قراءة في الفلك العربي … المكسوف!
حارت البرية في أمر الكسوف، ولماذا خيّب آمال الناس في لبنان والمنطقة العربية من حوله، فلم يهبط الليل في غير موعده لتشرق الشمس مرة ثانية، خلال دقيقتين أو أكثر قليلاً، ولم يرتفع صياح الديكة لمشهد نجوم الظهر في عز النهار!
والحقيقة البسيطة التي سهى عنها الناس، ربما بسبب الذهول المواكب لهذه الظاهرة الطبيعية الخارقة، هي أن »الكسوف« مكتمل »تحت«، في البلاد المعنية، بحيث سيبدو أي »كسوف« فوق ناقصا وأقل من المتوقع، بل أقل من »الواقع«.
يقارن الكسوف بالاكتمال،
أو يقع الكسوف في المكتمل.
فأين وكيف هو الاكتمال، في مختلف وجوه حياتنا، لكي نلحظ النقص في الكسوف؟! وأين وحدة القياس بحيث نقول، مثلاً، إن الكسوف حصل بنسبة كذا أو كذا في المئة أو في الألف أو في المليون؟!
إن حكوماتنا »مكسوفة«، بأي معنى شئت،
مكسوفة في السياسة، ومكسوفة في الاقتصاد، ومكسوفة في الإدارة، الخ.
والديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان مثل حرية الرأي والتعبير والتمثيل وتكافؤ الفرص لم تظهر في حياتنا مكتملة بعد لتنكسف.
والعدالة في بلادنا أصابها كسوف أبدي، وكلما اجتهد بعض رجال القضاء وبعض أهل القانون وبعض أصحاب الإرادات الطيبة لتحريرها من »ظلمة« قمر الحاكمين بأمرهم، أُخرجوا من »مدارها« وأُجبروا على التحديق في العتمة حتى العمى.
وجيوشنا مكسوفة، فهي قوية في الداخل وعليه، ضعيفة أو مستضعفة أو مسترهنة »للخارج« حتى لتكاد تكون له وليس لأهلها: سلاحها منه بقدر ما تندرج في مخططاته، وتدريباتها ومجال مناوراتها وأهدافها المقررة و»الأعداء« المحتملون يحددهم »الخارج«.. وهؤلاء »الأعداء« ينتمون في الغالب الأعم الى »الداخل« أو يمتون إليه بصلة قربى.
شعاراتنا مكسوفة، تماماً كالأعلام المنسية فوق بعض المباني الحكومية، تهاوت ألوانها والدلالات، وتمزقت أطراف قماشها بفعل تناوب الريح والشمس والمطر والغبار على العبث بها، بعدما فرغ من استثمارها أولئك الذين تستروا بها واتخذوا منها وجوههم لكي يصلوا إلى السلطة، وبعدما وصلوا صار همّهم أن يمسخوها حتى لا يظل الحساب مفتوحا على خطر انكشاف الحقيقة: إنهم »خارج« الشعار، بل هم »نقيضه« وفي النتيجة هم قتلته، فبأي شرعية يحكمون؟!
الكسوف شامل، وقد أصاب كل المؤسسات وكل الناس وكل المسميات، فأين »سيقع« أو »سيتجلى« الكسوف الجديد؟!
إن الظلمة كاسحة وراسخة، فكيف السبيل إلى تبيّن خيوط واهية لعتمة طارئة ومؤقتة وعابرة في قلب الليل البهيم؟!
على امتداد هذا الوطن الكبير المنداح بين »بحر الظلمات« الذي صار اسمه الآن »الحلف الأطلسي« وبين »بحر العرب« الذي بات الآن مرسى الأسطول الأميركي السادس والأسطول السابع والأسطول الملكي البريطاني بينما انتشرت القواعد الجوية والبرية لجيوش »التحرير« الآتية من أقصى الأرض لمساعدة الشعوب المستضعفة في هذه المنطقة على التخلص من خطر العروبة الاستعماري البغيض، ينداح الكسوف كاملاً بنسبة مئة في المئة، شاملاً لا تكاد تخرج عليه أو منه »نجمة« واحدة تبث قطرة نور، فإن لاح مثل هذا الخطر انقضت عليها وحوش الظلام فاغتالتها أو دمرتها تدميرا بحيث تكون عبرة لمن يعتبر.
لا مجال لأي كسوف، عربياً.
فالكسوف يقع للمكتمل.. وليس ثمة ما هو مكتمل أو ينذر بخطر الاكتمال بحيث نخاف عليه؟
وحدهم رجال الدين كانوا على شيء من الاضطراب في مواجهة الكسوف »الجوي«، ذلك أنه حدث في نطاق »مياههم الإقليمية«!
لقد تعوّدوا أن يستعينوا على الناس »تحت« بادعائهم تمثيل مَن هو »فوق« والنطق باسمه وإصدار أحكامهم استناداً الى سلطة خوّلوها لأنفسهم نيابة عن الذي لا يُرى ولا يُلمس ولا ينطق وإن كان »وسع كرسيه السموات والأرض وهو على كل شيء قدير«.
أما وقد جاءت لحظة الحقيقة واضطربت السماء التي تظلل الأرض والبحار والكائنات جميعاً، وتهاوت الخرافات وحكايات الجن والتنين والحيتان التي تبتلع الأقمار والشموس، مخلية الساحة للعلم وقوانين الطبيعة بحساباتها المذهلة في دقتها التي تتجاوز قدرات أحدث كومبيوتر أو حاسوب، فإن هؤلاء الذين فوّضوا أنفسهم أو فوّضتهم الأعراف والتقاليد وتفسيرات النص المقدس أن »يمثلوا« مَن لا يمثله غيره، وأن يتحدثوا باسم مَن لا مثيل له ولا شبيه ولا نائب ولا وكيل، قد تنازلوا عن ادعاء العاصمة وسارعوا إلى »النظارات« يضعونها على و جوههم ويتطلعون مثل العامة ليتفرجوا على المشهد النادر، بوصفه من »خارج النص«، ومجرد ظاهرة طبيعية، مرددين كلمة رسولية خالدة:»إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته..«.
* * *
لا مجال لأي كسوف عربياً.
فالكسوف يقع في المكتمل وللمكتمل، وليس لدينا بالتالي ما نخاف عليه!
على أن القنوات الفضائية تفتح للخيال وللتجارة مجالات جديدة لم تخطر في باب مخلوق من قبل. وتجربة الأمس ستثير خيال شركات الدعاية والاعلان بفتحها هذا المجال الخطير أمام احتمال الربح!
وهكذا فليس مستبعداً أن يحدث الكسوف التالي »برعاية« شركة كبرى لانتاج الصواريخ مثلاً، أو بعض الاحتكارات المنتجة للقنابل النووية.
فحفل شهوده أكثر من ملياري إنسان فرصة لا تعوّض لترويج البضائع والمنتجات، النافع منها وغير النافع، بدءاً بالنظارات الأقوى من الأشعة فوق البنفسجية، مروراً بالمكسرات والمسليات والمرطبات وأصناف الأكل السريع، وصولاً إلى مجسمات الكواكب والمدارات والمجرات والألعاب المقلدة لقانون الحركة التبادلية في ما بينها، وصولاً إلى الثياب الملائمة للكسوف، والموسيقى المناسبة، والمقاعد المريحة، وأشكال السيارات ومعدلات السرعة فيها، انتهاء بالشقق المفروضة للإيجار، فوق، والمضيفات الساحرات، اللواتي يتفوقن جمالاً على الحوريات أو الجواري وحور العين.
وربما تمّ استنساخ حيتان خاصة للفضاء، ومجاميع من التنين، والأفاعي الأسطورية الحجم، وأديرت معارك طاحنة، وأنتجت أفلام بلا حصر.
بل ربما وزعت شركات الدعاية والاعلان »سماوات مصغرة« فيها ما يماثل الأجرام السماوية، وتركتك تصطنع في بيتك، وكلما أخذ منك الضجر مأخذه، كسوفاً خاصاً، فتستولد الليل من النهار والنهار من الليل. والشمس من النجوم ومن الشمس القمر، محتفظاً لنفسك بدور الديك…
أما ذلك »الخاتم الألماسي« فقد أثار حفيظة النساء فالتفتن إلى أزواجهن بغيظ، ورمين في وجوههم خواتم الزواج التي كانت غالية حتى تلك اللحظة فانكشف هزالها أمام »خاتم الخطوبة« بين الشمس والقمر.
استدراك: لا مجال هنا أيضاً للكسوف، فالرجال يعيشون في ظله خارج البيوت، وداخلها، أما النساء فيدعين أنهن صناعه بينما هنّ بين ضحاياه.
في لبنان: وحده الخاتم الماسي سيبقى في الذهن باعتباره »ثمرة الكسوف«… ولعل بين النساء من ستدعي غدا أن »القمر« قد رماها به من فوق رأس زوجها الذي سيكون سعيدا، في هذه الحالة، بأنه آخر مَن يعلم!
العيون التي لا ترانا لأننا فيها.
ليس للحب عمر ليقاس بالأيام والشهور والسنين. الحب هو العمر.
سنشعل شمعة »لعمرنا« غداً، لعله يرانا آتين من حيث تركنا في قلب الوعد والبُعد والبرد مثقلين بالشوق والخوف على الشوق، قابعين خلف ليل الصمت نداري حبنا من حمى اللوم والعتاب والخشية على شعاع الأمل من الانكسار في وهدة الندم.
الأمس بعيد، والغد بعيد، وحبنا يراوح بين البُعدين فلا يهدأ ولا يرتاح، بل هو يأخذ من نفسه ما يبني به جسراً، ثم ينال منه الضعف فيستكين مغضباً، قبل أن يغتسل بماء العيون فيعود إلينا ويستعيدنا ونستأنف السباحة في بحر القلق بحثاً عن الضفاف المسحورة والمحفوظة لمن حملها في قلبه دائماً فلم يضيّعها ولا هو تاه عنها.
يأخذنا إليك العيد.
يجيء منك العيد.
هيا فلنحتفل بعمرنا، ولننثر الحب مشاعاً كعطر الورد، كابتسامات الياسمين، كنور اللثغة الخضراء في العيون التي لا ترانا لأننا فيها.
تهويمات
هتفت إليه من قلب الكسوف: مثلهما نحن، محكومان بألا نتلاقى إلا مرة كل مئة عام، وفي الوهم وليس خارجه… كل الناس يستمتعون به ويتخذانه مادة لحديث الأيام، بينما يعاني واحدنا من برد الانطفاء ويذوب الثاني في نار احتراقه الأبدي، ولا لقاء!
} كتب إليها من مهجره البعيد: »أمشي هنا في الطرقات التي سقطت أسماؤنا وأشياؤنا فيها، وحيداً أحاول استعادة الذي لا يعود. لا مجال لجمع ما تفرّق. كيف تجمع الظلال وأنت كلما اقتربت من ظل ألغيته فإن هو حضر ألغاك«؟!
} قالت وهي تتأمل المشهد الأسطوري للقاء المستحيل بين الظلمة والنور: أنظر! لقد قرض القمر تفاحة الشمس! أليست تذكّرك بتفاحة حواء؟! كل »مذكر« ضعيف أمام تفاحنا، حتى »قمركم«؟!
} كتبت في كراستها: »الحمد لله ان النجوم لم تظهر في عز النهار. لو تدلت النجوم عناقيد ضوء تغمز من البعيد، لكشفت العناوين المجهولة للعشاق الذين أغوتهم العتمة فسكنوها. لو سقطت العتمة لبهر الناس جمال حبيبي فحسدوني عليه. اللهم نجِّنا من شرّ الحسّاد، فالحسد بغض، ونحن بالحب نحيا..«.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
كلما هممت بعمل داهمتني صورة حبيبي تحرّضني أن أتقنه حتى يليق بي، بنا، بحبنا. وكلما دهمني الكسل أطلّ طيف حبيبي وفي عينيه شيء من اللوم، فأقبل التحدي واندفع محاولاً مرة أخرى أن أبدع، وغالباً ما أنجح حتى لا أخيّب أمل حبيبي. الحب يرفعك ويغنيك ويعزز موهبتك لكأنه يمنحك عقلاً ثانياً وألف إرادة أخرى.
طلال سلمان