سؤاله الذي يدل انه يعرف ما وقع لي. يعرف؟! إذن فإن مصدره المخابرات الإسرائيلية. إذن فالتنسيق مع الاحتلال يشمل تفاصيل التفاصيل. إذن فشرطتنا «الوطنية» هم في موقع المخبرين لشرطة الاحتلال ومخابراته. ولم يكن في لهجته أي حرج وهو يخبرني، بأسلوب ملتوٍ ان المخابرات الإسرائيلية قد أخبرتهم بمغامرتي لزيارة أهلي في القدس!
صمت ضيفي للحظات. دارت عيناه في أرجاء المكتب كأنما يشاغل نفسه عن بعض فصول مأساته، قبل ان يعود الى الكلام ليقول:
ـ كيف السبيل الى كسر الحصار. ان العالم بأجمعه يحاصرنا، وفي الطليعة منه أهلنا. ان السلطة في معظم أرجاء الوطن العربي تعمل في خدمة الاحتلال الإسرائيلي. انظر من حولك.. لا مكان لنا في أرضنا. لا مكان لنا بين أهلنا. ثم ان ما اسميت «الشرطة الوطنية» تعمل بالسخرة، او بالأمر، لا فرق، لدى سلطات الاحتلال. ان اخوتنا ممن أغوتهم «السلطة» فأخرجتهم من وطنيتهم عملاء عند الإسرائيليين، مجرد مخبرين. وفي تقديري إنهم اخطر علينا من الإسرائيليين. انهم منا وفينا. انهم بعض أهلنا، ويعرفون كل شيء عنا. انهم طابور خامس.
[ [ [
قام الضيف الذي جاءت به المصادفة متعجلاً ليلحق بطائرته، من دون ان يتسنى لي ان أخبره عن رحلتي اليتيمة والاضطرارية والمبتورة الى القدس، بصحبة شهيد فلسطين والأمة العربية غسان كنفاني.
الحكاية طويلة وموجعة التفاصيل: من بيروت الى القدس، عن طريق عمان، لحضور اعلان قيام منظمة التحرير الوطني الفلسطيني، والتئام اول مجلس وطني فلسطيني في القدس. كان غسان كنفاني عضوا في المجلس، فضلاً عن كونه رئيس تحرير «المحرر» في بيروت. وكنت مديراً لتحرير «الصياد». ولقد جمعتنا المصادفة في طائرة واحدة وراهن كل منا الآخر انه سيمنع من الدخول. قلت: ولكنك «نائب» الآن، وعندك حصانة…
أما أنا فمجرد صحافي. منعك يثير ازمة، أما منعي فلن يعرف به أحد.
في مطار عمان، ومع وقوف طائرة «الداكوتا»، فوجئنا بشرطيين يسدان الباب الذي انفتح كي يغادر الركاب طائرتهم الصغيرة. هتف احدهما باسمي، فرفعت يدي، قال: لا تنزل، ابق في الطائرة! وحين التفت الى غسان متباهيا، سمعت صوت الشرطي يلعلع من جديد: غسان فايز كنفاني! ورد لي غسان التحية بأحسن منها… بعد نزول الركاب جميعاً، صحبنا الشرطيان الى صالة فقيرة في المطار القديم (وكان اشبه بهنغار)، وهناك استقبلنا ضابط شديد ببرودة قاتلة، حتى لقد امتنع عن مد يده لمصافحتنا. كل ما قاله كلمة أمر للشرطيين: خذوهما الى الرمثاء (على الحدود الأردنية ـ السورية)… وبعد جدال حاد، فهم من خلاله اننا ممنوعان من دخول سوريا، وان غسان كنفاني محكوم فيها ـ غيابيا ـ بالإعدام، راجع قيادته، وطلب إلينا الانتظار في المطار الفارغ إلا من حقيبتينا. طالت المراجعات حتى كاد الليل ينتصف. وفي نهاية الأمر سمح لنا بأن نذهب مخفورين الى مديرية المخابرات لتقرر في أمرنا. وفي المديرية قرروا ان يسمحوا لنا بالنوم، بصحبة شرطي، في فندق قريب، لنغادر مع الفجر عائدين الى بيروت بالطائرة.
ولحسن حظنا، كانت الطائرة تقوم من عمان الى القدس ومنها تتابع رحلتها الى بيروت… وقدرنا اننا لا بد سنجد في مطار قلنديا من يعرفنا، او من يمثل المجلس الوطني الفلسطيني فيتعرف الى «النائب غسان كنفاني»، فيتدخل بنفوذه ليسمح لنا بدخول جنتنا الموعودة: القدس!
ما زالت الصورة اليتيمة للقدس والطائرة تحوم فوقها ثم تدانيها مقتربة من مدرج المطار الصغير تسكن وجداني: كان غسان يدلني على معالمها بأسماء أحيائها وبُناتها الذين أعطوها تاريخها والهوية.
وحين توقفت الطائرة أخيراً كنا في نشوة غامرة، الى ان أفقنا منها على صوت الشرطي الذي يسد بابها هاتفاً باسمينا، طالبا ان نبقى في الطائرة الى ان ينزل الركاب. برغم ذلك لم نفقد الأمل. ظللنا نفترض ان أحداً ما سيتعرف إلينا، او أقله الى «النائب» غسان كنفاني فيعوضنا عن الطرد بحفاوة الاستقبال والتكريم ومصاحبتنا الى المجلس الوطني الفلسطيني معززين موفوري الكرامة.
لكن شيئاً من ذلك لم يحدث… بل مكثنا لخمس واربعين دقيقة في صالة الترانزيت الضيقة بمطار قلنديا، ثم اقتادنا شرطيان الى مقعدينا في الطائرة وتولى احدهما ربط حزامينا، قبل ان تقلع بنا وقد بقي قلبانا يحومان حول القدس التي تعيش في وجداني حتى آخر أيامي كطيف مقدس.
كل ما اختلف هو «هوية» الشرطي!
كل ما اختلف ان الاصيل قد جاء فحل محل الوكيل!
الشعلة المقدسة تكتب هنري زغيب… مسموعا!
كثيراً ما دهمني الإحساس بأن هنري زغيب جماعة منتشرة في أربع جهات لبنان، وليس فرداً مفرداً، قلمه أطول من يده، وصوته أضخم من جسده، وحضوره مشع ولو عبَر كنسمة طرية في صيف قائظ.
انه في كل الأمكنة في آن، ناثر هنا، أقرب الى الشعر هناك، راوية هنالك، معلق حيث تفرض الضرورة، رحباني متى رق، سعيد عقلي متى أخذته العزة بالاثم، محرر مجلات، مراجع كتب، ثم انه يكتب على الهواء متى شاء ولا تخطئ رسائله العناوين.
دقوا على الخشب: هو معنا الآن بنتاجه الإذاعي، وقد نجده غداً بإنتاجه التلفزيوني.
ثم انه قد لمّح في كتابه المسموع الذي بين أيديكم انه ينوي اقتحام عالم الانترنيت والفايسبوك وما يستجد في هذا العالم السحري.
يكفي انه استطاع ان يضع نقطة على الحرف عبر الأثير، وها ان بين ايديكم مختارات من 858 حلقة اذاعية، تؤرخ لنا مرحلة نوعية في فكره ومعالجاته رافقت فترة نابضة من حياة ثقافية وسياسية واجتماعية تميز بها العام 2009.
على انه يعترف، صراحة، بأنه ليس الكاتب، ولا المحرر، ولا صاحب الأفكار. فهو يستهل الكتاب بإرجاع الفضل الى أهله… فإذا الشعلة المقدسة، وهو الاسم الحركي للتي في باله وخاطره وقلبه وقلمه، هي المبدع والمنتج والناشر.
إذا كانت الشعلة المقدسة «هي التي أشرقت شرارتها الجديدة ذات فجر»، وهي التي «لولاها لغابت هذه النصوص بعد إذاعتها ولضاعت خلف موجات النسيان…»، وإذا كانت «الشعلة المقدسة هي التي بحثت ووجدت وأشارت ثم تابعت وقرأت واقترحت، ثم جمعت وعنونت وبوبت»،
وإذا كانت هي التي «لمست بعينيها الرائيتين منذ النقطة على ازرق ميرو حتى النقطة على الحرف الأخير»، وإذا كانت الشعلة المقدسة تتزنبق تواضعاً وتقول: «لا فضل لي إنت الكتبت».
إذا كانت الشعلة المقدسة هي التي فعلت ذلك كله فلماذا الحديث عن هنري زغيب، لا سيما انه قد رفع اليها كل نقطة على حرف هذا الكتاب؟!
ثم ان هنري زغيب قد ملأ الفضاء بكلماته قبل أن يلبي مطالبات الأصدقاء والمستمعين فيجمعها في الكتاب الذي بين أيديكم كي لا تضيع بعد سماعها… وصار بوسعه الآن ان يوزعها على أولئك المسؤولين في المدارس، وعلى من استذكروا معه عبارات رسخت في بالهم… فاطمأنت نفسه والتمس التواصل مع مستمعيه عبر وسائل الاتصال جميعاً من الصوت الحي الى الإلكترون!
عين ترصد وقلم يدوّن وصوت يعبر.
لم يتهاون مرة واحدة، ولا في نص واحد، عن ان يصعب بتطلّب النصاعة في نسج النص، مضموناً وأسلوباً، ككتابة أية قطعة أدبية.
فالنثر عنده يشتغل عليه كالقصيدة: يكتب، ينقح، يصقل، ينقي كلماته من غبار المألوف والسائد كي يبقى النص ساطعاً عبر الإذاعة كما في كتاب.
التعليقات التي كانت موجهة الى الأذن وتجاوزتها الآن الى العين. شملت كل ما وقع عليه البصر، من فندق صوفر الكبير الى ضرورة إطلاق الموسيقى الكلاسيكية في الصفوف كما في الملاعب،الى افتقاد العنزة التي كانت تتقدم العرض العسكري في عيد الاستقلال، لهفي على لحم الماعز في مائدة صباحية في ضيعة آل زغيب. في موطنهم الجبلي وقبل أن تهجر كثرتهم الى يونين البعلبكية!
الى المطالبة بأن تجري الاستشارات النيابية على أنغام الجاز المتعددة ضمن الوحدة… ولك أن تختار من شئت من جماعة النواب فتمثلهم يتنطنطون على ايقاعات الجاز. حلوين!
الى ظاهرة ان النساء العربيات لا يتاح لهن بلوغ كرسي المشاركة في الحكم إلا في ثياب الحداد على زوج أو شقيق أو راعٍ.
الى ما لا يحصى من الاهتمامات التي تتجاوز لبنان الى كندا مروراً ببعض عواصم أوروبا الجميلة وملكتهن باريس.
كل ذلك قاله هنري زغيب عبر أمواج صوت لبنان، وها هو يعيده علينا مكتوباً… ولعله ينوي أن يكرر مثله قريباً في الفضائيات.
هنري زغيب لا يعرف البطالة، وأظنه يفكر الآن بعنوان لكتابه الجديد حول هذه الأمسية.
أما وردة الزامل فتجلس مطمئنة الى أن هنري قد أنتج خلال هذه الساعة عشر حلقات بعشر نقاط على عشرة أحرف.
مبروك هنري… أيها الرجل الذي لم يعرف البطالة!
(كلمة ألقيت في نقابة الصحافة، احتفاءً بكتاب هنري زغيب
«نقطة على الحرف»)
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ألفت أن أسمع جاري العجوز يدندن «أنا في انتظارك».. ذات يوم، تجرأت فسألته: أتغني لأم كلثوم أم لها؟
أجفــل، ثــم دار بعينــيه في الأفــق المفتــوح قبــل أن يقــول مــن دون أن ينظــرني: وهــل غنتـها أم كلـــثوم إلا لنـــا؟!