أوباما والتاريخ: بين «المحرقة» و«مؤتمر بال»
من غرائب هذا العصر ان الاسرائيليين يبتدعون لأنفسهم، ثم يفرضون على العالم، تاريخاً يبدأ قبل التاريخ، بل هو خارجه تماماً، ليبرروا تزويرهم حقائق التاريخ والجغرافيا، أي الأرض وأهلها.
أما العرب فينسحبون من تاريخهم الذي يرونه عبئا على حاضرهم، اذ يشعرهم بالصغارة، كما انهم يرون فيه تهديداً لمستقبلهم الذي يخافونه فيهربون من أثقاله ليرموا أنفسهم في هاوية الاقوام الطارئة الآتية من المجهول والذاهبة إلى العدم.
ولقد عاش هؤلاء العرب نشوة لحظة قدرية وهم يستمعون الى الرئيس الاميركي باراك أوباما، يستحضر، امامهم في جامعة القاهرة، بعض محطات الانجاز العبقري في ماضيهم، حيث كانوا صناعا للتاريخ وليسوا طارئين عليه.
لكن النشوة سرعان ما تبخرت مع انصراف الرئيس الضيف الذي خاطبهم من خارج حاضرهم، في حين انه خاطب الاسرائيليين من قلب مستقبلهم الذي يرتكز على التاريخ المزور الذي ابتدعوه للتعويض عن اضطهادهم في الغرب الأوروبي (المانيا النازية أساسا)… وهكذا، فقد كاد باراك حسين أوباما يقنع العرب ـ بشهادة نسبه الملتبس ـ بأن من حق هؤلاء الهاربين من «محرقة» النازية ان يأخذوا منهم بعض أرضهم في فلسطين ليقيموا فوقها دولتهم اليهودية، بعد طرد الفلسطينيين منها بالمجازر الجماعية ونسف البيوت في المدن والقرى وتهجير أهلها في ديار الشتات.
نسي العرب او تناسوا، مجاملة للضيف الكبير، ان المشروع الصهيوني لاقامة دولة اسرائيل فوق أرض فلسطين وعلى حساب شعبها، سابق على «المحرقة» النازية بنصف قرن او يزيد (حتى لا ننسى مؤتمر بال)، كما ان «وعد بلفور»، الذي تعهد فيه الاحتلال البريطاني «بمنح» اليهود فلسطين، سابق على «المحرقة» بربع قرن او يزيد.
قاتل الله النسيان! نتيجة ضعف الذاكرة، واحتقار التاريخ، وامتهان كرامة الأرض، وتجاهل قيمة الانسان، بات العرب أقواما طارئة، بلا هوية، جاءوا من لامكان، لا يستحقون الحياة في نعيم القرن الحادي والعشرين، وهم في طريقهم الى الانقراض او الرضا بأن يكونوا عبيدا للقادر على ابتداع الدول على أرض الآخرين، وحمايتها بقوته كما بضعفهم.
ولقد أظهر الانبهار بشخص باراك أوباما، كما بخطابه التلفيقي الذي شارك في وضعه حوالى اربعين خبيرا ودبلوماسيا وسياسيا وأكاديميا، كم يحتقر العرب تاريخهم، ومدى استعدادهم لانكار اصولهم وانسابهم، وامتهانهم الجغرافيا وابتداعهم الاسباب لانقسامات وهمية تمهد لاقامة الحدود والحواجز بين الأب وابنه، وبين الشقيق وشقيقه، سرعان ما تتفجر دماء مهدورة قبل ان تصير ذريعة للعدو تمكنه من ادعاء ملكية ارضنا التي حفظها أجدادنا، بجثامينهم شهداء من اجلها!
لقد أضعنا فلسطين حين ضعنا عن هويتنا، حين سخفنا لغتنا وقررنا انها عاقر، حين استعرنا لغات الشعوب الأخرى التي ليس بينها مشترك لا في التاريخ ولا في الجغرافيا، لا في الوجدان ولا في المصلحة، والأهم حين لم نحفظ كرامة أرضنا التي حفظتنا وأعطتنا كرامة الموقع في التاريخ.
ها قد عاد أوباما من حيث أتى… وبقي لنا نتنياهو. أما «نحن» فقد عدنا الى ما كنا فيه: نتنافس على من يلغي نفسه قبل الآخر، ونتسابق الى من يهاجر الى حيث لا هوية ولا أرض ولا تاريخ، فنرتاح ونريح.
نزار الحر يطلق ديوانه تعويضاً عن خرس الإذاعة
من زمان سقط «الراديو» من الذاكرة. لم تعد الاذاعة هي المصدر الأهم، ان لم يكن الوحيد للأخبار والتحليلات السياسية في الفترة الفاصلة بين صدور صحف اليوم وصحف الغد، كما انها لم تعد المنبر الثقافي عبر برامجها التي تقدم الجديد، شعرا ونثرا ونتاجا جديدا… ولا هي بقيت «الناقل» الأوسع انتشارا والصديق الحميم لمتذوقي الاغنية، كلمات ولحنا واداء يأخذ الى نشوة الطرب.
صارت «الاذاعة» ومعها «الراديو» من الماضي. وصار «خزينها» ثروة مضيعة، يحاول بعض «السمّيعة» ان يجمعوا ما تيسر منها، في حين اعاد بعض كبار مطربي الماضي ومطرباته تسجيل ما انشدوه في الاذاعة للتلفزيون الآن، ولأشرطة الفيديو وما استجد من وسائط السمعيات والبصريات، التي يمكن ان ترافقك حيثما كنت، ولا تتطلب «مساحة» او اجهزة معقدة.
ومن زمان، كانت الاذاعة اللبنانية بين اهم المحطات العربية، يتلاقى فيها وعبر تسجيلاتها عمالقة الشعر والغناء، بل ان بعض هؤلاء كانوا بين «موظفيها» او المنتجين لحسابها… ولطالما ضمت ادارتها ولجان الاستماع فيها، عددا من كبار الشعراء والأدباء والكتاب، فضلا عن بعض كبار الملحنين، يساعدون في امتحان المطربين والمطربات، ويقرون او يرفضون النصوص المقدمة، حرصا على المستوى، خصوصا ان الشفاعات ووساطات النافذين لا يمكنها فرض الطرب بالقوة على الجمهور الذي لن يكلفه تبديل المحطة الا حركة من بعض أصابع يمناه.
عادت «الاذاعة» ومنجزاتها في بيروت الى الذاكرة مع قراءة الديوان الجديد ـ القديم للشاعر نزار الحر الذي أمضى اكثر من نصف قرن في الاذاعة يعطيها من دفق نتاجه شعرا فصيحا، غالبا، وبالعامية أحيانا، فيلحنه بعض كبار الملحنين ليؤديه بعض من صاروا بين كبار المطربين والمطربات… وهو قد جمع في ديوانه «باسم الحب والوطن» مختارات من شعره المغنى، كما من قصائده في الوطن وأناشيد المقاومة بصيغها المتعددة، وان ظل التحرير هدفها الأسمى، ولا سيما انه مغسول بدماء الشهداء المطهرين.
أما ديوانه الجديد المعد للنشر، فقد كرسه جميعاً للحب وحده بلا شريك، وأعطته الليالي المعطرة اسمه «ألف ليلة حب»… وبهذا فرض على منافسيه جميعاً ان يأتوا بقصائد عن ليال تزيد على الألف. اما العشيقات فخارج الحساب.
ونزار الحر الذي يرى فيه الدكتور ابراهيم بيضون «أحد شهود الزمن الجميل»، وُلد ونشأ في بيروت، لكنه حمل في وجدانه بلدته «جباع» الجنوبية بتراث الشعراء والفقهاء والشيوخ الأتقياء في جبل عامل، وإن كانت الكلية العاملية قد صقلت موهبته وسهلت الاعتراف به شاعرا.
وربما كان نزار الحر احد أغزر الشعراء في نتاجه المغنى، وهو قد عرف الأخطل الصغير، بشارة الخوري، ونسج على منواله وسرق بعض ديباجته، الى ان اكتشف اسلوبه الخاص فاستقل عنهـ، وإن ظلت آثار التلمذة واضحة، سواء في شعره او في زجله.
ولأن نزار الحر عاشق دائم، فلقد أمده العشق بكثير من شعره الذي تحتل المرأة مكانتها المميزة فيه… ثم إنه تأثر بكبار الصوفيين الذين عزز التصوف شاعريتهم، فجرب حظه في هذا المجال ايضا، ونظم شعراً لحنه كبار وغناه كبار من أهل الصوت الجميل:
«إني بذنبي جئت معترفا/ هب لي جميل العفو عن ذنبي/ ما ذنب من يسعى اليك إذا/ تاهت خطى الساعي عن الدرب».
ربما لهذا أيضا جرب فأتقن نظم الموشحات متبعا خطى الاقدمين.
وعبر استعراض لقصائده المغناة، تستوقفك اسماء مطربين ومطربات كانوا في بداية رحلتهم مع الكلمة والنغم فأعانهم، عبر وجوده في الاذاعة، كما بشعره. وبينهم على سبيل المثال لا الحصر، الكبار: وديع الصافي، نصري شمس الدين، سعاد محمد، نور الهدى، لور دكاش، صباح، زكية حمدان، نجاح سلام، نازك، راوية، وداد، نجيب السراج، محمد جمال، صابر الصفح، سلوى القطريب، عيسى غندور، وغيرهم كثير.
أما الملحنون الذين كسوا شعره بالزبرجد والحرير، فكثيرون، من بينهم: وديع الصافي، سمير مجدي، خالد ابو النصر، سليم الحلو، حسن غندور، عفيف رضوان، حليم الرومي، توفيق الباشا، فريد غصن، سهيل عرفه، مارون سالم.
نزار الحر الموظف في التقاعد الآن، كما الاذاعة.
اما نزار الحر الشاعر، العاشق، الصوفي، الذي غنى شعره بعض كبار المطربين والمطربات، فما زال يواصل عطاءه مكرساً قسما غير يسير منه للقضية الوطنية… فالجنوب بعض الشعر ايضا، والمقاومة بوصفها الابداع العظيم في تحرير الارض والانسان، هي الديوان الأخطر للشعر والحب معاً… لذا، يحمل ديوانه ما يؤكد الترابط: «باسم الحب والوطن».
حكاية/ قصيدة ناقصة في امرأة ليست كالنساء!
وقفت امام الشاعر وقد اختلط في نظرتها التحدي مع الغواية مع الغرور والتباهي بجمالها الباهر. قالت بلهجة فيها مع نبرة الامر شيء من الدلع، وهي تحيل بصرها فلا ترى النساء المتكأكئات، بعضهن على بعض، يتهامسن عن «بجاحتها» بشيء من الغضب المطعّم بالحسد:
ـ ها أنا أمامك، امرأة ليست كالنساء! أسمعني شعرك الذي تدعي ان أحداً غيرك لا يبلغ فيه الذروة رقة في الاحساس. هيا، تشجع! افترض انك تغازلني! قل ولا تتهيب، فليس هنا من يتذوق الشعر غيري. أليس الشعر والجمال توأمين متلاصقين؟!
أحس الشاعر انها أخذته على حين غرة. بل لقد شعر بشيء من الحرج يغلب على احساسه بالتحدي! أمثله، بكل تاريخه ودواوينه التي تنفد فور صدورها، يخضع لامتحان؟! من حقها ان تتباهى بجمالها، لكن ان تحرجه بهذا التحدي وامام هذا الجمع، وفيه جميلات كثيرات، وصديقات متذوقات، واصدقاء عمر يحفظون قصائده غيبا؟! انها وقحة… لكنها فاتنة! ان ذكاءها مستفز بقدر جمالها وأكثر، وها هو عالق بين الذروتين!
استذكر صورها في ذهنه: هي امرأة الصيف وهي امرأة الشتاء، وهي امرأة بين الفصلين. هي امرأة كل الرجال ولا رجل! امرأة، تطيل الليل وتستأخر الفجر فتنام ملء جفونها، بينما يُضني السهاد عشاقها المحاصَرين بيأسهم من الوصول اليها. هي امرأة الشرق بسحره، وهي امرأة الغرب أناقة. حين تحضر تصادر الوقت وتختصر الكل فيها. ساحة الرقص لها حتى تخليها فتأمر من تختار ان تنهض إلى الحلبة بعدها. المغني لها، هي من تفرض عليه، لكن ذوقها مرهف واختياراتها مُنشية. كل الرجال لها. هي تعرف الرجل منذ المصافحة الأولى فتقرر كم تعطيه من اهتمامها، وأحيانا لتمنعه من ان يذهب الى من جاء بسببها. وهي من توزع الأدوار. هي من تمن على الساهرات فتعترف ببعضهن وتتجاهل أخريات. تأمر فتطاع: هذه رقصتكِ! هذا رجلك! هذه اغنيتك وأغنية من جعلك قصيدته الأخيرة!
كان الشاعر الغارق في حيرته، يحاول استجماع شجاعته وهو يفكر في ما يعرفه عنها: انها تسعى الى رجل كل من الساهرات فتسحبه إلى ما قبل السرير بخطوتين، ثم ترميه لمن كانت معه فترفضه، وذا هو من النار في نارين: الخيبة والحنق من خفته.
نظر الشاعر إلى رجلها. لم يكن في حاجة إلى أن يفكر طويلا فيه: انه متواطئ معها! لا يمكن ان يكون بارداً الى هذا الحد. وواضح انه ليس بهلولا، فهو يعرفها كما لا يعرفها غيره، يتابع تصرفاتها وعلى شفتيه طيف ابتسامة وفي عينيه ثعلبان يتناومان. لكأنه يستمتع، اكثر منها، بإذلال الرجال. لقد تخلص من شعوره بالغيرة. صار شريكا لها، يستمتع بان يراها تمشي فوق غرائز الرجال، تذلهم، تنتزعهم من نسائهم ثم ترميهم، فتلمع عيناه بنظرة رضا. كأنه شريكها في الانتصار عليهم. لا أحد يستطيع ان يرفع اليه بصره بالسؤال، او بالشماتة. الكل ينطوي على نفسه يلعق جراحه.
كانت قد تشاغلت عنه بإدارة الرقص وتركيب الثنائيات، والمشاغبة على الأزواج المصفّحين بعشقهم… وحين انتبهت اليه عادت تسأله: هل انت مستعد؟ انطلق يغني الأبيات التي قالها فيها وقد تفجرت التنهدات آهات، حتى أبكاها فجاءت اليه ببهائها جميعا والدمع في عينيها.
قالت: الآن صرت اجمل.
قال وهو ينهض لينصرف: لست البهلول، سيدتي…
وداعا، سأذهب الى من لا تكتمل قصيدتي إلا بها!
مــن أقــوال نســمة
قــال لــي «نــسمة» الــذي لم تعـرف مهنـة الا الحب:
ـ أخوض كل صباح امتحان تجديد الذات لأؤكد لحبيبي أنني احبه اكثر من أمس.
لكن حبيبي يسبقني دائما فأراه في صورة جديدة، او أجده يحمل لي ما يجمّلني، ويقول: اريد لعيني مزيدا من الاشعاع. اريد ان يراك الآخرون فيهما فأصير الأبهى بين العشاق.