»دار الفلكْ صار الجحاش ملكْ«
في حمأة الحرب الأهلية في لبنان وقعت »جريمة شرف« في بعض ضواحي بيروت ذهب ضحيتها أحد الدبلوماسيين العرب العاملين في سفارة بلاده بلبنان.
اهتز اللبنانيون لمقتل »ضيفهم« الذي رغب في مصاهرتهم من دون مراعاة الأعراف العشائرية لعائلة »العروس«، لكن المدافع عن شرفه الى حد القتل لم يتردد لحظة في الاعتراف بجريمته مستهجناً أن يثور الرأي العام ضده لا ضد ذلك الدبلوماسي الذي لم يحترم »أصول الضيافة« وموجبات المصاهرة.
وقع خيار »العشيرة« على المحامي الكبير الأستاذ نصري المعلوف ليتولى الدفاع عن القاتل.. ولم يكن سهلاً عليه أن يرفض، مع تقديره لصعوبة المهمة.
في المحكمة، فاجأ »الساحر« نصري المعلوف القضاة وجهة الادعاء وموكله ذاته والجمهور بالمدخل الفذ الذي اختاره استهلالاً لمرافعته، إذ قال:
» يعرف موكلي، سادتي القضاة، أن الجهل بالقانون لا يعفي المجرم من مسؤوليته عن جرمه. وموكلي يعرف القانون، ويعرف ان القتل جريمة قد تصل عقوبتها، وفقاً لمنطوق القانون، إلى حد الإعدام. لكن موكلي كان يرى، في كل يوم، مشاهد تؤكد له أن تغييرا ما قد طرأ على ما يعرفه، فلقد رأى، مثلاً، شبانا يوجهون مدفعا من قلب الشارع ليدكوا منزلاً على سكانه، كما رأى مقاتلين يذبحون رجالاً أو نساءً على الأرصفة، ورأى من كانوا جنودا يهاجم بعضهم بعضاً بمختلف أنواع الأسلحة، ورأى من »يقنِّص« المارة بمدفع مضاد للطائرات، ورأى من يزرع عبوات ناسفة في سيارة ثم يفجرها عن بُعد فيتساقط القتلى والجرحى بالعشرات.
»الأخطر أن موكلي هذا كان يرى ان هذه الجرائم جميعا تقع على مرأى ومسمع من قوى الأمن والناس، ثم تمر ليس فقط من دون عقاب، بل وأيضاً من دون أن يعتقل أحد، أو يحاكم أحد، أو يسجن أحد، فقال في نفسه: لا بد ان قانون العقوبات قد تم تعديله، فلم يعد فيه ذكر لجرائم القتل، ولم يعد ثمة حساب أو عقاب…«.
ذلك كان مع بدايات الحرب الأهلية التي كانت أولى ضحاياها: الدولة ومؤسساتها جميعا، السياسية منها والقضائية والأمنية الخ…
أما مع نهاية الحرب/ الحروب الأهلية/ اللبنانية/ العربية/ الدولية فقد وقع ما هو أغرب وأعجب من »التعديل« الذي افترض موكل نصري المعلوف أنه قد طرأ على قانون العقوبات:
لم يقتصر الأمر على إصدار قانون العفو عن الجرائم والمجازر المرتكبة خلال دهر الحرب، وما كان أعظمها هولاً وبشاعة، خصوصا انها لم تستثن أحدا: النساء، الأطفال، الشيوخ، العجزة إضافة إلى »شباب الورد«، ومن الطوائف جميعا.
بل الأخطر أن كثيرا من قتلة الشوارع والقناصين بالمدافع ومفجري العبوات الناسفة ومدمري البيوت بالصواريخ قد دخلوا، على موجة »العفو«، ومن أجل ترسيخ »السلم الأهلي«، إلى العديد من مواقع الحكم والقرار، داخل الأجهزة جميعا، تنفيذية وتشريعية وأمنية، ووصولاً الى جوار دار العدل!
تذرو الحرب الأسرار فتنشرها وتعممها، فكل طرف حريص على فضح خصمه، وهكذا يتاح للضحايا ان يعرفوا قتلتهم، ولو بعد الوفاة!
ولأنها »الحرب الأهلية« فلقد حفلت بكل فظاعات الدنيا: من هتك أعراض، إلى اغتصاب القاصرات، إلى انتشار أصناف الدعارة والشذوذ الجنسي، إلى التمثيل »بالأعداء«، أحياءً وأمواتاً، إلى تعاطي المخدرات ثم اتخاذها عذراً أو تبريراً للجريمة…
ولأنه »السلم الأهلي« القائم على تسوية سياسية هشة، فقد كان لا بد من أن يكون بين رموز السلطة التي ستقوم باسمه أو بين دعائمها بعض الأشرس من القتلة أو الآمرين بالقتل، وبعض الأشهر أو الأكثر نجاحاً أو الأعظم ممارسة أو الأقوى حماية لأصناف جرائم الاغتصاب والاتجار بالمخدرات أو بالقاصرات أو بالصبيان الخ.
كان الناس يسمعون الأسماء »النافذة« الآن، والتي صارت تسبقها ألقاب »المعالي« و»السعادة«، أو تتوسطها البكوية، أو تتوّجها ألقاب »علمية«، فيطأطئون رؤوسهم صاغرين.. ليس للضحايا حق الاعتراض، ثم إن المسافة قصيرة بين الضحية والجاني، فالجاني كان ضحية، أو أن الضحية صار جانيا، ذلك أن لوثة الدم والخطأ قد أصابت الجميع.
دخل دست الحكم من كانوا في نظر الناس »سفاحين«.
وبذريعة الاستيعاب داخل الأجهزة الأمنية قتلة و»حرامية« وسفلة تحفل سجلاتهم بما يحرمهم من الحقوق المدنية، هذا إذا كان لا بد من العفو قضائياً عنهم، لكي يمنحوا فرصة للتوبة.
كان المجتمع يحاول، في ظل الجهود لإعادة بناء الدولة، أن يستعيد تماسكه، وأن يرمم منظومة قيمه أو ما تبقّى منها.
وكان ضرورياً أن يعاد الاعتبار إلى القانون،
والأهم، أن يعاد الاعتبار إلى الإنسان: حياته، أرزاقه، حقوقه كمواطن قياساً الى »السوبرمان« الذي انتصر عليه مرتين، الأولى في الحرب والثانية في ظل السلم الأهلي وباسمه.
في ظل اهتزاز القيم، واختلال مفهوم القانون، وتداعي الأخلاق، وسيادة مفاهيم جديدة وتراتبيات جديدة مناقضة لكل ما ألفه الناس وقبلوه، كان الجيل الجديد ينشأ وفي ذهنه ذلك المطلع البديع لمرافعة نصري المعلوف!
صار مرتكب المجازر الجماعية أو السفاح مسؤولاً عن أمن الأكثر خوفاً من الناس، وصار الآتي من العتمة مكلفا بالنور، والمتهم بالسرقات الأعظم في تاريخ البلد مكرماً بألقاب العزة، والمزوّرة شهاداته أستاذاً متفرغاً في الجامعة، وقاتل الأطفال مدرساً لهم يقبض راتبه من الدولة!
أما القيّمون على أوكار الدعارة وتجاراتها و»الأكبر« بين مروّجي المخدرات ومهربيها، فقد ضاعفوا ثرواتهم بالمضاربة على الليرة، ثم ابتنوا القصور بالمال الحرام وغدوا بين الوجهاء، بل وصار بعضهم نوابا، و»اشتروا« الأجمل من الصبايا، وصاهروا بعض أعرق العائلات، تطبيقاً للمثل القائل: »دار الفلك، صار الجحاش ملك«.
لا يعني هذا أبدا ان المجتمع فاسد من رأسه حتى أخمص قدميه.
فبرغم كل الأهوال التي عاشها اللبنانيون فما زالت كثرتهم تحاول مواصلة حياتها، مرمّمة ما تداعى من منظومة قيمها، متلمسة طريق العودة إلى الله، من دون أن تسقط في جب التطرف الطائفي أو المذهبي الذي يتخذ من الشعار الديني وسيلة لإبقاء جمر الحرب الأهلية تحت الرماد.
… وهذا التطرف المتلطي بالشعار الديني ملوّث بدم الأبرياء أيضا، فما أكثر الجرائم التي ارتُكبت باسم الخروج على الشريعة، أو إلزام »المؤمنين« بتطبيقها كما يرى صاحب الأمر وليس كما يقول الدين.
كذلك فإن هذا التطرف المتلطي بالشعار الديني قد أشاع مناخاً من الدعارة المموّهة بشرعية مدَّعاة، تحت تسميات مختلفة من »التمتع« إلى »العرفي« إلى »المسيار« ومن »المساكنة« إلى إنجاب الأولاد بغير زواج الخ…
كيف تنشأ أجيالنا الجديدة، في ظل مثل هذا المناخ؟!
وكيف لا تقع الجرائم، كل يوم، وفي كل مكان، ويطلع أصناف من الوحوش البشرية، كقتلة الأطفال بعد اغتصابهم، أو قتلة بناتهم قاصرات أو بالغات بعد الاعتداء عليهن.
إن المجتمع مريض.
إن المجتمع في حالة من التداعي بعد، وهو لما يستعد عافيته، بعد حرب هتكت مرتكزاته وقيمه جميعاً، وألحقت تشوهات خطيرة بالمفاهيم الدينية، فأحلت الطقوس وبعضها مبتدع محل الأصول والمبادئ ومكارم الأخلاق.
إن أصنافاً غير مألوفة من الجرائم تُرتكب في مختلف أنحاء لبنان، لأن »المجرمين« الآتين من مناخ الحرب ومن إفرازاتها يختلفون عن أولئك الذين يمكن أن ينبتهم مجتمع السلم والاستقرار وسيادة القانون باعتباره مرجع الجميع وضمانتهم.
ان الأمر أخطر من أن يترك علاجه للمحاكم وقانون العقوبات.
إن المجتمع مهدد. والعلاج الفردي، بالعقاب الفردي، لا يحل المشكلة، بدليل أن شنق بعض المجرمين لم يردع من جاء بعدهم.
العقوبة ضرورية، ولكنها ليست وحدها العلاج.
العلاج أكثر تعقيداً بكثير.
فلا الجريمة فردية (حتى لو ارتكبها فرد) ولا العقوبة الفردية تشكل علاجاً أو ضمانة للمجتمع في غده.
الجريمة هي خلاصة مكثفة لما تركته الحرب في نفوسنا وفي واقعنا.
وعلاجها قضية وطنية في مستوى بناء السلم الأهلي.
والسؤال: مَن يتصدى لمثل هذه القضية التي تكاد تكون المدخل الأساسي لإعادة بناء المجتمع، ومن ثم الدولة؟!
فوق شرفة التمني
مفرداً، على شرفة التمني، وقف ينظر فلا يرى للجمع وجهاً، ويذب عنه ابتسامات المجاملة ومصافحات توكيد الحضور.
على شفا الشفق علق بصره، حيث تتداخل الزرقتان مع العتمة فإذا الأرض والسماء والبحر ملعب فسيح للأخيلة المجنحة.
كانت الشرفة أشبه بسقف للمدينة التي يفضح سمو الارتفاع بشاعة مبناها بعدما اجتُثت الخضرة من جنباتها ومن قلبها الذي طُمر بالإسمنت وأكوام النفايات والسيارات التي تتزاحم ولا تصل.
أخذه إغراء الطيران بعيدا عن الزحافات والزاحفين، وفكر: لو كان بلا جسد لأمكنه أن يعيش في النقطة المبهمة للاتصال المستحيل بين الثابت والمتحول والذي يخرق بهيوليته منطق الثبات والتحول… كيف يصير الفضاء امتلاءً ويضج الهباء بفرح الولادات المتوالية متناغمة مع الموج الذي يرمي خصبه مشاعاً.
شده العطر فسحب عينيه من متاهة تلاقي المبهمات، والتفت يتأملها وهي تخترق الغروب الشاحب تتقدمها عيناها ولهفة معلنة إلى شريك حوار عن الغد وسط هؤلاء الغارقين في أمس الذكريات والتأوه على ما لن يستعاد.
لم تترك له فرصة العثور على جواب لحيرته: هل تدانت متدلية من الزرقة العليا، أم تراها حورية تعلقت بحبال التلاقي بين الزرقتين فوق تلك الشرفة، وجاءت تستكشف عالم هؤلاء الذين صاغوا منها وحولها حكايات السفر والمغامرات البهيجة.
سقطت الغربة في العتمة، وصار للجمع موضوع وأرض لقاء، وانداحت الشرفة فسيحة تتسع للاحتمال.
لا مجال للهمس على مثل هذا الارتفاع الشاهق.
عبرت سحابة رقيقة وغمزت لهما فامتطياها، تاركين للهواء تحديد الوجهة.
هل يكفي الوقت لاكتمال الأسطورة الجديدة التي سيعود بها البحارة غداً من أسفارهم في ما بين الزرقتين؟
شرفة التمني مزدحمة بالفراشات التي تشدها الغواية إلى تجربة السباحة في عطر المصادفة المقصودة.
تكون المرأة وتظل واحدة مهما تزايد عدد النساء.
لماذا لا يغيب الذي لا يحضر؟!
انشقّ البروز الأحمر في الوجه الطفولي العريض، وانسرب الصوت عذباً يشوبه شيء من التهيّب، بينما العازف الرقيق يحاول عبر عوده العتيق أن يقدم التغطية والإسناد فيمازج النغم الغناء حتى التوحد.
كان على الساهرين الذين يتعاملون مع الليل بآذانهم أن يصبروا في انتظار انكسار جو الغربة.
الانكسار؟! كثير هذا المحتشد في سهرة واحدة.
على أن أحدا لم يكن يريد أن يباشر الاعتراف، وكان كلٌ يحاول أن تعفيه المختارات من الأغاني عن قول ما لا يقال للغرباء.
قال جاري: »تعرف عمق الجراح من خلال الأغنية المطلوبة..«.
تنهدت جارة كانت تسمع بعينيها وأطلقت آهاً ملتهبة تلامس حد البكاء.
أنّت أوتار العود: هل نسيتم الفرح؟! حتى الحب لم تذكروه إلا من خلال تأوهات الهجر.
كيف السبيل لأن يجرف البحر الذي نسمع صدى هدير أمواجه ولا نراه، هذه الغربة الكثيفة التي تعتقل الطرب، وتقيد الأيدي فلا تلوح بالنشوة أو تصفق لضبط الإيقاع، وتحجر على العيون فتأخذها الى فضول قد يذب عنها النعاس الداهم؟!
يتلوى الليل بين عقارب الساعة قبل أن يسقط مضرجاً بدمائه.
تصرخ تلك التي وعدت نفسها بأن تخرج من الزمن ومن دوامة الشجن: لماذا لا يغيب الذي لا يحضر؟! لماذا يحضر الذي لا يغيب؟! لماذا يتزاوج الغياب والحضور فنسقط سهواً لأننا نسينا أن نجيء ولم يسجل أحد غيابنا؟!
ويهتف البروز الأحمر في الوجه الطفولي العريض: الله، الله! كمان يا ست كمان!
يتهاوى الطرب على الساهرين، يصعد البحر إلى حيث ينام الليل، وينفض السامر، فلا يظل مع الصدى إلا الآهات المكسورة.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
عندما أقول لحبيبتي: أنت كل النساء، تغضب.. فهي »المفرد« الذي لا جمع له… أما عندما تقول لي حبيبتي: أنت رجلي، فإني أحس انني الرجال جميعاً، ففي مفرد حبيبي ومفردي تجتمع الدنيا بكل نسائها والرجال.